وصايا من فراش الموت

وصايا من فراش الموت

 

الحمد لله رب العالمين، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، لا راد لما قضى، ولا معقب لما حكم، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، كتب سبحانه الموت على خلقه فقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ }1

كُتبَ الموت على الخَلقِ فكمْ        فَلَّ من جيشٍ وأفنى من دُوَلْ

أينَ نمرودُ وكنعــانُ ومنْ         مَلَكَ الأرضَ وولَّى وعَـزَلْ

أين عـادٌ أين فرعونُ ومن          رفعَ الأهرامَ من يسمعْ يَخَلْ

أينَ من سادوا وشادوا وبَنَوا         هَلَكَ الكلُّ ولم تُغنِ القُلَلْ

أينَ أربابُ الحِجَى أهلُ النُّهى        أينَ أهلُ العلمِ والقومُ الأوَلْ

سيُعيـدُ الله كلاً منهــمُ         وسيَجزي فاعلاً ما قد فَعَلْ2

والصلاة والسلام على نبينا الكريم وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:

أيها المسلم الفاضل: ما أصعب الحديث عن الموت، وما أشده على النفس التي تشدنا إلى الوراء، وتحاول جاهدة أن تنسينا تلك الحقيقة الإلهية، وذلك الأجل المحتوم.

لكن لا بد لنا من تذكر تلك الحقيقة، والوقوف معها وقفات صادقة، والنظر إليها نظرات معتبرة.

أيها الأخ الحبيب: جاء في دفتر الحكمة، وديوان الموعظة: "الموت باب الآخرة، وقال الحسن البصري: ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشكٍ لا يقين فيه من الموت، وقال غيره: الناس في الدنيا أغراضٌ تتنصل فيها سهام المنايا، كأن من غاب لم يشهد، ومن مات لم يولد، وقالت العرب: ستساق إلى ما أنت لاقٍ، وقال ابن المعتز: الموت كسهمٍ مرسلٍ إليك، وعمرك بقدر سفره نحوك، الناس وفد البلى، وسكان الثرى، ورهن المنايا، وقال غيره: مرارة الموت في خوفه، الموت يأتي كل محتجبٍ ولا يستأذن"3.

وقد قال الله – تعالى -: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}4، فيا أيها المسلم الحبيب أدرك نفسك قبل أن تقول ذلك، وحتى لا نقول ذلك – بإذن الله – أحببنا أن نقف على بعض وصايا المحتضرين التي خرجت من قلوبهم، وودّ أكثرهم لو يُمد في عمره حتى يعمل بوصية نفسه

أيْ أخي فاسمعْ وصايا جُمعتْ       من فم الموت وفرش المحتضَر

الوصية الأولى: التقوى والصلاة:

وأعظم وصية بشرية هي وصية نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم -، تلك الوصية الخالدة التي أوصى بها أمته إلى يوم القيامة، وهي تعتبر سفينة نجاة، وبر أمان، وعنوان سلام لمن تمسك بها، وعضَّ عليها بالنواجذ، لذا نستهل هذه الوصايا بوصيته – صلى الله عليه وسلم – وهو على فراش احتضاره – فديناه بآبائنا وأمهاتنا -:

جاء عن أم سلمة – رضي الله عنها – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يقول في مرضه: ((اتقوا الله في الصلاة، وما ملكت أيمانكم)) وزاد: وجعل يكررها، وورد بلفظ: كانت عامة وصية رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم)) حتى جعل يغرغر بها في صدره، وما يفيض بها لسانه5.

الوصية الثانية: العمل الصالح:

فعن زبيد بن الحارث قال: "لما حضرت أبا بكر الوفاة أرسل إلى عمر يستخلفه، فقال له: إني أوصيك بوصية أن تحفظها: إن لله حقاً بالليل لا يقبله بالنهار، وإن لله حقاً في النهار لا يقبله في الليل، والله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا، وثقله عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلاً، وإنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا، وخفته عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه يوم القيامة إلا الباطل أن يكون خفيفاً.

ألم تر أن الله ذكر أهل الجنة وصالح ما عملوا، وتجاوز عن سيئاتهم، فيقول القائل: لا أبلغ هؤلاء، وذكر أهل النار وسيئ ما عملوا،؛ فرد عليهم صالح ما عملوا، فيقول القائل: أنا خير من هؤلاء، وذكر آية الرحمة، وآية العذاب ليكون المؤمن راغباً وراهباً، ولا يتمنى على الله غير الحق، ولا يلقي بيده إلى التهلكة، فإن أنت حفظت قولي هذا فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت، ولا بد منه، وإن أنت ضيعت قولي فلا يكونن غائب أبغض إليك من الموت، ولن تعجزه"6.

الوصية الثالثة: عدم الاغترار بثناء الناس:

فعن الشعبي عن ابن عباس – رضي الله عنه -: أنه دخل على عمر – رضي الله عنه – حين طُعن فقال: "أبشر يا أمير المؤمنين، أسلمت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين كفر الناس، وقاتلت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين خذله الناس، وتوفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو عنك راض، ولم يختلف في خلافتك رجلان، وقتلت شهيداً؛ فقال: أعد، فأعاد، فقال: المغرور من غررتموه، لو أن ما على ظهرها من بيضاء وصفراء لافتديت به من هول المطلع"7.

الوصية الرابعة: من لم يقاس الدهر لم يعرف الأسى:

عن العلاء بن الفضل عن أمه قال: "لما قُتل عثمان فتشوا خزانته فوجدوا فيها صندوقاً مقفلاً ففتحوه، فوجدوا فيه ورقة مكتوب فيها: هذه وصية عثمان: بسم الله الرحمن الرحيم عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الله يبعث من في القبور ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، عليها يحيا، وعليها يموت، وعليها يبعث إن شاء الله" خرجه الفضائلي والرازي، وخرجه نظام الملك، وزاد: "ووجدوا في ظهرها مكتوباً:

غنى النفس يغني النفس حتى يجلها             وإن غضها حتى يَضُر بها الفقر

وما عسرة فاصبر لها إن لقيـتها              بكــائنة إلا سيتبعها يسـر

ومن لم يقاس الدهر لم يعرف الأسى                   وفي غِيَر الأيام ما وعد الدهر"8

الوصية الخامسة: اتقوا الله واعملوا صالحاً:

"وذُكر أن ابن مُلجم لما ضرب علياً – رضي الله عنه – أُدخل (أي عليٌ) منزله، فاعترته غَشية، ثم أفاق، فدعا الحسن والحسين فقال: "أوصيكما بتقوى الله – تعالى -، والرغبة في الآخرة، والزُّهد في الدنيا، ولا تأسفا على شيء فاتكما منها، واعملا الخير، وكونا للظالمين خصماً، وللمظلوم عوناً"، ثم دعا محمداً فقال: "أما سمعت بما أوصيت به أخويك؟" قال: بلى، قال: فإني أوصيك به، وعليك ببرِّ أخويك وتوقيرهما، ومعرفة فضلهما، ولا تقطع أمراً دونهما"، ثم أقبل عليهما فقال: "أوصيكما به خيراً؛ فإنه سيفكما، وابن أبيكما، وأنتما تعلمان أن أباه كان يحبُّه فأحبَّاه"9.

أيها الأخ الفاضل: كانت هذه درر من وصايا المحتضرين الأعلام، ومنارات من خواتيم الكلام، وإشارات على الطريق إلى الواحد العلام، تأملها أيها المسلم الموفق، وليكن لك فيها أحسن قدوة، ولك منها أوفر حظوة، والزمها فثمّ الجنة – إن شاء الله تعالى -، والحمد لله رب العالمين.


 


1 سورة الزمر (30).

2 شرح لامية ابن الوردي (1/3).

3 التمثيل والمحاضرة (1/84).

4 سورة سبأ (54).

5 صحح الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (868) كل هذه الروايات، وأصل الحديث في الأدب المفرد، ومسند أحمد وغيرهما.

6 الزهد لأبي داود برقم (28).

7 صحيح ابن حبان بتحقيق الأرناؤوط (15/314).

8 الرياض النضرة في مناقب العشرة للمحب الطبري (1/229).

9 الجوهرة في نسب النبي وأصحابه العشرة (1/309).