متى دعاء الاستخارة؟
الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، وديَّان يوم الدين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
تعرض للإنسان في بعض الأحيان أمور في حياته لا يستطيع تجاهها أن يعرف الوجهة الصحيحة لها حتى ولو كان من أذكياء الناس وعقلائهم، لأن البشر مهما بلغوا من العلم والعقل يبقون بشراً، ويبقى علمهم قاصراً.
لذا كان من حكمة وشمولية ديننا الإسلامي أن شرع للمسلم ما سماه بـصلاة الاستخارة وجعل فيها دعاءاً لطيفاً يرجع فيه المسلم إلى ربه العالم الخبير، مدبِّر الأمور، ومقدِّر الأقدار – سبحانه وتعالى -؛ فينطرح فيها بين يديه، ويدعوه بـ”دعاءالاستخارة”؛ ليخير الله – تعالى – لعبده ما فيه مصلحته ومنفعته فيما أهمَّه، ولذا قال العلماء: “ينبغي أن يكون المستخير خالي الذهن، غير عازم على أمر معين؛ فقوله ﷺ في الحديث: “إذا همَّ” يشير إلى أن الاستخارة تكون عند أول ما يرد على القلب، فيظهر له ببركة الصلاة والدعاء ما هو الخير، بخلاف ما إذا تمكن الأمر عنده، وقويت فيه عزيمته وإرادته؛ فإنه يصير إليه ميل وحب، فيخشى أن يخفى عنه الرشاد؛ لغلبة ميله إلى ما عزم عليه، ويحتمل أن يكون المراد بالهمِّ العزيمة؛ لأن الخاطر لا يثبت، فلا يستمر إلا على ما يقصد التصميم على فعله من غير ميل، وإلا لو استخار في كل خاطر لاستخار فيما لا يعبأ به، فتضيع عليه أوقاته…”1.
أما معنى الاستخارة فقد قال صاحب المحكم: “(استخار الله) طلب منه الخير، وقال صاحب النهاية: خار الله لك أي أعطاك الله ما هو خير لك…”2.
وأما الموطن الذي يكون فيه هذا الدعاء فمختلف فيه أهو قبل السلام أم بعده، أم أن الأمر فيه سعة، وقد أحببنا لهذا أن نطَّلع على أقوال أئمة الإسلام في هذه المسألة الفقهية، ثم نرى أقربها للحق والصواب؛ فندين الله – تعالى – به؛ ونعبده على علم وبصيرة.
ونبدأ بالاطلاع على حديث الاستخارة الذي ورد عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله ﷺ يعلِّمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: ((إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال عاجل أمري وآجله؛ فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمرشر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال في عاجل أمري وآجله؛ فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني، قال ويسمي حاجته))3، وجاء في رواية صحيحة أخرى للحديث: ((إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، وليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك…))4، وفي رواية ثالثة صحيحة أيضاً: ((إذا أراد احدكم أمراًفليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك …))5.
وبسبب هذه الروايات لدعاء الاستخارة فقد اختلف الفقهاء في محل قوله على أقوال:
القول الأول: وهو القول الذي عليه أكثر العلماء، وهو قول ” الحنفية، والمالكية، والشافعية،والحنابلة: يكون الدعاء عقب الصلاة…”6، وقد جاء في تحفة الأحوذي:”((ثم ليقل)) أي بعدالصلاة “7، وفي عون المعبود: ((وليقل)) أي بعد الصلاة ((اللهم أني أستخيرك))”8، ووُجِّه سؤال للشيخ ابن عثيمين – رحمه الله -: “يقول السائل: متى يكون دعاءالاستخارة هل هو قبل السلام أم بعده؟
فقال الشيخ: دعاء الاستخارة بعد السلام؛ لأن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم -أمر أن يصلي ركعتين، ثم يقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك إلى آخر الدعاء”9، وقال ابن جبرين – رحمه الله -: “الاستخارة بعد السلام؛ لأنه ﷺ قال: ((يصلي ركعتين ثم يدعو))، وهذا دليل على أن الدعاء متعقب للركعتين”10، وقال الشوكاني – رحمه الله -: ” قوله: ((ثم ليقل)) فيه أنه لا يضر تأخر دعاء الاستخارة عن الصلاة ما لم يطل الفصل، وأنه لا يضر الفصل بكلام آخر يسير خصوصاً إن كان من آداب الدعاء، لأنه أتى بثم المقتضية للتراخي”11.
القول الثاني: أن الدعاء قبل السلام، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – فقال: “ويكون دعاء الاستخارة قبل السلام”12، وأجازه “الشوبري وابن حجر من الشافعية، والعدوي من المالكية في أثناء الصلاة في السجود، أو بعد التشهد”13.
القول الثالث: وقد “قال به المذاهب الثلاثة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، تجوز بالدعاء فقط من غير صلاة، إذا تعذرت الاستخارة بالصلاة والدعاء معاً”14.
القول الرابع: ولم يصرح به غير المالكية، والشافعية، فقالوا: تجوز بالدعاء عقب أي صلاة كانت مع نيتها، وهو أولى، أو بغير نيتها كما في تحية المسجد، ولم يذكر ابن قدامة إلا الحالة الأولى، وهي الاستخارة بالصلاة والدعاء”15.
وبالعموم فإن المسألة واسعة في الكيفيات الثلاث التي وردت بهن الروايات المختلفة لهذه الصلاة، فيجوز أن تقول هذا الدعاء بعد الصلاة (صلاة الاستخارة) وهو الأفضل، ويجوز أن تدعو به في الصلاة نفسها، ويجوز أن تدعو به مجرداً دون أن تصلي ركعتين؛ لورود الدليل على كل هذه الحالات، والله – تعالى – أعلى وأعلم، والحمد لله رب العالمين.
1 الموسوعة الفقهية الكويتية (3/243).
2 تحفة الأحوذي (2/482).
3 رواه البخاري برقم (1162).
4 سنن أبي داود برقم (1538)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود بنفس الرقم.
5 أخرجه ابن حبان في صحيحه، وحسنه شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لابن حبان بنفس الرقم.
6 الموسوعة الفقهية الكويتية (3/245).
7 تحفة الأحوذي (2/482).
8 عون المعبود (4/278).
9 بتصرف يسير جداً من فتاوى نور على الدرب ابن عثيمين (19/49).
10 شرح عمدة الأحكام للجبرين (21/38).
11 نيل الأوطار (3/87).
12 الفتاوى الكبرى (5/331).
13 الموسوعة الفقهية الكويتية (3/246) بتصرف يسير.
14 الموسوعة الفقهية الكويتية (3/243).
15 الموسوعة الفقهية الكويتية (3/243).