منافع الحجّ الأخروية

منافع الحجّ الأخروية

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فقد أخبر – تعالى – عن حجاج بيته الحرام، وأنهم جاءوا: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}1، قَالَ ابن أبي حاتم: "منافع في الدُّنْيَا ومنافع في الآخرة، فأما منافع الآخرة فرضوان الله – عز وجل -، وأما منافع الدُّنْيَا فَمَا يصيبون مِنْ لحوم البدن في ذَلِكَ اليوم، والذبائح، والتجارات"2، وقال الطبري: "عنى بذلك ليشهدوا منافع لهم من العمل الذي يرضي الله والتجارة، وذلك أن الله عمَّ لهم منافع جميع ما يشهد له الموسم، ويأتي له مكة أيام الموسم من منافع الدنيا والآخرة، ولم يخص من ذلك شيئاً من منافعهم بخبر ولا عقل".

إن مناسك الحجّ ترشد إلى معان كثيرة، لا يصح لحاج تخطيها دون تأمل وإدراك، وإمعان النظر فيها; لأن فهم الحكمة التشريعية منها تزيد النفس متعة، وتبعث لأداء التكاليف الشرعية، والطاعات الإلهية، وتحقق مغزى الحجّ على النهج الرباني المقصود به خير الإنسان وإسعاده، فالإحرام والتجرّد من لباس الرجال – ما عدا ستر العورات بملابس الإحرام المعروفة – يقمع شهوات النفس والأهواء، ويبعد الناس عن التفكير في الدنيا، ويوجه الإنسان إلى الخالق، والتفكر بقدسيته وعظمته وجلاله، ويؤدي إلى سمو الروح، وترقي الوجدانات والضمائر، وإظهار الخضوع والتواضع لله – تعالى -، والبعد عن شوائب الكبرياء والغرور، وعلاج أمراض النفس من حبّ الاستعلاء، ومزامنة الحقد والشحناء، وإخلاص العمل لله – جلّ جلاله -، وبغير الإخلاص لله الذي هو جوهر الدين فإنه لا قيمة لأي عمل، ولا فضل لأي مسلم في عبادة ومعاملة وخلق وغير ذلك.

ومن أهم مقومات الإخلاص: التسامح مع المسلمين، وتطهير النفوس من البغضاء والأحقاد والخصومات لهم، سواءً المعاصرون أم الغابرون عملاً بقول الله – تبارك وتعالى -: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}3.

إن نشيد التلبية الذي يردّده الحجّاج بدءاً من الإحرام حتى صباح يوم العيد بعد رجم جمرة العقبة الكبرى شاهد حي، وواقع ملموس؛ على صدق التوجه إلى الله – تعالى -، والترفع عن أوساخ الدنيا وشهواتها، والتذكير الدائم بطاعة الله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.

والحضور إلى بيت الله الحرام لزيارته يحقّق منافع الدنيا والآخرة; لأن شهود الكعبة المشرفة إرواء لتعلق القلوب المتلهفة لها، والإنسان مجبول على حبّ النفع.

والطواف حول البيت الحرام يؤكّد وحدة المسلمين العامة، ويدل على التشبه بملائكة الرحمن الحافِّين من حول العرش، وتصعيد الروح نحو العلو الإلهي، وعروج إلى ملكوت الله بالقلب والفكر، وتذكير دائم بصاحب البيت وهو الله – جلّ وعلا -، وتجديد العهد مع الله على الإقرار بربوبيته ووحدانيته بدءاً من نقطة الانطلاق في الطواف بالحجر الأسود أو الأسعد; ليكون قرينة أو أمارة على وحدة العمل بين الناس، وطريقاً لإنفاذ عهد الله على الحقّ والعدل، والخير والتوحيد والفضيلة، وهذا العهد الإلهي القديم أشار إليه القرآن المجيد في قوله – تعالى -: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}4.

كما أن السعي بين الصفا والمروة تردد في معالم الرحمة الإلهية، والتماس للمغفرة والرضا الرباني، وتلمس لأفضال الله وخيراته، وطلب عونه لتحمل مشاق الحياة كما فعلت السيدة هاجر زوج إبراهيم الخليل – عليه السلام – حين أعوزها الماء، فقامت تسعى ضارعة إلى الله – تعالى – لإرواء ظمئها، وسدّ حاجة ابنها إسماعيل – عليه السلام – قال الله – تعالى -: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}5.

ومن المنافع أيضاً: الوقوف بعرفة في ساحة الرضوان الإلهي، الساحة الواحدة الشاملة لجميع الحجّاج، إقبال خالص على الله – عزّ وجلّ -، واتصال روحاني مباشر مع الله، واحتماء بسلطان الله، وطلب فضله ورحمته موقناً الحاج بإجابة دعائه.

وأما الرمي يوم العيد وأيام التشريق الثلاثة فهو رمز مادي لمقاومة وساوس الشيطان وأهوائه، والتخلص من نزعات الشر، ومحاربة الفساد والانحراف، فهو كما يقول المناطقة: "محسوس يدل على معقول" فيكون رمي الجمرات، واستلام الحجر الأسود، والطواف حول الكعبة؛ تمثيلاً للحقائق بصور المحسوسات، ورمزاً لمعان عميقة بصور حركية مادية، تذكّر المؤمن بأهدافها وغاياتها، وتحمله على استدامة المقاومة لشرور النفس ونزعاتها.

هذا هو القصد من هذه الشعائر وليس كما يتصور سخفاء العقول من المستشرقين وضعفاء الإيمان؛ أن مناسك الحجّ دوران حول أحجار، وتعظيم للرموز المادية، وامتداد للوثنية، كما تنتهي هذه الشعائر بذبح الأضاحي والنذور، وكذا الفديات والجزاءات لمن خالف المناسك; ليكون ذلك الوداع الأخير للرذيلة بإراقة الدم تعبيراً عن التخلص منها، والتزام فضيلة التضحية والفداء كما قال الله – تعالى -: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}6.

كلّ هذه الشعائر والمناسك ذات المنافع الأخروية تدل دلالة قوية على الثقة بالله، وطلب أفضاله، وتشعر الإنسان في أعماق نفسه بعظمة الله وجلاله ،وحلاوة مناجاته وعبادته، وطلب رضاه وقربه، فيكثر البكاء، ويشتدّ النحيب، وتصفو النفوس، وتتكاثر حالات التوبة النصوح الخالصة لله، والندم على الماضي، هذا فضلاً عن تذكر أهل الإيمان بماضي الإسلام، وجهاد نبيّ الله وصحبه الكرام في نشر دعوة الله، وتحطيم معاقل الشرك، وهدم معالم الوثنية، وتهاوي الأصنام، وانتصار دعوة الحقّ والتوحيد، وما أجمل منافع الحجّ في حديث رواه ابن ماجة: ((الحجاج والعمّار وفد الله، إن سألوا أُعطوا، وإن دعوا أُجيبوا، وإن أنفقوا أُخلف لهم))7.

وصلى الله على محمد وآله و سلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 


1 سورة الحج (27).

2 في تفسيره (ج9/ص375).

3 سورة الحشر (10).

4 سورة الأعراف (172).

5 سورة البقرة (158).

6 سورة الحج (37).

7 سنن ابن ماجة برقم (2892).