أعطوا الطريق حقها
الحمد لله رب العالمين، ولاعدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله يقول لنبيه – صلى الله عليه وسلم -: {قُل لِلمُؤمِنِينَ يَغُضُّواْ مِن أَبصَارِهِم وَيَحفَظُواْ فُرُوجَهُم ذَلِكَ أَزكَى لَهُم إِنَّ اللهَ خَبِيرُ بِما يَصنَعُونَ * وَقُل لِلمُؤمِنَاتِ يَغضُضنَ مِن أَبصَارِهِنَّ وَيَحفَظنَ فُرُوجَهُنَّ}1، وجاء من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إياكم والجلوس على الطرقات)) فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها قال: ((فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقه)) قالوا: وما حق الطريق؟ قال: ((غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر))2.
حقوق الطريق:
حقوق الطريق بيّنها النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: ((غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر))، وهذه الحقوق ليست من باب الحصر وإنما هي بعضها، وقد بيّنت أحاديث أُخر حقوقاً للطريق غير هذه، فعلم أن المذكورات التي في الحديث ليست من باب الحصر.
أ – غض البصر: الأمر بغض البصر يشترك فيه الرجال والنساء على حد سواء، وذلك لأن إطلاق البصر فيما يحرم يجلب عذاب القلب وألمه، وهو يظن أنه يروح عن نفسه ويهيج قلبه ولكن هيهات، وأعظمهم عذاباً مدمنهم، وكما قال ابن تيمية – رحمه الله -: "تعمد النظر يورث القلب علاقة يتعذب بها الإنسان، وإن قويت حتى صارت غراماً وعشقاً زاد العذاب الأليم سواء قدر أنه قادر على المحبوب أو عاجز عنه، فإن كان عاجزاً فهو في عذاب أليم من الحزن والهم والغم، وإن كان قادراً فهو في عذاب أليم من خوف فراقه، ومن السعي في تأليفه، وأسباب رضاه!" أ.هـ.
وأصل ذلك ومبدؤه من النظر، فلو أنه غض بصره لارتاحت نفسه وقلبه، والشرع المطهر لم يغفل ما قد يقع من الناس بدون قصد منهم، بل أمر من نظر إلى امرأة أجنبية بدون قصد منه أن يصرف بصره عنها ولا يتمادى، قال جرير بن عبد الله – رضي الله عنه -: "سألت رسول الله عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري"3، قال الإمام النووي: "ونظر الفجأة: أن يقع بصره على الأجنبية من غير قصد، فلا إثم عليه في أول ذلك، ويجب عليه أن يصرف بصره في الحال، فإن صرف في الحال فلا إثم عليه، وإن استدام النظر أثم لهذا الحديث".
ب – كف الأذى: وعدم إيذاء الناس في أبدانهم أو أعراضهم، وفي الحديث الذي رواه عبدالله بن عمرو – رضي الله عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((المسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده… ))4، والحديث من جوامع كلمه، فيشمل اللسان من تكلم بلسانه، وآذى الناس في أعراضهم أو سبهم، ويشمل من أخرج لسانه استهزاء وسخرية، وكذا اليد فإن أذيتها لا تنحصر في الضرب، بل تتعداها إلى أمور أُخر كالوشاية بالناس، والسعي في الإضرار بهم عن طريق الكتابة، أو القتل ونحو ذلك، بل من محاسن هذا الدين أنه اعتبر كف المرء شره وأذاه عن الناس؛ صدقة يتصدق بها على نفسه كما جاء من حديث أبي ذر – رضي الله عنه – قال: سألت النبي – صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله، وجهاد في سبيله)) قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: ((أعلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها)) قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ((تعين صانعاً، أو تصنع لأخرق)) قال: فإن لم أفعل؟ قال: ((تدع الناس من الشر فإنها صدقة تصدق بها على نفسك))5، وفي رواية: ((تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك)).
جـ – رد السلام: وهو واجب لقوله – صلى الله عليه وسلم – كما في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -: ((خمس تجب للمسلم على أخيه: رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز))6 وقد قصّر في هذا الباب خلق كثير، واقتصر سلامهم على المعرفة، فمن عرفوه سلموا عليه، أو ردوا عليه سلامه، ومن لم يعرفوه لم يعيروه اهتماماً، وهذا خلل ومخالفة للسنة.
د – وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهذا باب عظيم الشأن والقدر، به كانت هذه الأمة خير الأمم: {كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللهِ}7 قال ابن كثير: "قال عمر بن الخطاب: من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها، ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله – تعالى -: {كَانُواْ لا يَتَنَاهَونَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ}8"، وبتركه يحل بهم العقاب لما روى الإمام أحمد في مسنده قال: "قام أبو بكر فحمد الله – عز وجل – وأثنى عليه فقال: "أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيكُم أَنفُسَكُم لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذَا اهتَدَيتُم}9 إلى آخر الآية، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه؛ أوشك الله أن يعمهم بعقاب))".
وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فوائد عظيمة للأمة منها: نجاة سفينة المجتمع من الهلاك والغرق، ومنها قمع الباطل وأهله، ومنها كثرة الخيرات والحد من الشرور، ومنها استتباب الأمن، ومنها نشر الفضيلة وقمع الرذيلة… إلخ.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مقصوراً على جهة معينة – كهيئة مثلاً -، أو أناس معينين – كرجال حسبة -؛ بل إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل أحد كلٌ بحسب استطاعته؛ لأن الحديث الوارد في ذلك عام لم يخصص أحداً من أحد، قال أبو سعيد الخدري – رضي الله عنه – سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))10، ولكن ينبغي الإشارة هنا إلى أمور:
أولاً: التدرج في الإنكار: فلا يتحول المرء إلى مرتبة حتى يعجز عن التي قبلها، فلا ينكر بقلبه من يستطع الإنكار بلسانه، وهكذا.
الثاني: أن من كانت له ولاية فإنكاره يكون بأعلى مراتب الإنكار: فرب الأسرة هو السيد المطاع في البيت، وتغييره للمنكر يكون بيده؛ لأنه قادر على إزالة المنكر بيده، ولا يعذر بترك ذلك.
الثالث: العلم بالمنكر أنه منكر قبل الإنكار: وهل هو من الأمور التي يسوغ فيها الخلاف، وهذا باب غلط فيه فئام من الناس، فليتنبه له.
الرابع: يجب أن يستشعر المُنكِرُ قاعدة المفاسد والمصالح: وأن لا يبادر إلى الإنكار إلا إذا علم أن مصلحته راجحة على مفسدته، ومتى علم رجحان المفسدة؛ وجب عليه الكف حتى لا يفتح باب شر وإفساد.
الخامس: إذا عجز المُنكرُ عن المرتبة الأولى والثانية: فلا يغفل عن قلبه، ويمر عليه المنكر دون إنكار بالقلب، وظهور آثار ذلك على صفحات وجهه.
هـ – هداية السائل عن الطريق إليه: سواءً كان ضالاً أو أعمى لما جاء من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – في قصة الذين سألوا النبي – صلى الله عليه وسلم – عن حق الطريق قال: ((وإرشاد السبيل))11، وفي حديث آخر لأبي هريرة – رضي الله عنه – ما يبين أن هداية السبيل من الصدقات قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: ((ودلُّ الطريق صدقة))12.
ز – إزالة الأذى من الطريق: من الآداب المستحبة في الطريق إزالة الأذى عن الطريق، بل هي من الإيمان قال – صلى الله عليه وسلم-: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان))13.
وهي من الصدقات، بل بسببها دخل رجل الجنة ففي حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((كل سلامى من الناس عليه صدقة… إلى أن قال: وتميط الأذى عن الطريق صدقة))14، وعنه أيضاً أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره، فشكر الله له فغفرله… الحديث))15، وعند أبي داود قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((نزع رجل لم يعمل خيراً قط غصن شوك عن الطريق، إما كان في شجرة فقطعه وألقاه، وإما كان موضوعاً فأماطه، فشكر الله له بها فأدخله الجنة))16.
و – تحريم قضاء الحاجة في طريق الناس أو ظلهم: فقد حذر رسولنا – صلى الله عليه وسلم – من التخلي في طريق الناس أو في ظلهم لأن ذلك حق عام، فلا يحل لامرئ أن يفسد على الناس طرقهم التي يمشون عليها، أو ظلهم الذي فيه يجلسون، وبه يتقون حر الشمس كما جاء في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((اتقوا اللعانين)) قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: ((الذي يتخلى في طريق الناس، أوفي ظلهم))17، ومعنى قوله: اتقوا اللعانين: أي اجتنبوا الأمرين اللذين يجلبان لعن الناس وشتمهم، لأن من تخلى في طريق الناس أو ظلهم لا يكاد يسلم من سب الناس وشتمهم.
ي – أن الرجال أحق بوسط الطريق من النساء: من حرص الشارع الحكيم على تميز النساء على الرجال، وقطع كل طريق يؤدي إلى الفتنة بهن؛ أن جعل حافة الطريق للنساء، وأوسطه للرجال، حتى لا يختلط الرجال بالنساء وتعظم الفتنة – كما هو الحال الآن إلا من رحم الله – فعن أبي أسيد الأنصاري أنه سمع رسول الله يقول وهو خارج من المسجد، فاختلط الرجال مع النساء في الطريق، فقال رسول الله للنساء: ((استأ خرن فإنه ليس لكنّ أن تحققن الطريق، عليكُنّ بحافات الطريق))، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به18، وسير النساء بمحاذاة جوانب الطريق أستر لهن، وأقرب للحياء، لا أن ينافسن الرجال في طريقهم، ويقتحمنه معرضات أنفسهن وغيرهن للفتنة؛ لاسيما وأول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء، وهلاكهم كان بسبب ذلك.
كـ- إعانة الرجل في حمله على دابته أو رفع متاعه عليها: ومن آداب الطريق المستحب فعلها أنك إذا رأيت رجلاً يريد أن يركب دابته وكان ذلك يشق عليه؛ فإنك تعينه على ذلك، أو تعينه في حمل متاعه، ويمكن فعل ذلك الآن، فإن بعض كبار السن قد لا يتمكن من الركوب في العربات المتحركة بسهولة وخصوصاً إذا كانت عالية.
وفعل ذلك كله من الصدقة التي يؤجر المسلم عليها فعن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((كل سُلامى عليه صدقة كل يوم، … إلى أن قال: يعين الرجل في دابته يحمله عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة… ))19.
هذه بعض آداب وحقوق الطريق نسأل الله – تعالى – أن يوفقنا للعمل بها وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 النور(30-31).
2 رواه مسلم برقم (2121).
3 رواه مسلم برقم (2159).
4 رواه البخاري برقم (6119) ومسلم برقم (40).
5 رواه البخاري برقم (2382).
6 رواه البخاري برقم (1183) ومسلم برقم (2162).
7 آل عمران (110).
8 المائدة (79).
9 المائدة (105).
10 رواه مسلم برقم (49).
11 رواه أبو داود برقم (4816) وقال الألباني: حسن صحيح.
12 رواه البخاري برقم (2560).
13 رواه مسلم برقم (35).
14 رواه البخاري برقم (2650).
15 رواه البخاري برقم (624).
16 رواه أبو داوود برقم (5245).
17 رواه مسلم برقم (269).
18 رواه أبو داود برقم (5272) وحسنه الألباني.
19 سبق تخريجه.