كتاب في جلسة

كتاب في جلسة

 

الحياة قصيرة جداً، لذا كان من العقل أن يحرص فيها المرء أن يأتي بأفضل الأعمال التي ترفع درجته عند ربه سبحانه وتعالى، وتكون له ذخراً يوم الدين، ومن أجلِّ هذه الأعمال طلب العلم الذي قال فيه تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}(المجادلة:11)، فإذن قد رفع الله أهله درجات عاليات يترفع بها عن السفاسف، وينتصر بها على المغريات في زمن تكالبت فيه الفتن، وتداخلت فيه الظلم، وتزاحمت فيه الخرافات والبدع؛ حتى عُبِدَ غير الله، أو عُبِدَ الله على غير ما شرع، وما أشد الحاجة إلى نور العلم، وأعظم ضرورة فتح القلوب لأشعته الصافية النقية.

والعلم هو السبيل إلى الجنة كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة)) رواه مسلم (4867)، ومن أعظم طرق العلم القراءة، نعم القراءة التي هي طريق العلم، وبوابة المعرفة، وصحبة الكتاب الصالح تعني صحبة من يقرب إلى رضا مولاك، ويحفظ من موارد الهلاك، وفيٌّ لا يخونك، صبور لا يملَّك، غني لا يبخل عليك، تأتيه وقتما شئت فلا يردك، وتتركه إذا ألمك أمر فلا يصدك، لا تخسر إذا جالسته بل تربح، ولا تحزن على وقت مضى معه بل تفرح.

إنه سلم الوصول إلى كل مأمول، وهو السلاح القوي، واللسان المتكلم، والقلب النابض.

هو الذي عشقه أولوا الألباب فطارت ألبابهم .. إنه الكتاب، خير الصحاب، ومسهل الصعاب، وموصل العلم للطلاب قال ابن القيم رحمه الله: "وأما عُشَّاق العلم فأعظم شغفاً به، وعِشْقاً له؛ من كلِّ عاشقٍ بمعشوقه، وكثيرٌ منهم لا يَشْغَلُه عنه أجملُ صورةٍ من البشر" أ. هـ.1

و"مازال الألبَّاء في قراءة لأنهم يعلمون أن أول أمر جاء في القرآن "اقرأ"، "ففي نزول أوَّل آيةٍ في القرآن وهي قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}(العلق:1) من الدَّلالات والمعاني ما لا يمكن حصرُه، ويُفهم من قوله: (اقْرَأْ) وهو فعل أمر من (قَرَأ) الأمر الجازم الحازم بالقراءة، والحث على تعلمها وتعليمها"2.

وقد كانت الكتب عند أولي الأبصار أجمل من الحديقة الغناء، والنزهة على شاطئ الماء قال أبو نصر الميكالي: "تذاكرنا المنتزهات يوماً وابن دُرَيْد حاضر، فقال بعضُهم: أنزه الأماكن غُوطة دمشق، وقال آخرون: بل نهر الأُبلَّة، وقال آخرون: بل سُغْد سمرقند، وقال بعضُهم: نهروان بغداد، وقال بعضُهم: شِعب بوَّان، وقال بعضُهم: نوبهار بلخ، فقال (أي ابن دريد): هذه منتزهات العيون فأين أنتم عن متنزهات القلوب؟ قلنا: وما هي يا أبا بكر؟ قال: "عيون الأخبار" للقتبي، و"الزهرة" لابن داود، و"قلق المشتاق" لابن أبي طاهر، ثم أنشأ يقول:

 

ومَن تكُ نزهتَهُ قينةٌ        وكأسٌ تحثُّ وكـأس تُصَبْ

فنزهتُنا واستراحَتُنا          تلاقي العيون ودَرْس الكتبْ"3

وهنا فكرة يمكن تفعيلها ضمن أنشطة المسجد التي تقوم بها إدارة المسجد وهي: كتاب في جلسة (دراسة وتوضيح)، وتقوم هذه الفكرة على أساس إكمال كتاب واحد في جلسة واحدة، وكيفية هذه الطريقة تكون على النحو التالي:

– تحديد يوم في الشهر، أو كل أسبوعين؛ للاجتماع لهذا الشأن.

– يكون الوقت من بعد صلاة عصر ذلك اليوم، وقد تطول المدة إلى العشاء بحسب الكتاب.

– يفضل أن يكون الكتاب من التراث الذي جمع صاحبه بين الإلمام بالفائدة، واختصار العبارة.

– ويكون الكتاب صغيراً أو متوسطاً في الحجم بحيث يمكن إكماله خلال هذه الجلسة.

– يستضاف شيخ أو طالب علم متخصص في فن ذلك الكتاب لكي تكتمل الفائدة بفك غريب الألفاظ، أو إيضاح ما أبهم من العبارات عند الحاجة إلى ذلك.

– تكون الجلسة في المسجد، ولا يتغير المكان إلا لحاجة ملحة، وتكون القراءة بالمايكروفون الداخلي للمسجد إذا احتيج إلى ذلك.

– يتم الإعلان عن الجلسة مبكراً، وتوزع الإعلانات، وفيها اسم الكتاب، واسم الشيخ المستضاف.

– التنويع في العناوين المختارة؛ فحيناً يختار كتاب في العقيدة، وحيناً في الفقه، وحيناً في الرقائق، وحيناً في اللغة، وهكذا.

– توفير نسخ الكتاب الذي سيقرأ، وتوزيعها إن أمكن.

– تقييد أسماء الحاضرين في كل درس عند الانتهاء من الدرس، وذلك لأمور منها:

أ- معرفة عدد الحضور ومدى نجاح الفكرة.

ب- إعطاء الحاضرين إجازة في الكتاب من قبل الشيخ إن أمكن ذلك.

ج- في حالة تناقص العدد يسأل عن السبب فتعالج المشكلة، فقد تكون المشكلة في: المواصلات، فيمكن توفير المواصلات، ولو لفئة من الذي يحضرون إن احتاجوا إلى ذلك.

د- يمكن وضع أسئلة من الكتب المقروءة للحاضرين بعد عدة كتب، ويكرم الأوائل.

– وهنا تنبيه: فقد يطول الكتاب فيكون في جلستين، ولا إشكال في ذلك.

وبعد شيء من التوضيح لتطبيق الفكرة نأتي إلى الفوائد والثمرات التي يمكن بإذن الله تحصيلها من خلالها:

– أجر طلب العلم وفضله يكون إن شاء الله تعالى من خلال هذا الدرس، ولا يخفى في العلم من الفضائل والأجور.

– فضل حلق العلم والذكر، وهذه المجالس من النوع التي فيها الخير الكبير.

– التعرف على العلماء وطلاب العلم من خلال الاجتماع بهم والجلوس إليهم.

– عودة الأمة إلى تراثها الغني بالعلم والمعرفة، والذي قد أهمله الكثير إلا من رحم الله تعالى.

– إتمام الكثير من الكتب قراءة وتأملاً في زمن قلَّت فيه القراءة عند الصالحين – إلا من رحم الله – فضلاً عن غيرهم.

– تفعيل المسجد؛ فهذه الجلسة التي يحضرها الصالحون، ويتواجد فيها العلماء والمشايخ؛ تنشط المسجد وتعيد له حيويته.

– التأثير على رواد المسجد تأثيراً إيجابياً من خلال التعرف على الصالحين عموماً، وأهل العلم خصوصاً.

– التعرف على كتب السلف، ومؤلفيها من العلماء العاملين.

نسأل الله الكريم المنان أن يمنَّ على بالعلم والعمل، وأن يكتبنا مع المتقين الأبرار، وأن يغفر لنا ويرحمنا إنه ولي ذلك والقادر عليه.


 


1 روضة المحبين ونزهة المشتاقين (69)، لابن قيم الجوزية، دار النشر: دار الكتب العلمية – بيروت – 1412 – 1992.

2 انظر شواهد في الإعجاز القرآني: (ص/ 84) للأستاذ عودة أبو عودة.

3 معجم الأدباء (2/389) ياقوت الحموي (الموسوعة الشاملة الإصدار الثالث).