الحج على الرحل

الحج على الرحل

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: فقد روى الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بَعَثَ مَعَهَا أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَأَعْمَرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ، وَحَمَلَهَا عَلَى قَتَبٍ، وَقَالَ عُمَرُ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "شُدُّوا الرِّحَالَ فِي الْحَجِّ فَإِنَّهُ أَحَدُ الْجِهَادَيْنِ"1 والرحل: بفتح الراء وسكون المهملة وهو للبعير كالسرج للفرس، والمقصود بهذا أن التقشف أفضل من الترفه، قوله: "وحملها على قتب" وهو بفتح القاف والمثناة بعدها موحدة رحل صغير على قدر السنام، وورد بلفظ: "فأحقبها" أي أردفها على الحقيبة وهي الزنار الذي يجعل في مؤخر القتب، وقوله في رواية أخرى "على قتب" أي حملها على مؤخر قتب، والحاصل أنه أردفها، وكان هو على قتب فالقصة واحدة، وقول عمر: "شدوا الرحال في الحج فإنه أحد الجهادين" معناه: إذا فرغتم من الغزو فحجوا واعتمروا، وتسمية الحج جهاداً إما من باب التغليب، أو على الحقيقة، والمراد جهاد النفس لما فيه من إدخال المشقة على البدن والمال.

وعن خالد الأعور قال: خالفني ذر الهمداني في الحج على المحمل والقتب أيهما أفضل؟ قال ذر: المحمل, قال: فسألت إبراهيم فقال: القتب2.

وعن إسحاق بن سعيد القرشي عن أبيه عن ابن عمر أنه رأى رفقةً من أهل اليمن رحالهم الأدم فقال: "من أحب أن ينظر إلى أشبه رفقة بأصحاب محمد فلينظر إلى هؤلاء"3، وروى نافع عن ابن عمر أنه كان يحج على رحل، وقال: طاووس: "حج الأبرار على الرحال"، وعن أنس بن مالك قال: حج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على رحل، وقطيفته تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي، ثم قال: ((اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة))4، وعن عبد الله بن الحارث  أن النبي – صلى الله عليه وسلم-  حج على رحل فاهتز، وقال مرة فاحتيج فقال: ((لبيك إن العيش عيش الآخرة))5، وعن هشام عن محمد قال: كان يكره الحج على المحمل ويقول: "إنما كان الناس يحجون على الأقتاب والرحال"6.

وجاء من حديث ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: "حَجَّ أَنَسٌ عَلَى رَحْلٍ، وَلَمْ يَكُنْ شَحِيحاً، وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حَجَّ عَلَى رَحْلٍ وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ"7، ومعنى قوله: "وكانت زاملته" أي الراحلة التي ركبها، وهي وإن لم يجر لها ذكر لكن دل عليها ذكر الرحل، والزاملة: البعير الذي يحمل عليه الطعام والمتاع من الزمل وهو الحمل، والمراد: أنه لم تكن معه زاملة تحمل طعامه ومتاعه، بل كان ذلك محمولاً معه على راحلته، وكانت هي الراحلة والزاملة، وروى سعيد بن منصور من طريق هشام بن عروة قال: "كان الناس يحجون، وتحتهم أزودتهم، وكان أول من حج على رحل وليس تحته شيء عثمان بن عفان"، وقول ثمامة: "ولم يكن شحيحاً" فيه إشارة إلى أنه فعل ذلك تواضعاً واتباعاً لا عن قلة وبخل.

وروى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – أَنَّهَا قَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْتَمَرْتُمْ وَلَمْ أَعْتَمِرْ، فَقَالَ: ((يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ اذْهَبْ بِأُخْتِكَ فَأَعْمِرْهَا مِنْ التَّنْعِيمِ))، فَأَحْقَبَهَا عَلَى نَاقَةٍ فَاعْتَمَرَتْ"8.

وهذا الحديث: احتج به قوم منهم عمرو بن دينار على أن ميقات العمرة لمن كان بمكة هو التنعيم، وقال جمهور العلماء من التابعين وغيرهم منهم أبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وآخرون وقت العمرة لمن كان بمكة الحل وهو خارج الحرم، فمن أي الحل أحرموا بها جاز سواء ذلك التنعيم أو غيره من الحل، وقال الطحاوي: "قد يجوز أن يكون النبي – صلى الله عليه وسلم – قصد إلى التنعيم؛ لأنه كان أقرب المحل منها؛ لأن غيره من الحل ليس هو في ذلك كهو، ويحتمل أيضاً أن يكون أراد به التوقيت لأهل مكة في العمرة فنظرنا في ذلك فإذا يزيد بن سنان قد حدثنا قال حدثنا عثمان بن عمر قال حدثنا أبو عامر صالح بن رستم عن ابن أبي مليكة عن عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: "دخل علي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بسرف وأنا أبكي فقال: ((ما ذاك)) قلت: حضت قال: ((فلا تبكي إصنعي ما يصنع الحاج))،  فقدمنا مكة ثم أتينا منى ثم غدونا إلى عرفة ثم رمينا الجمرة تلك الأيام، فلما كان يوم النفر فنزل الحصبة، قالت: والله ما نزلها إلا من أجلي، فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر – رضي الله تعالى عنه – فقال: ((احمل أختك فأخرجها من الحرم))، قالت: والله ما ذكر الجعرانة، ولا التنعيم، فكان أدناها من الحرم التنعيم، فأهللت بعمرة فطفنا بالبيت، وسعينا بين الصفا والمروة، ثم أتينا فارتحل9، فأخبرت عائشة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يقصد لما أراد أن يعمرها إلا إلى الحل لا إلى موضع منه بعينه خاصاً، وأنه إنما قصد بها عبد الرحمن التنعيم لأنه كان أقرب الحل إليهم لا لمعنى فيه يبين به من سائر الحل غيره، فثبت بذلك أن وقت نزول أهل مكة لعمرتهم الحل، وأن التنعيم في ذلك وغيره سواء" أ.هـ.

وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


1 رواه البخاري برقم (1518).

2 رواه ابن أبي شيبة برقم (15801).

3 رواه أبو داود برقم (4144) ولم أجد من حكم عليه.

4 رواه البخاري برقم (2890).

5 رواه ابن أبي شيبة في مصنفه برقم (15806)

6 رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (ج3 ص442).

7 رواه البخاري برقم (1517).

8 رواه البخاري برقم (1518).

9 رواه أحمد برقم (26127), وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده ضعيف على نكارة في متنه.