مساجد مظلومة
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فإن الله – تعالى – أمر ببناء المساجد ليؤمَّها الناس، ويقصدها المصلون، ويتخذوها مصدراً من مصادر التوجيه والتعليم، والتربية والتفكير والوعي، فينتفعوا من خلالها بأمور عظيمة، ويرتووا من معينها بمياه عذبة، وما من مسجد من المساجد إلا وله حقوق على رواده، شرعها الله ، وبيَّنها رسوله الكريم – عليه الصلاة والسلام –، وهي بمجملها قلَّت أو جلَّت ينبغي أن تُرى بعين الاعتبار، وتُؤدَّى كاملة كما شرع الله، وما انتُقص منها إنما إثمه على الذين يبدلونه.
وفي زمن به محاكم جائرة، حين تضيع الحقوق، ويكثر العقوق؛ يكون الأمر أيسر وأهون من زمن لا يوجد فيه ملفٌّ واحد يعرِّف بقضية جديدة من نوعها، فضلاً عن وجود محكمة.
قضية المسجد:
قضية جديدة من نوعها، لم يعهدها الآباء، ولم يدرسها الفقهاء، ولا افترضها السادة الأحناف، ولا فرَّعها شافعية الأسلاف، ولم يملك مثلها المالكية، ولا رُوِيتْ عن رواة الحديث إلا ما ندرَ مما كان لا يعقَل أن يقعْ، وإلا النزر المذكور من عبدة القبور، وقد اندرست معالم البدع بإنارة السنن، وبقيت آثار حملها بأوزارها أناسٌ لينتهكوا حرمة المساجد ويظلموها، ويحملوا عليها ما لم تخلق لحمله، ولم تُبنَ لأجله، فظهرت قضية المسجد جامعة بين أصالة البدع، وحضارة التغريب.
ولا قضاة اليوم ينتصفون لمساجد الله في بعض البلدان، ولو شكت وبكت، وقد لا تجد إلى من ترفع ظلامتها، فقد كثرت المساجد المظلومة اليوم، ولم تُنشأ حتى محكمة واحدة لإنصافها.
ها هي بعض مساجدنا اليوم تتألم ممن يطأ على أرضها، ومن لا يطأ، وتستجدي العدل في حقها ولو أبطأ، والأمل في الله كبير.
إنها قضية المساجد اليوم – رغم وجود الصحوة والدعاة ولله الحمد – إلا أن المساجد تشكو أصحابها، وزائريها، وهاجريها.
فهناك مساجد يعبد فيها غير الله يدعون فيها الأولياء، ويصمدون إلى عباد أمثالهم يأكلون، ويشربون، ويتغوطون، أضلوا أتباعهم، واستمالوا أفئدتهم وأموالهم، وأغووا مريديهم، يظهرون بمظهر الأتقياء، ويطوون ما يطوي الأشقياء؛ من هدمٍ للدين، وتحريف للشريعة، وتأسيس للبدعة من الصوفية والشيعة.
ومساجد مظلومة، حزينة مكلومة، بُنيت على قبور فانصرف عنها المتقون، وقصدها المبتدعون، وقلَّ الأجر فيها، وصارت الصلاة في غيرها أفضل منها .. مسكينة!! ماذا جنت؟ ألمْ تبن لله وحده؟ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (الجن:18).
ومساجد مهجورة لا تنظف ولا تطيب، تفوح منها روائح تستدعي تغطية الأنوف، فراشها غيَّر لونَه الترابُ، وأخشن نعومته انتشار الحصى، فإلى من تشتكي؟
شكت إلى مساجد نظيفة مطيبة معطرة، وبكت بين سواريها، فسال دمع الحزن من منبرها؛ حين سمعت الرد الباكي في وجه الشاكي: “يا هذا، أنتَ مهجور الطيب، وأنا مهجور الخطيب، أنا مهجور الأدناس لأني قليل الناس” تأتي الجمعة والخطيب غائب، فيرجع الناس؛ هذا يصلي الظهر، وذاك يصلي ركعتي جمعةً بزعمه!!، وذاك يفرح خارجاً من المسجد قائلاً: “فكة من مكة” فلا صلاة، ولا تكليف.
أو يقوم خطيب يقرأ ما يشبه التعاويذ، بكلام لا تطيقه جدران المسجد المشققة، ولا فرشه الممزقة، أما المصلون ففي كل وادٍ يهيمون، ويقولون ما لا يفعلون، وتراهم ينظرون إليه وهم لا يبصرون، هذا في سوق البورصة، وذاك في سوق الملابس، وأولئك في دوائرهم يسبحون فضلاً عن النائم والمتناوم.
من يواسي؟ إن قالت بعض المساجد: هذا أمر عادي، – وتمسح الدمع من وجنتها – أنا لا يقام فيَّ فجراً إلا الأذان.
مساجد يتيمة سُلبتْ أموالها، وانتهكت حرمتها، وخربت جدرانها، ولها أموال من تراث السالفين؛ وقعت في أيدي السالبين، لطالما ناشدتهم الله: أعطوني بعض وقفي، رمموا سقفي، أصلحوا جداري، ألم يعهد إليكم الأولون أن لا تهمُّوا بما تنالون، وتبسطوا أيديكم فيما لا تملكون؟
ولا مغيث ولا مجيب!!.
إنها مساجد تقرأ الفقر في أحجارها، خوَتْ على عروشها، فلا ترى إلا الظلام في زمن التنوير، ولا تسمع غير الأنين، رغم ضحك الإعلام، حتى مرتادوها ليس لهم قبول، بدعوى رجوعهم إلى الوراء السالف، وتجنبهم الهراء الزائف. بأي ذنب قتلت؟ مساجد هدمتْ، ومنابرُ هدِّدَتْ، ومنافذ خيرٍ سدَّتْ، كما فُعل بأقصاها الذي رفع عريضة شكواه إلى صلاح الدين:
يا أيها المـلك الذي | لمعــالم الصلبانِ نكَّسْ |
جاءتْ إليك ظلامةٌ | يشكو بها البيت المقدسْ |
كل المساجد طُهِّرت | وأنا على شـرفي أدنسْ |
ويترامى إليها الأمل حين تسمع بمنظمات حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وحقوق الطفل، بل وحقوق الحيوان، فهي بفارغ الصبر الذي كاد ينفد تنتظر ظهور منظمات حقوق المسجد، وإلى الله المشتكى.
وينعقد في قلوبنا الفأل حين نقرأ قول الله – تعالى –: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً (الحج:40)، ونسمع آياته تتلى وفيها: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (النور:37).
نسأل الله أن يمنَّ بفضله، ويجود علينا بلطفه، ويقينا الفتن ما ظهر منها وما بطن. والحمد لله رب العالمين.