السفر الحقيقي

السفر الحقيقي

السفر الحقيقي

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فإن الناس في هذه الدنيا يسرون ويحزنون، ويجتمعون ويفترقون، ويصحون ويمرضون، ويقيمون ويسافرون، ولكنها تختلف مشاربهم ومقاصدهم في سفرهم.

والذي يهمنا أنَّ الناس وهم يسافرون في سفرهم المباح أو الواجب يقل ويندر من يتعظ ويعتبر في سفره في هذه الدنيا في سفره الحقيقي، وهو السفر إلى الدار الآخرة.

وفي الإجازة الصيفية خاصة يكثر الناس من السفر، فربما نجد أن بيوتاً سافر جميع أفراد الأسرة في رحلة واحدة، وربما سافر كل شخص منهم لوحده، فالأب يسافر لوحده، والزوجة لوحدها، والابن لوحده، والبنت لوحدها، وكل واحد من هؤلاء وقبل أن يسافر يعد العدة، ويأخذ الزاد والرحلة الكافية التي توصله إلى هدفه، بل ربما أخذ الواحد  منهم في سفره ذلك ما يكفيه من المتاع الذي من السهل عليه تحصيله وجمعه، لثلاثة أضعاف ما يحتاجه في سفره الدنيوي.

وهذا السفر كما قلنا إن كان واجباً فإن الإنسان يؤجر عليه، وإن كان مباحاً فلا يثاب ولا يعاقب عليه، ولا حرج عليه في ذلك؛ فقد جاء حنظلة بن عامر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشكو إليه الغفلة عن الطاعة أثناء ملاعبة الأطفال ومعاشرة النساء، فقال: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً-ثَلاثَ مَرَّات-)1. والناس في هذه الدنيا إما أن يسافروا للتخلص من مهروب أو للحصول على مرغوب؛ قال العلامة ابن قدامة-رحمه الله-: السفر وسيلة إلى الخلاص من مهروب منه، أو الوصول إلى مرغوب إليه. والسفر سفران: سفر بظاهر البدن عن الوطن، وسفر بسير القلب عن أسفل سافلين إلى ملكوت السماوات، وهذا أشرف السفرين، فإن الواقف على الحالة التي نشأ عليها عقيب الولادة الجامد على ما تلقنه بالتقليد من الآباء، لازم درجة القصور، قانع برتبة النقص، ومستبدل بمتسع عرضه السماوات والأرض ظلمة السجن، وضيق الحبس2.

ولكن الذي أحب أن أقوله لنفسي ولمن عزم على السفر المباح أو الواجب أن يأخذ العظة والعبرة في سفره الدنيوي الذي قد يستمر شهراً أو شهرين أو أربعة أشهر أو أكثر، في سفرهم الحقيقي، الذي مدته طويلة، ومسافته بعيدة- الله أعلم بمدته-، والناس لهذا السفر جميعهم مسافرون، والتعامل فيه بأمور من الصعب على الإنسان جمعها وتحصيلها إن لم يجمعها قبل سفره، (إنها الحسنات)، وهو السفر الطويل والشاق السفر إلى الدار الآخرة.

فالمسافر في هذه الدنيا لا بد له من قوت يقتات به أو قيمة ذلك، ولابد له من مركوب يحمله إلى المكان الذي يقصده، وهذا سهل ميسور. والناس في سفرهم الدنيوي كما يقال أذكياء وحذاق، يعملون ويكدون في توفير زادهم وراحلتهم، بل إن الواحد منهم يخاف ويرهب من أن يسافر بلا زاد وراحلة، وخاصة إذا كان مع رفقة، فلوا قيل لأحدهم تعال فسافر معنا، قال: أنا لست مستعداً للسفر آلآن، لم أرتب أوضاعي، ولم أسـتأذن أهل بيتي، ولم أعد عدتي، وزادي وراحلتي في سفري، ولكن سألحق بكم قريباً- إن شاء الله.

ونسي هذا المسافر وأمثاله سفره الحقيقي إلى الدار الآخرة تلك الدار التي هي دار غير هذه الدار.

قال الشاعر:

تزود من معاشك للمعاد *** و قم لله و اعمل خير زاد

و لا تجمع من الدنيا كثيرا *** فإن المال يجمع للنفـاد

أترضى أن تكون رفيق قوم *** لهم زاد وأنت بغير زاد

فزاد الدار الآخرة غير زاد هذه الدار، وذلك لاختلاف الدارين، فزاد هذه الدار الدينار والدراهم، وزاد تلك الدار الإيمان والعمل الصالح(التقوى)؛ قال تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ سورة البقرة(197).فإنه لا ينفع الإنسان في قبره إلا التقوى و العمل الصالح. وهذه لها سبب نزول وهو أن أهل اليمن كانوا لا يتزودون ويقولون – نحن متوكلون- ونحن نحج بيت الله، أفلا يطعمنا؟! فيكونون كلاًّ على الناس، ويمدون أيديهم فنزلت فيهم: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب3 يبين سبب النزل أن الإنسان لابد أن يتوكل على الله، ومن توكله على الله أن يأخذ بالأسباب التي شرعها الله، فقد أمر الله في هذه الآية بالتزود في السفر الدنيوي، ولكنه أرشد عباده إلى التزود للسفر الحقيقي، وهو السفر على الدار الآخرة.

قال الشاعر:

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى *** و لاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله *** و أنك لم ترصد كما كان أرصد4

أيها المسافرون: في هذه الدنيا  لتعلموا أننا غير مقيمين ولا مخلدين في هذه الدار، بل إن درا إقامتنا الحقيقة هي الدار الآخرة. ولتعلموا كذلك أن سفرنا إلى الدار الآخرة حتم لابد منه، وهو سفر لا خيار لنا فيه، ولا ندري متى يكون؛ قال الله –تعالى-: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ سورة المؤمنون(99-100). وقد حذر النبي-صلى الله عليه وسلم-من اتخاذ هذه الدنيا وطناً ومسكناً؛ فعن ابن عمر–رضي الله عنه-قال أخذ رسول الله–صلى الله عليه وسلم-بمنكبي، فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصحبت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك5. فالغريب بعيد عن أهله ووطنه وأقاربه لا يتعلق قلبه ببلد الغربة، وإنما قلبه متعلق دائما بوطنه الأصلي الذي هو دار إقامته الحقيقية، فهو يحن ويئن إليه، ولا شك أن موطن ومنزل بني آدم الأصلي هو الآخرة.

والمسافر أو عابر السبيل: إنما هو سائر في قطع منازل السفر، حتى يصل إلى مراده ومقصوده، ولا شك أن آخر سفر لنا هو الموت، فمن كان هكذا فهمه وهمته في تحصيل الزاد للسفر، وليس له هم في الاستكثار من حطام الدنيا الفاني، ولذلك كتب بعض السلف إلى أخ له رسالة يقول له فيها: يا أخي يخيل لك أنك مقيم، بل أنت دائب السير، تساق مع ذلك سوقاً حثيثاً، الموت موجه إليك، والدنيا تطوى من ورائك، وما مضى من عمرك فليس بكارٍّ عليك حتى يكرَّ عليك يوم التغابن.

ومما أنشده بعض السلف:

إنا لنفرح بالأيـام نقـطعهـا *** وكل يـوم يدني من الأجـل

فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً *** فإنما الربح والخسران في العمل

وهذا الخليفة الرابع علي بن أبي طالب-رضي الله عنه- يقول: إن الدنيا قد رحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة، ولكل منها بنون، فكنوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل6. وقال عمر بن عبد العزيز في بعض خطبه: إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منه الظعن، فكم من عامر موثق عن قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا -رحمكم الله- منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى7. وفي الأخير إن على المسافر في هذه الدنيا وهو يسافر على هذه البسيطة أن يتذكر سفره الحقيقي إلى الدار الآخرة (دار الإقامة الحقيقية) فيعد العدة لذلك السفر الحقيقي. وعليه أيضاً وهو يسافر في هذه المعمورة ويفارق الأهل والأولاد، والأحبة والأوطان لمدة معلومة أن يتذكر وحدته وغربته في سفره الطويل الذي لا يعم مداه إلا الله.  وعليه كذلك وهو يكابد عناء ومشقة السفر في هذه الدنيا؛ فإن السفر قطعة من العذاب أن يعلم أن السفر إلى الدار الآخرة أشق وأعظم منه، ذلك أن أمام المسافر إلى الدار الآخرة أخطار عظام، وأهوال جسام، فأمامه سكرات الموت، وحياة البرزخ؛ الذي فيها ضغطة القبر، وسؤال منكر ونكير، ثم الحشر والحساب، ثم الميزان والصراط، ثم الجنة أو النار- نسأل الله أن يجعلنا من أهل الجنة-. وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


1 – رواه البخاري.

2 – مختصر منهاج القاصدين صـ(116).

3 – تفسير ابن كثير ص(227). دار العلوم والحكم. وابن جرير (2/291). دار الكتب العلمية.

4 – انظر : "التذكرة" للقرطبي(1/98). و"لطائف المعارف" لابن رجب(1/370).

5 – رواه البخاري.

6 إغاثة اللهفان(1/70- 71). الناشر: دار المعرفة – بيروت. الطبعة الثانية. (1395) تحقيق : محمد حامد الفقي.

7 – جامع العلوم والحكم صـ( 320). لناشر : دار المعرفة – بيروت. الطبعة الأولى(1408هـ).