إشراقات على بعض آيات الحج

إشراقات على بعض آيات الحج*

 

الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه المبين: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}1.

يرجع السياق إلى نشأة هذا البيت الحرام الذي يستبد به المشركون فيعبدون فيه الأصنام, ويمنعون منه الموحدين لله, المتطهرين من الشرك، يرجع إلى نشأته على يد إبراهيم – عليه السلام – بتوجيه ربه وإرشاده، ويرجع إلى القاعدة التي أقيم عليها وهي قاعدة التوحيد، وإلى الغرض من إقامته وهو عبادة الله الواحد, وتخصيصه للطائفين به والقائمين لله فيه.

فللتوحيد أقيم هذا البيت منذ أول لحظة حين عرَّف الله مكانه لإبراهيم – عليه السلام -، وملَّكه أمره ليقيمه على هذا الأساس: {ألا تشرك بي شيئاً} فهو بيت الله وحده دون سواه، وليطهره للحجيج, والقائمين فيه للصلاة: {وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} فهؤلاء هم الذين أنشى ء البيت لهم؛ لا لمن يشركون بالله, ويتوجهون بالعبادة إلى سواه.

ثم أمر الله إبراهيم – عليه السلام – باني البيت إذا فرغ من إقامته على الأساس الذي كلف به؛ أن يؤذن في الناس بالحج، وأن يدعوهم إلى بيت الله الحرام، ووعده أن يلبي الناس دعوته, فيتقاطرون على البيت من كل فج, رجالاً يسعون على أقدامهم, وركوباً {وعلى كل ضامر} جَهَدَهُ السير فضَمُرَ من الجهد والجوع: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق}.

وما يزال وعد الله يتحقق منذ إبراهيم – عليه السلام – إلى اليوم والغد، وما تزال أفئدة من الناس تهوى إلى البيت الحرام، وترف إلى رؤيته والطواف به؛ الغني القادر الذي يجد الظهر يركبه، ووسيلة الركوب المختلفة تنقله، والفقير المعدم الذي لا يجد إلا قدميه، وعشرات الألوف من هؤلاء يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة تلبية لدعوة الله التي أذَّن بها إبراهيم – عليه السلام – منذ آلاف الأعوام.

ويقف السياق عند بعض معالم الحج وغاياته: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}2.

والمنافع التي يشهدها الحجيج كُثُر: فالحج موسم ومؤتمر، موسم تجارة، وموسم عبادة، ومؤتمر اجتماع وتعارف, ومؤتمر تنسيق وتعاون، وهو الفريضة التي تلتقي فيها الدنيا والآخرة، كما تلتقي فيها ذكريات العقيدة البعيدة والقريبة، كما أن أصحاب السلع والتجارة يجدون في موسم الحج سوقاً رائجة حيث {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}3 من أطراف الأرض، ويقدم الحجيج من كل فج، وكل قطر، معهم من خيرات بلادهم ما تفرق في أرجاء الأرض في شتى المواسم، يتجمع كله في البلد الحرام في موسم واحد، فهو موسم تجارة، ومعرض نتاج، وسوق عالمية تقام في كل عام.

وهو موسم عبادة تصفو فيه الأرواح وهي تستشعر قربها من الله في بيته الحرام، وتستروح الذكريات التي تحوم عليه، وترف كالأطياف حول هذا البيت من قريب ومن بعيد.

تأمل في طيف إبراهيم الخليل – عليه السلام – وهو يودع البيت، وفلذة كبده إسماعيل، ويتوجه بقلبه الخافق الواجف إلى ربه: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}4.

وطيف هاجر وهي تستروح الماء لنفسها ولطفلها الرضيع في تلك الحرة الملتهبة حول البيت, وهي تهرول بين الصفا والمروة قد نهكها العطش, وهدَّها الجهد، وأضناها الإشفاق على الطفل، ثم ترجع في الجولة السابعة؛ وقد حطمها اليأس لتجد النبع يتدفق بين يدي الرضيع الوضيء، وإذا هي بزمزم ينبوع الرحمة في صحراء اليأس والجدب.

وطيف إبراهيم – عليه السلام – وهو يرى الرؤيا فلا يتردد في التضحية بفلذة كبده, ويمضي في الطاعة المؤمنة إلى ذلك الأفق البعيد: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}5، وإذا رحمة الله تتجلى في الفداء: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}6.

وطيف إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – وهما يرفعان القواعد من البيت في إنابة وخشوع: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}7.

وتظل هذه الأطياف وتلك الذكريات ترف وتتتابع حتى يلوح طيف عبد المطلب وهو ينذر دم ابنه العاشر إن رزقه الله عشرة أبناء، وإذا هو عبد الله، وكان عبد المطلب حريصاً على الوفاء بالنذر، وقومه من حوله يعرضون عليه فكرة الفداء، ثم هو يدير القداح حول الكعبة، ويضاعف الفداء, والقدح يخرج في كل مرة على عبد الله, حتى يبلغ الفداء مئة ناقة بعد عشر وهي الدية المعروفة، فيقبل منه الفداء, فينحر مئة وينجو عبد الله، ينجو ليودع رحم آمنة أطهر نطفة، وأكرم خلق الله على الله محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم يموت، فكأنما فداه الله من الذبح لهذا القصد الوحيد الكريم الكبير.

ثم تتواكب الأطياف والذكريات من محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يدرج في طفولته وصباه فوق هذا الثرى حول هذا البيت، ثم وهو يرفع الحجر الأسود بيديه الكريمتين فيضعه موضعه ليطفئ الفتنة التي كادت تنشب بين القبائل، ثم وهو يصلي، ويطوف، وهو يخطب، وهو يعتكف، وإن خطواته – عليه الصلاة والسلام – لتنبض حية في الخاطر, وتتمثل شاخصة في الضمير، يكاد الحاج هناك يلمحها وهو مستغرق في تلك الذكريات، وخطوات الحشد من صحابته الكرام وأطيافهم ترف وتدق فوق هذا الثرى حول ذلك البيت تكاد تسمعها الأذن، وتكاد تراها الأبصار.

والحج بعد ذلك كله مؤتمر جامع للمسلمين قاطبة؛ مؤتمر يجدون فيه أصلهم العريق الضارب في أعماق الزمن منذ أبيهم إبراهيم الخليل – عليه السلام -: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا}8، يجدون محورهم الذي يشدهم جميعاً إليه: هذه القبلة التي يتوجهون إليها جميعاً، ويلتقون عليها جميعاً، ويجدون رايتهم التي يفيئون إليها، راية العقيدة الواحدة التي تتوارى في ظلها فوارق الأجناس والألوان والأوطان .. ويجدون قوتهم التي قد ينسونها حيناً؛ قوة التجمع والتوحد والترابط الذي يضم الملايين فلا يقف لها أحد لو فاءت إلى رايتها الواحدة التي لا تتعدد "راية العقيدة والتوحيد".

وهو مؤتمر للتعارف والتشاور، وتنسيق الخطط، وتوحيد القوى, وتبادل المنافع والسلع والمعارف والتجارب، وتنظيم ذلك العالم الإسلامي الواحد الكامل المتكامل مرة في كل عام، في ظل الله، بالقرب من بيت الله، وفي ظلال الطاعات البعيدة والقريبة, والذكريات الغائبة والحاضرة، وفي أنسب مكان، وأنسب جو، وأنسب زمان، فذلك إذ يقول الله سبحانه: {ليشهدوا منافع لهم} كل جيل بحسب ظروفه وحاجاته، وتجاربه ومقتضياته، وذلك بعض ما أراده الله بالحج يوم أن فرضه على المسلمين, وأمر إبراهيم – عليه السلام – أن يؤذن به في الناس.

ويمضي السياق يشير إلى بعض مناسك الحج وشعائره وأهدافه: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} وهذه كناية عن نحر الذبائح في أيام العيد، وأيام التشريق الثلاثة بعده، والقرآن يقدم ذكر اسم الله المصاحب لنحر الذبائح؛ لأن الجو جو عبادة؛ ولأن المقصود من النحر هو التقرب إلى الله، ومن ثَمَ فإن أظهر ما يبرز في عملية النحر هو ذكر اسم الله على الذبيحة، وكأنما هو الهدف المقصود من النحر لا النحر ذاته، والنحر ذكرى لفداء إسماعيل – عليه السلام -، فهو ذكرى لآية من آيات الله، وطاعة من طاعات عبديه إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام -؛ فوق ما هو صدقة وقربى لله بإطعام الفقراء من بهيمة الأنعام وهي الإبل، والبقر، والغنم، والمعز {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير}، والأمر بالأكل من الذبيحة يوم النحر هو أمر للإباحة أو الاستحباب، أما الأمر بإطعام البائس الفقير منها فهو أمر للوجوب، ولعل المقصود من أكل صاحبها منها أن يشعر الفقراء أنها طيبة كريمة.

وبالنحر ينتهي الإحرام فيحل للحاج حلق شعره أو تقصيره, ونتف شعر الإبط, وقص الأظافر؛ وكل ما كان ممنوعاً عليه في فترة الإحرام (إن تحلل التحلل الأكبر)، وهو الذي يقول عنه: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم} التي نذروها من الذبائح غير الهدي الذي هو من أركان الحج {وليطوفوا بالبيت العتيق} طواف الإفاضة بعد الوقوف بعرفات, وبه تنتهي شعائر الحج، وهو غير طواف الوداع.

والبيت العتيق هو المسجد الحرام؛ حماه الله فلم يغلب عليه جبار، وحماه الله من البلى والدثور فما يزال معموراً منذ إبراهيم – عليه السلام -، ولا يزال كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

اللهم احفظ بيتك من كيد الكائدين، واعتداء المعتدين، ومؤامرة المتآمرين، اللهم وفقنا لحجه وزيارته يا خير مأمول، وصلى الله على سيدنا محمد وآله، والحمد لله رب العالمين.


* قراءة تفسيريه من خلال كتاب الظلال لسيد قطب – رحمه الله – من سورة الحج.

1 الحج (26-29).

2 الحج (27-29).

3 القصص (75).

4 سورة إبراهيم (37).

5 سورة الصافات (102).

6 الصافات (4- 7).

7 البقرة (127- 128).

8 الحج (78).