لمسات في الإلقاء

لمسات في الإلقاء

الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدَّر فهدى، وصلى الله على نبي الهدى الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وعلى آله وصحبه منابر التقى، ومنائر الدعوة الأولى وسلم تسليماً أوفى، أما بعد:

فما بين كلمتي "الخطيب والطبيب" من تقارب في الجرس الصوتي، وتركيب الكلمة، وتشابه السجعة، وتناغم في النطق؛ تشابه إلى حد كبير، وذلك هو الأمر الذي لو قيل للخطيب تشبَّه بأحد العاملين القائمين على مصالح الخلق لكان الأجدر أن يكون المقلَّد هو الطبيب.

وللخطيب أن يحاكي الطبيب في عدة أمور تعين على وصول ما يريد إلى قلوب الناس.

فالطبيب مثلاً يكون على قدر كبير من معرفة نفسية المريض، والضرر الذي فيه، وأسباب المرض، وطرق علاجه، وما يتفاداه فيما لو كان بعض العلاج النافع المهم قد يعوقه ألم آخر، إذ ربما لا يُستخدم علاجٌ ما حتى يختبر المريض فيما لو كان لديه عرضة تحسس مثلاً، فلا يعطى، وما أكثر ما يقوم الطبيب بجس النبض، وقياس الحرارة؛ قبل مزاولة المعاينات.

وما أليق بالخطيب أن يرى في جمهوره ما يراه الطبيب في قاصديه.

فالجمهور يحتاج إلى من يراعي مستواه المعرفي والعلمي، والعقلي والعاطفي، بل والمستوى المعيشي والاجتماعي؛ لينسجم معه، ويتلاءم كلامه مع أسماعهم، بحيث إن تكلم الخطيب لا يجد كلامه محلاً غير قلوبهم.

والخطيب حاذق حكيم، فليس في مفهومه أن الخطابة بأنواعها هي مجرد كلام يقال للناس من واقف أو جالس أمامهم، بل يدرك أنها مزيج من الكلام، والمشاعر، والحركة، والإقناع، وكم هي الأمور التي تعين في الإلقاء، وتساعد على توصيل مهمته، وعليه فينبغي مراعاة الناس قبل وأثناء وبعد الخطبة، أو الكلمة، أو المحاضرة التي ستلقى عليهم من عدة جوانب:

       مراعاة الفروق الفردية والاجتماعية بينهم.

   مراعاة لغتهم، فلا يشطط فيتكلم بكلام المعاجم، ولا يهبط فيتكلم بكلام الأعاجم، كما قد لا يناسب الخطاب العلمي الصِّرف، وكلام الأصوليين، ولهجة الفقهاء والمحققين، وكما قيل: "النحو بين العامة كاللحن بين الخاصة"، فعليه بجوامع الكلم، وجودة العبارة، وجزالة اللفظ، وانتقاء الكلمات

بلســـانٍ صيرفيٍّ صارمٍ          كذبابِ السيف ما مسَّ قطعْ

سحرُ هاروتَ وماروتَ ولو         كلّـم الصخرَ بحقٍ لانصدعْ

   مراعاة المعارف السابقة، والثقافة السائدة، والمعاني المستقرة لديهم؛ سواء أراد نقضها أو تأسيسها، فقد يحتاج إلى بعضها لتكون رافداً، أو مفتاحاً لطرح ما يريد.

       مراعاة حاجة الناس لا حاجة الخطيب، فيتكلم بما يهمهم ويحقق لهم غاية، لا ما يهمه هو.

   مراعاة ردة الفعل ماذا لو كانت مستنكِرة ما يقول جملة وتفصيلاً، فيتحاشاها بتدرج، أو ضرب مثل، أو عرض قصة، أو ذكر ما يتفق معهم فيه مماثل لما يريد تأسيسه اليوم.

       مراعاة الأولويات، والأهم فالمهم.

       مراعاة الواقع، والأحداث والمواسم، والمناسبات والظروف الآنية حين يتكلم.

   مراعاة أنظار الناس، فلا يشتتها بحركاته الخاصة، وحكته، وإصلاحه لزيه أثناء خطابه، ولا يكثر من الحركة الغير لائقة به في مقامه، ولا يعكس الحركات بصورة تلفت النظر كأن يشير إلى الكبير بتصغير ما بين أصبعيه، أو يشير إلى مشرق الأرض ومغربها بعكس ما هي عليه، أو تحديد أحد الحاضرين بإشارة ما… إلخ فينبغي التوازن في الحركة، كما ينبغي التوازن بالنظر إلى الجميع، فلا يظل محدقاً على ورقته، أو على شخص معين؛ إنما يلتفت لهذا وذاك، ويسع الجميع بحدقة عينيه.

   مراعاة ملل الناس وتفاعلهم، فإذا ما شاهد الأغلب ساعته، أو تثاءب؛ فأفضل كلمة يقولها الخطيب هي السكوت، والاستعداد للنزول.

   مراعاة الجانب العاطفي في الناس، فهذا التنويع في المواضيع له أهمية كبرى، فمن خطاب تعليمي، إلى خطاب حماسي، إلى خطاب عاطفي، وكما قيل: أبلغ موعظة العالم بكاؤه، غير أن التباكي والتظاهر بالحزن، والتصنع وتكلف الألم والحميَّة تظهر سطحية في نفوس السامعين فلا يكون لها الأثر المطلوب.

   مراعاة أساليب التنبيه والتأثير كالنداء، والتنقل من شعر إلى مَثل، إلى سؤال، إلى استنكار، إلى يمين، إلى رفع صوت إلى كلمة هادئة، إلى تعجب، إلى خطاب أشبه بالصريح كخطاب زيد وعمرو، وخالد وحسين، ويراد به الجنس لا العين.

   مراعاة الوقت فمن يُطِلْ يُمِلّ، ولئن ينزل الخطيب ويقال له: زدنا، خير من أن ينزل ويقال: أحسنت، فعن واصل بن حيَّان قال: قال أبو وائل: خطَبَنَا عمار، فأوجز وأبلغ، فلما نزل، قلنا: يا أبا اليقظان، لقد أبلغتَ وأوجزتَ، فلو كنتَ تنفستَ – أي أطلت قليلاً -؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته؛ مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحراً)) رواه مسلم (869).

   مراعاة أسلوب العرض، والترتيب للموضوع، وطرحه مبسطاً ميسوراً، فليس المقام غالباً مقام تأصيل وتحقيق وتنقيح، بخلاف ما يحتاج إلى تأصيله كالأفكار الهدامة، والشبهات المنتشرة؛ ليقتلعها من جذورها، والحكَمُ في هذا معرفة الخطيب لأحوال الناس، ومدى تقبلهم.

   مراعاة تكامل الموضوع، فلا يبقى الموضوع معلقاً إلى مرة أخرى لعلها لا تأتي، أو لا يأتي السامعون الأُوَل، فاكتمال الموضوع وتكامله أبلغ من تجزيئه، وانتقالاته وانتقاءآته.

   مراعاة استغلال بعض أساليب التأثير كالمقارنات بين الأضداد مثل: الصالحين والطالحين، ورجل مات ساجداً وآخر على تنتنا تنتنا، وآخر يحفظ كتاب الله وزميله يحفظ جديد الأغاني… إلخ، واستخدام الإحصائيات، والاستعانة بأشياء ملفتة للجمهور متعلقة بالموضوع فعن عبد الله بن عمرو قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إحدى يديه ثوب من حرير، وفي الأخرى ذهب، فقال: ((إن هذين محرم على ذكور أمتي، حلٌّ لإناثهم))1، وربما اصطحب الخطيب مجلة، أو صحيفة؛ ليقتبس منها شيئاً بنصه كوسيلة إثبات أو تقرير، وأحد الخطباء قام ومعه ملابس أطفال متسخة بل ومتنجسة؛ ليري الناس التهاون في رمي الملابس الصالحة للاستخدام، وآخر بمثل هذا؛ لكن ليري الناس أن فيها مكتوب لفظ الجلالة، وشبيه بهذا قام أحدهم وهو يحمل كيساً أخرج من داخله أوراق مصحف مقطع جمعه – جزاه الله خيراً – من براميل القمامة، وهو في كلامه عن تعظيم حرمات الله.

   والختام بما بدئ به، فثمت أمور كثيرة ينبغي على الخطيب أن لا يكون فيها متكلماً فحسب بل لا ينسى أن يتقمص قميص الطبيب الأبيض، ويصطحب معه قلبه ليراعي مواضع الألم، وليدرك حالات الشفاء، ومراحل العلاج، وأولويات المهمات.

والله نسأل أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا.


 


1ابن ماجه (3597)، وصححه الألباني.