الحوالة

الحـوالـة

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالحوالة من المسائل الفقهية التي تكلم فيها العلماء – رحمهم الله -، وتحتاج إلى إيضاح وبيان؛ لأنها من المعاملات الجارية بين الناس اليوم، فلزم المسلم تعلمها ومعرفة أحكامها حتى يكون على بينة من الدين في أقواله وأعماله؛ وترجع كثير من مشاكل الناس في معاملاتهم إلى جهلهم بالشرع الحنيف، فلا بد من التعليم والإيضاح حتى لا يكون للإنسان حجة عند الله – تعالى-.

وسوف نأخذ هنا تعريف الحوالة، وأنواعها، وحكمها – إن شاء الله -.

 

تعريف الحوالة:

الحوالة مأخوذة من التحويل بمعنى الانتقال، والمقصود بها هنا نقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، وهي تقتضي وجود محيل، ومحال، ومحال عليه.

فالمحيل هو المدين، والمحال هو الدائن، والمحال عليه هو الذي يقوم بقضاء الدين.

والحوالة تصرف من التصرفات التي لا تحتاج إلى إيجاب وقبول، وتصح بكل ما يدل عليها كـ: "أحلتك" و"أتبعتك بدينك على فلان"… ونحو ذلك.

 

مشروعيتها:

وقد شرعها الإسلام، وأجازها للحاجة إليها؛ فقد روى الإمام البخاري ومسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: (مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع).1

ففي هذا الحديث أمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – الدائن إذا أحاله المدين على غني مليء قادر أن يقبل الإحالة، وأن يتبع الذي أحيل عليه بالمطالبة حتى يستوفي حقه.

 

هل الأمر للوجوب أو الندب؟

ذهب الكثير من الحنابلة وابن جرير وأبو ثور والظاهرية إلى أنه يجب على الدائن قبول الإحالة على المليء عملاً بهذا الأمر.

وقال الجمهور: إن الأمر للاستحباب.

وقد حكى غير واحد من العلماء الإجماع على ثبوتها.

ومن حكمها وفوائدها: أن فيها إرفاقاً بين الناس، وتسهيلاً لسبل معاملاتهم، وتسامحاً وتعاوناً على قضاء حاجاتهم، وتسديد ديونهم، وتوفير راحتهم.

وقد ظن بعض الناس أن الحوالة على غير وفق القياس؛ لأنها بيع دين بدين، وبيع الدين بالدين ممنوع، لكنه جاز في الحوالة على غير وفق القياس، وقد رد هذا العلامة ابن القيم، وبين أنها جارية على وفق القياس؛ لأنها من جنس إيفاء الحق لا من جنس البيع، قال: "وإن كانت بيع دين بدين فلم ينه الشارع عن ذلك، بل قواعد الشرع تقتضي جوازه؛ فإنها اقتضت نقل الدين وتحويله من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه".

 

رضا المحيل والمحال له والمحال عليه:

عند الحنفية تنعقد الحوالة برضا المحيل والمحال عليه، أما رضا المحيل فمطلوب؛ لأن ذوي المروءات قد يأنفون بتحمل غيرهم ما عليهم من الدين، وأما رضا المحال فلا بد منه؛ لأن الدين حقه، وهو في ذمة المحيل، والدين هو الذي ينتقل بالحوالة، والذمم متفاوتة في حسن القضاء والمطل، فلا بد من رضاه، وإلا لزم الضرر بإلزامه اتباع من لا يوفيه.

وأما رضا المحال عليه فضروري لأنه الذي يلزمه الدين، ولا لزوم إلا بالتزامه، وكونه مديناً لا يمنع من تغير صفة الالتزام؛ لأن الناس يتفاوتون في اقتضاء الدين سهولة ويسراً، أو صعوبة وعسراً.

وقال الحنابلة والظاهرية: يشترط رضا المحيل فقط، وأما المحال والمحال عليه فيلزمهما قبول الحوالة عملاً بالأمر الوارد في الحديث النبوي المفيد للوجوب وهو قوله – عليه الصلاة والسلام -: (مطل الغني ظلم، وإذا اتبع أحدكم على مليء فليتْبَع)2، وفي رواية: (ومن أحيل على مليء فليحتل).3

وقال المالكية في المشهور عندهم، والشافعية في الأصح عندهم: يشترط لصحة الحوالة رضا المحيل والمحال فقط؛ لأن للمحيل إيفاء الحق من حيث شاء، فلا يلزم بجهة معينة، وحق المحال في ذمة المحيل، فلا ينتقل إلا برضاه؛ لأن الذمم تتفاوت في الأداء والقضاء.

ولا يشترط عند هؤلاء رضا المحال عليه لأنه محل الحق والتصرف، ولأن الحق للمحيل فله أن يستوفيه بغيره، والأمر هو مجرد تفويض بالقبض فلا يعتبر رضا من عليه، كما لو وكل إنسان غيره بقبض دينه.

والخلاصة: أن رضا المحيل مشروط في كل المذاهب، وأما رضا المحال والمحال عليه ففيه اختلاف اجتهادي بين المذاهب.

 

نوعا الحوالة:

الحوالة نوعان متميزان بحسب صفة المحيل، فإن كان المحيل هو الدائن فهي حوالة حق، وإن كان المحيل هو المدين فهي حوالة دين.

حوالة الحق: هي نقل الحق من دائن إلى دائن، أو حلول دائن محل دائن بالنسبة للمدين، فإذا تبدل دائن بدائن في حق مالي متعلق بالذمة لا بعين كانت الحوالة حوالة حق، والدائن فيها هو المحيل، إذ هو يحيل غيره ليستوفي حقه.

وحوالة الدين: هي تبدل المدين بالنسبة للدائن أي تبدل مدين بمدين، والمحيل فيها هو المدين، إذ هو إنما يحيل على غيره لوفاء دينه، وهي مشروعة باتفاق العلماء عملاً بالحديث النبوي المار ذكره.

وحوالة الحق جائزة أيضاً باتفاق المذاهب الأربعة.

قال ابن رشد:

"ومن الشروط التي اتفق عليها في الجملة كون ما على المحال عليه مجانساً لما على المحيل قدراً ووصفاً، إلا أن منهم من أجازها في الذهب والدراهم فقط ومنعها في الطعام، والذين منعوها في ذلك رأوا أنها من باب الطعام قبل أن يستوفي، لأنه باع الطعام الذي كان له على غريمه بالطعام الذي كان عليه، وذلك قبل أن يستوفيه من غريمه، وأجاز ذلك مالك إذا كان الطعامان كلاهما من قرض إذا كان دين المحال حالّاً.

وأما إن كان أحدهما من سلم فإنه لا يجوز إلا أن يكون الدينان حالّين، وعند ابن القاسم وغيره من أصحاب مالك يجوز ذلك إذا كان الدين المحال به حالّاً، ولم يفرق بين ذلك الشافعي لأنه كالبيع في ضمان المستقرض، وإنما رخص مالك في القرض لأنه يجوز عنده بيع القرض قبل أن يستوفي.

وأما أبو حنيفة فأجاز الحوالة بالطعام وشبهها بالدراهم، وجعلها خارجة عن الأصول كخروج الحوالة بالدراهم.

والمسألة مبنية على أن ما شذ عن الأصول هل يقاس عليه أم لا؟ والمسألة مشهورة في أصول الفقه.

وللحوالة عند مالك ثلاثة شروط: أحدها: أن يكون دين المحال حالّاً، لأنه إن لم يكن حالّاً كان ديناً بدين.

والثاني: أن يكون الدين الذي يحيله به مثل الذي يحيله عليه في القدر والصفة، لأنه إذا اختلفا في أحدهما كان بيعاً ولم يكن حوالة، فخرج من باب الرخصة إلى باب البيع، وإذا خرج إلى باب البيع دخله الدين بالدين.

والشرط الثالث: أن لا يكون الدين طعاماً من سلم أو أحدهما ولم يحل الدين المستحال به على مذهب ابن القاسم، وإذا كان الطعامان جميعاً من سلم فلا تجوز الحوالة بأحدهما على الآخر حلت الآجال أو لم تحل، أو حل أحدهما ولم يحل الآخر، لأنه يدخله بيع الطعام قبل أن يستوفي.

وأما أحكامها فإن جمهور العلماء على أن الحوالة ضد الحمالة في أنه إذا أفلس المحال عليه لم يرجع صاحب الدين على المحيل بشيء، قال مالك وأصحابه: إلا أن يكون المحيل غره فأحاله على عديم، وقال أبو حنيفة: يرجع صاحب الدين على المحيل إذا مات عليه مفلساً، أو جحد الحوالة وإن لم تكن له بينة، وبه قال شريح وعثمان البتي وجماعة.

وسبب اختلافهم: مشابهة الحوالة للحمالة".

هذا ما يتعلق بالحوالة من أحكام ومسائل مختلفة بين العلماء، ونسأل الله أن ينفعنا بما علمنا، إنه على كل شيء قدير.4


 


1 رواه البخاري ومسلم.

2 سبق تخريجه.

3 عند أحمد والترمذي وابن ماجه، بنحوه.

4 المراجع/ بداية المجتهد لابن رشد، وفقه السنة لسيد سابق، والفقه الإسلامي وأدلته لوهبة الزحيلي.