وصايا مهمة من نبي الأمة
الحمد لله ولي الصالحين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين، وحجة على الخلائق أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فهذه وقفة يسيرة مع لفظة قصيرة؛ من جوامع كلمه ﷺ، وهي قاعدة جامعة، ووصية نافعة، وجهها نبي الأمة – عليه الصلاة والسلام – لحبر الأمة، وترجمان القرآن، وأحد علماء الصحابة، وهي كذلك وصايا لجميع الأمة؛ فعبد الله بن عباس – رضي الله عنهما -؛ قال: كنت خلف النبي ﷺ (أي على حمار) فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك … الحديث 1. فكانت أول وصية أوصاه بها أن قال له: احفظ الله!! أي حفظ حدود الله، وحقوقه، وأوامره، ونواهيه، ويكون ذلك: بالوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده فلا تتجاوز ولا تتعدى، فمن كان هذا حاله فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه فقال : هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (ق:32-33)، وفسر الحفيظ هاهنا بالحافظ لأوامر الله، وبالحافظ لذنوبه ليتوب منه2، وقوله: احفظ الله شرط، ولا بد للشرط من جواب، والجواب هنا هو: يحفظك؛ فإذا وجد الشرط تحقق جوابه، فقوله: يحفظك أي يحفظك الله في الدنيا من الآفات والمكروهات، وفي الآخرة من أنواع العقاب والدركات، وذلك أن الجزاء من جنس العمل، ونظير هذا في كتاب الله : وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ (سورة البقرة:40)، وقوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ (سورة البقرة:152)، وقوله تعالى: إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ (سورة محمد:7)، ولذا فمن حفظ حدود الله، وراعى حقوقه في صباه؛ فإنه يحفظ عند شيخوخته وكبره قال الحافظ ابن رجب – رحمه الله -: “ومن حفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعف قوته، ومتعه بسمعه، وبصره، وحوله، وقوته، وعقله”، ثم ذكر أن بعض العلماء كان قد جاوز المائة سنة وهو ممتع بقوته وعقله، فوثب يوماً وثبة شديدة، فعوتب في ذلك، فقال: “هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر”، وعكس ذلك أن بعض السلف أتى شيخاً يسأل الناس فقال: “إن هذا ضيع الله في صغره، فضيعه الله في كبره”3، بل ليس في حفظ الحافظ لأوامر الله في شيخوخته وكبره فحسب، بل يتعدى ذلك حفظ لذريته بعد موته كما قال تعالى: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا (سورة الكهف:82)، قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: “إنهما حفظا بصلاح أبيهما”، وقال سعيد بن المسيب لابنه: “لأزيدنّ في صلاتي من أجلك رجاء أن أحفظ فيك، ثم تلا هذه الآية وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا“، وقال عمر بن عبد العزيز- رحمه الله -: “ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله في عقبه، وعقب عقبه”، وقال ابن المنكدر – رحمه الله -: “إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده، وولد ولده، والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر”.
ومن عجيب حفظ الله لمن حفظ أوامره أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى؛ كما جرى لسفينة مولى النبي ﷺ حيث كُسر به المركب، وخرج إلى جزيرة، فرأى الأسد، فجعل يمشي معه حتى دله على الطريق، فلما أوقفه عليها جعل يهمهمُ كأنّه يودّعه، ثم رجع عنه، ورؤي إبراهيم بن أدهم نائماً في بستان وعنده حية في فمها طاقة نرجس، فما زالت تذب عنه حتى استيقظ” … والخلاصة: أن من حفظ أوامر الله، واجتنب نواهيه؛ فإن الله يكرمه بكرامات عظيمة، فيحفظه في نفسه وأهله، ويجعل الحيوانات المؤذية لا تؤذيه، بل يحفظه الله من كل من يتربص به؛ كما حفظ نبيه محمداً ﷺ في الغار، ومؤامرات المنافقين والكفار، وحفظ إبراهيم عندما ألقي في النار، وجعلها عليه برداً وسلاماً، وحفظ يونس في لجج البحار، وحفظ سائر الموحدين من مؤامرات المنافقين والكافرين.
وعلى العكس من ذلك فأن من ضيع أوامر الله، وارتكب نواهيه؛ فإن الله يضيعه، ويجعل ضرره وأذاه من أحب الناس إليه، ومن الأقربين إليه؛ كما قال بعض السلف: “إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق خادمي، ودابتي”4. فعلى المسلم أن يكون دائماً مع الله في حله وترحاله، ووفي حال صحته ومرضه، وفي حال شدته ورخائه، قال ابن رجب – رحمه الله -: “فمن ذكر الله في حال صحته ورخائه، واستعد حينئذٍ للقاء الله بالموت وما بعده؛ ذكره الله عند هذه الشدائد، فكان معه فيها، ولطف به، وأعانه، وتولاَّه، وثبته على التوحيد، فلقيه وهو عنه راض، ومن نسي الله في حال صحته ورخائه، ولم يستعد حينئذ للقائه؛ نسيه الله في هذه الشدائد”5. وليحذر المسلم أن يكون حاله كحال أولئك الذين إذا أصابتهم سراء عصوا وكفروا، وإذا أصابتهم البأساء والضراء تابوا وعادوا إلى الله كما قال الله تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (سورة العنكبوت:65)، وقال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا (سورة الإسراء:67)، ولكن نقول:
يا رب عفوك لا تأخـذ بزلتنـا | وارحـم أيـا ربّ ذنباً جنيناه |
كم نطلب الله في خير يحل بنـا | فإن تولـت بـلايانـا نسـيناه |
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا | فإن رجعنا إلى الشاطئ عصيناه |
ونركب الجو في أمن وفي دعـة | فمـا سـقطنا لأن الحـافظ الله |
فعلى المسلم أن يتعرف إلى الله في وقت الرخاء حتى يعرفه في وقت الشدة، فقد جاء في حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: من سره أن يستجيب الله له عن الشدائد والكرب، فليكثر الدعاء في الرخاء6، فهذا نبي الله يونس لماَّ كان من المؤمنين الذاكرين لله في حال الرخاء استجاب لله له في حال الشدة، وأخرجه من ظلمات ثلاث: ظلمة الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل قال الله : فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (سورة الصافات:143-144)، وقال تعالى: وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (سورة الأنبياء: 87-88)، وعلى العكس من ذلك فإن من نسي الله نسيه الله وأنساه نفسه؛ قال تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون (سورة الحشر:19)، فهذا عدو الله فرعون اللعين لماَّ كان من الكافرين الجاحدين أرداه الله في الهالكين، وجعله عبرة للمعتبرين، فلما أدركه الغرق قال: آمنت، فقال الله : آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (يونس:91-92).
نسأل الله أن يحفظنا من كل سوء ومكروه، والحمد لله رب العالمين.
1– رواه الترمذي وأحمد والحاكم، وقال : حديث حسن صحيح، وقال الشيخ الألباني: (صحيح) انظر صحيح الجامع رقم: (7957).
2– جامع العلوم والحكم (1 /462) .
3– جامع العلوم والحكم (1 /466).
4– جامع العلوم (1 /468).
5– المصدر السابق (1/ 476).
6– رواه الترمذي، والحاكم، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، رقم (2393). وصحيح الجامع، رقم (6290).