مسائل في الإمامة

مسائل في الإمامة

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه .. أما بعد:

فإن الإمامة في الصلاة مَعْلم من معالم القيادة التي يعلمنا إياها الإسلام الحنيف، وهي إمامة وأمانة في آن واحد، لذا نجد الشارع الحكيم وسَّع فيها وضيق، فمن توسعته أن أباح وأتاح لكل مسلم عاقل أن يؤم الناس في صلاتهم، فلا يوجد مسلمٌ لا يصلح لهذه المهمة، ولعل هذا إشارة إلى تهيئة للمسلم أيّاً كان ليكون أهلاً للقيادة والتولي، وتحمل المسؤولية، فليست الإمامة حكراً على أفراد ذوي مواصفات ومعايير لا تصلح إلا فيهم، لكن جعل مع ذلك أولويات ومعايير للأفضلية حتى لا يدع الأمر مطلقاً، ومن تضييقه ذكر مواصفات الأولوية فيمن يصلح للإمامة، ويستحق توليها على سبيل الجدارة والأحقية لا مطلق الصلاحية:

فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً، ولا يؤمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعدْ في بيته على تكرمته إلا بإذنه)) رواه مسلم (673)، وقد نص هذا الحديث على أن الأقرأ مقدم على غيره، وقال بعض الأئمة العلماء: الأفقه مقدم على الأقرأ؛ لأن الذي يُحتاج إليه من القراءة مضبوط، والذي يُحتاج إليه من الفقه غير مضبوط، وقد يعرض في الصلاة أمر لا يقدر على مراعاة الصواب فيه إلا كامل الفقه، ولهذا قدَّم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه في الصلاة على الباقين مع أنه صلى الله عليه وسلم نصَّ على أن غيره أقرأ منه، وأجيب عن الحديث بأن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه، لكن في قوله: ((فان كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة)) دليل على تقديم الأقرأ مطلق1.

وهو واضح للمغايرة، ولا يخفى أن محل تقديم الأقرأ إنما هو حيث يكون عارفاً بما يتعين معرفته من أحوال الصلاة، فأما إذا كان جاهلاً بذلك فلا يقدم اتفاقاً، والسبب فيه أن أهل ذلك العصر كانوا يعرفون معاني القرآن لكونهم أهل اللسان، فالأقرأ منهم بل القارئ كان أفقه في الدين من كثير من الفقهاء الذين جاءوا بعدهم2.

ولا يفتقد الإمام حكمةً توافق فقهه وعلمه؛ ليكون أرعى لحاجة الناس، وأبصر بشأنهم وظروفهم، وأشفق بهم، فليس الناس سواء، فالناس يختلفون، وينبغي له أن يراعي أحوالهم، وأن يشجعهم على المجيء والحضور، فإنه متى أطال عليهم شق عليهم، ونفَّرهم من الحضور، فيراعي ما يشجعهم على الحضور، ويرغبهم في الصلاة ولو بالاختصار، وعدم التطويل، فصلاةٌ يخشع فيها الناس، ويطمئنون فيها ولو قليلاً؛ خيرٌ من صلاة يحصل فيها عدم الخشوع، ويحصل فيها الملل والكسل3.

وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: "قال رجل: يا رسول الله، لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أشدَّ غضباً من يومئذ، فقال: ((أيها الناس، إنكم منفرون، فمن صلى بالناس فليخفف؛ فإن فيهم المريض، والضعيف، وذا الحاجة)) رواه البخاري برقم (90) واللفظ له، ومسلم (466).

وهذه الوصية النبوية غاية في الحكمة والرحمة والنظر إلى أحوال الناس، ومثله ما ورد عن مطرف بن عبد الله بن الشخِّير قال: "سمعت عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه يقول: كان آخر ما عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم حين أمَّرني على الطائف قال لي: ((يا عثمان تجاوزْ في الصلاة، واقْدر الناسَ بأضعفهم؛ فإن فيهم الكبير والصغير، والسقيم والبعيد، وذا الحاجة))4، وفي رواية النسائي: عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، اجعلني إمام قومي، فقال: ((أنت إمامهم، واقتدِ بأضعفهم…))5. أي: اجعل أضعفهم بمرض أو زمانة أو نحوهما قدوة لك، تصلي بصلاته تخفيفاً"6.

والإمامة في الصلاة معلم من معالم القيادة التي علمنا الإسلام، فالقائد أولٌ وسبَّاق في أمور الخير، وخصال الفضائل ومكارم الخلق، فالإمام هو المتبع في صلاته وقيامه وركوعه كما في حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما جُعِلَ الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا …)) رواه البخاري برقم (656) واللفظ له، ومسلم برقم (412)، وفي هذا إشارة إلى حسن سلوك الإمام، وإتقان عمله وتعبده، وطاعته وإخلاص نيته بإمامته، وحرصه على الخير، ومبادرته إلى نفع الناس، ورحمته بهم … إلخ ؛ ليكون قدوة بين الناس، فإن من يقتدي به الناس في صلاتهم يحسن أن يقتدوا به خارج صلاتهم، ومن ارتضوه لدينهم يجدر به أن يستحق رضاهم به في دنياهم.

نفعنا الله بما علمنا، وعلمنا ما ينفعنا، وجعلنا أئمة للمتقين آمين.


 


1 شرح النووي على مسلم (5/172).

2 فتح الباري لابن حجر (3/18).

3 المفيد في مجالس شهر رمضان من كلام الإمام ابن باز بتصرف يسير (1/25).

4 ابن ماجه برقم (987)، وقال الألباني رحمه الله: حسن صحيح.

5 برقم (672)، وصححه الألباني.

6 سبل السلام (1/433).