قصة مؤذن
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فمن أخبار المؤذنين الأول نأخذ قصة ذلك المؤذن الذي استهزأ بالأذان، ثم ما لبث بعد ذلك أن هداه الله فأصبح مؤذناً عظيماً روى بعض الأحاديث في هذا الجانب؛ إنه الصحابي الجليل أبي محذورة، واسمه أوس بن ربيعة بن معير بن عريج بن سعد بن جمح.
وقد روى هذه القصة عبد الله بن محيريز، وكان يتيماً في حجر أبي محذورة بن معير؛ حين جهَّزه إلى الشام، قال:
فقلت لأبي محذورة: أي عم إني خارج إلى الشام، وإني أسأل عن تأذينك، فأخبرني أن أبا محذورة قال: خرجت في نفر، فكنا ببعض الطريق، فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعنا صوت المؤذن ونحن عنه متنكبون، فصرخنا نحكيه نهزأ به، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلينا قوماً فأقعدونا بين يديه، فقال: ((أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع)) فأشار إليَّ القوم كلهم وصدقوا، فأرسل كلهم وحبسني، وقال لي: ((قم فأذن)) فقمت ولا شيء أكره إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مما يأمرني به، فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى علي رسول الله التأذين هو بنفسه، فقال: ((قل الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله))، ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة، ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة، ثم أمرَّها على وجهه، ثم على ثديه، ثم على كبده، ثم بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرة أبي محذورة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بارك الله لك، وبارك عليك)) فقلت: يا رسول الله أمرتني بالتأذين بمكة؟ قال: ((نعم، قد أمرتك))، فذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم1، وفي رواية: فوصف الأذان بالترجيع2، قال الترمذي: حديث أبي محذورة في الأذان حديث صحيح، وقد روي عنه من غير وجه، وعليه العمل بمكة وهو قول الشافعي3، وفي رواية: خرجت في عشرة فتيان مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين، فأذنوا وقمنا نؤذن مستهزئين بهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إيتوني بهؤلاء الفتيان))، فقال: ((أذنوا))، فأذنوا وكنت أحدُّهم صوتاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم هذا الذي سمعت صوته، اذهب فأذن لأهل مكة))4، وفي رواية: فكان أبو محذورة لا يجزُّ ناصيته، ولا يفرقها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح عليه5.
قال الزبير: كان أبو محذورة أحسن الناس أذاناً، وأنداهم صوتاً، قال له عمر يوماً وسمعه يؤذن: كدت أن ينشق مريطاؤك6، وقال بعض شعراء قريش في أذان أبي محذورة:
أما ورب الكعبة المستورة وما تلا محمد من سورة
والنغمات من أبي محذورة لأفعلـن فعلة مذكورة
ولم يهاجر رضي الله عنه، ولم يزل مقيماً بمكة حتى توفي7 بمكة سنة تسع وسبعين8.
فوائد القصة9:
1- انتقاء صاحب الصوت الندي لأجل الأذان، لأن صاحب الصوت الندي يُسمع له، وينجذب الناس لأذانه، وبالتالي للصلاة في المسجد؛ أكثر من صاحب الصوت غير الندي.
2- استعمال المال لتأليف قلوب الكفار: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه أبو محذورة أعطاه صرَّة فيها شيء من فضة، وكان عليه الصلاة والسلام يستخدم المال في تأليف قلوب الكفار، وربما دخل في الدين أناس كثيرون بسبب التأليف بالمال.
3- أهمية الدعاء بالبركة.
4- أن الإنسان إذا كان عدواً للدين، مستهزئاً بشعيرة من شعائره، فإن من كفارة ذلك أن يقوم بعمل ديني يخدم به الدين.
5- الحرص على أخذ العلم من صاحبه الأصلي، ولذلك ذهب عبد الله بن محيريز إلى أبي محذورة، وقال له:علمني الآذان قبل أن أسأل عن تأذينك.
6- أن رفقة السوء تساعد على الوقوع في الباطل.
7- أن الشيء السيئ قد ينقلب بأمر الله في مصلحة صاحبه: فـأبو محذورة رفع صوته مستهزئاً، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم الصوت واستدعاهم، فشاء الله أن يكون رفع الصوت بالاستهزاء سبباً في هداية الرجل، وسبحان من جعل هذا السوء ينقلب على صاحبه خيراً.
8- أن مشاعر الإنسان يمكن أن تتغير في لحظة.
9- أن حسن معاملة المدعو الكافر من قبل الداعية المسلم هو الذي يغير صورة الداعية وسمعته، والشبهات التي كانت حول الداعية، أو الشكوك، أو العداوات في نفس الشخص الآخر، تتغير بفعل المعاملة الحسنة من الداعية.
10- أهمية تجريد الشخص من أعوانه الفجرة حتى يكون ادعى لهدايته كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن استفراد الداعية بالمدعو يجعل التأثير ممكناً أكثر.
11- هيبة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما أُتى بهؤلاء الكفرة وقال لهم: ((أيكم الذي سمعت صوته؟)) ما استطاعوا أن يكذبوا عليه، بل كلهم أشار إلى أبي محذورة.
ومن الفوائد التربوية10:
1 – طبيعة التجمعات الشبابية، وتشابهها قديماً وحديثاً.
2 – عدم تجاوز المواقف السلوكية الشاذة.
3 – التثبت والتبين، وعدم أخذ البريء بجريرة المذنب.
4 – الأدب الرفيع، وعدم الإسفاف في الخطاب عند الإنكار.
5 – تحويل الخطأ إلى صواب، والانحراف إلى سداد.
6 – تواضع المربي.
7 – الإحسان إلى المتربي، وسَلُّ سخيمة صدره.
8 – التودد والتحبب إلى المتربي بالمباشرة باليد.
9 – إظهار صدق الود، والرغبة في الهداية بالدعاء.
10 – منح الثقة، واستغلال الموهبة.
والحمد لله رب العالمين.
1 رواه ابن ماجة برقم (708)، والبيهقي برقم (1714)، وصححه الألباني.
2 رواه النسائي برقم (632).
3 سنن الترمذي رقم (191).
4 رواه البيهقي برقم (1715).
5 رواه أبو داود برقم (501)، وصححه الألباني.
6 هي الجلدة التي بين السرة والعانة. النهاية في غريب الحديث (4/675).
7 الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/64).
8 أسد الغابة (1/480).
9 انظر قصة المستهزئ الذي هداه الله.
10 معالم في البناء التربوي مجلة البيان عدد (203).