عمرة القضاء
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
لم يكن لرسول الله ﷺ ولا لأحد من المهاجرين أن يصبر على فراق أهله ومسقط رأسه، وبلدِه التي ترعرع فيها، واشتم نسيمها، خالط دمَه ريحها، وتخلدت الذكريات فيها.. ركض هنا ولعب هنا.. وعاش طفولته هناك، حتى اشتد كاهله ورعى في ذلك الوادي، وصعد ذلك الجبل مع أولئك الرفاق رفاق الصبا، وباع هناك واشترى وصاحب وعادى.. إنها ذكريات عميقة تبعث من النفس نفَساً عميقاً مصحوباً بشيء من ألم، إلا أن الله منَّ عليهم بما هو خير من ذكريات الصباً وتباريح الجوى، فلم تتحرك عندهم العاطفة، ولم يُستثَر الحنينُ والشوق إلى أرضهم إلا حباً لصلة الأرحام، وتعظيم شعائر الله، فهذه في الحقيقة هي المشاعر، وتلك هي الحياة، وإنها لذكرى لأولي الألباب، ما كان أمراً مفترى، ولكنه نور الله يقذفه في قلوب عباده فتستنير به أفئدتهم، وتلين جلودهم، وتهفو نفوسهم نحو المشاعر المقدسة محرمين ملبين، مذعنين منيبين.
لأجل ذلك اتجه رسول الله ﷺ وأصحابه الكرام من المدينة باتجاه مكة المكرمة، في موكب مهيب يشق طريقه عبر القرى والبوادي، وكان كلما مرَّ الموكب النبوي بمنازل قوم الذين يسكنون على جانبي الطريق بين مكة والمدينة خرجوا وشاهدوا منظراً لم يألفوه من قبل، حيث المسلمين بزي واحد من الإحرام وهم يرفعون أصواتهم بالتلبية، ويسوقون هديهم في علاماته وقلائده، في مظهر بهي لم تشهد المنطقة له مثيل1.
تاريخ هذا الخروج وتسميته:
كان هذا الخروج في ذي القعدة سنة سبع من الهجرة2، وقد اختلف في سبب تسميتها عمرة القضاء، فقيل: المراد ما وقع من المقاضاة بين المسلمين والمشركين من الكتاب الذي كتب بينهم بالحديبية، فالمراد بالقضاء الفصل الذي وقع عليه الصلح، ولذلك يقال لها: عمرة القضية، وقال السهيلي: سميت عمرة القضاء؛ لأنه قاضى فيها قريشاً، لا لأنها قضاء عن العمرة التي صد عنها، لأنها لم تكن فسدت حتى يجب قضاؤها بل كانت عمرة تامة، ولهذا عدوا عُمَر النبي ﷺ أربعاً، وقال آخرون: بل كانت قضاء عن العمرة الأولى، وعدت عمرة الحديبية في العمر لثبوت الأجر لا لأنها كملت3،
قال ابن هشام: ويقال لها: عمرة القصاص؛ لأنهم صدوا رسول الله ﷺ في ذي القعدة في الشهر الحرام من سنة ست، فاقتص رسول اللهﷺ منهم، فدخل مكة في ذي القعدة في الشهر الحرام الذي صدوه فيه من سنة سبع، وبلغنا عن ابن عباس أنه قال فأنزل الله في ذلك: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}(194) سورة البقرة4، وهنا يحسن أن نعرض نص المقاضاة التي قاضى رسول الله ﷺ قريشاًكما جاء عند البخاري من حديث الْبَرَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أنه قَالَ: لَمَّا اعْتَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَتَبُوا الْكِتَابَ، كَتَبُوا: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، قَالُوا: لَا نُقِرُّ لَكَ بِهَذَا، لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا مَنَعْنَاكَ شَيْئًا، وَلَكِنْ أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: (أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَا محَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) ثُمَّ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: (امْحُ رَسُولَ اللَّهِ)قَالَ عَلِيٌّ: لَا وَاللَّهِ لَا أَمْحُوكَ أَبَدًا، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْكِتَابَ، وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ، فَكَتَبَ: (هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: لَا يُدْخِلُ مَكَّةَ السِّلَاحَ إِلَّا السَّيْفَ فِي الْقِرَابِ، وَأَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَحَدٍ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَتْبَعَهُ، وَأَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا) فَلَمَّا دَخَلَهَا وَمَضَى الْأَجَلُ: أَتَوْا عَلِيًّا فَقَالُوا: قُلْ لِصَاحِبِكَ اخْرُجْ عَنَّا؛ فَقَدْ مَضَى الْأَجَلُ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ ، فَتَبِعَتْهُ ابْنَةُ حَمْزَةَ5 تُنَادِي: يَا عَمِّ، يَا عَمِّ، فَتَنَاوَلَهَا عَلِيٌّ، فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَام: دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّكِ حَمَلَتْهَا، فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ، قَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَخَذْتُهَا وَهِيَ بِنْتُ عَمِّي، وَقَالَ جَعْفَرٌ: ابْنَةُ عَمِّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي، وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أَخِي، فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ ﷺ لِخَالَتِهَا، وَقَالَ: (الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ) وَقَالَ لِعَلِيٍّ: (أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ) وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: (أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي) وَقَالَ لِزَيْدٍ: (أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا) وَقَالَ عَلِيٌّ: أَلَا تَتَزَوَّجُ بِنْتَ حَمْزَةَ؟ قَالَ: (إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ)6.
حادي الركب:
عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَمْشِي وَهُوَ يَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ | الْيَوْمَ نَضْرِبْكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ |
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ | وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ |
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ: بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ، وَفِي حَرَمِ اللَّهِ تَقُولُ الشِّعْرَ؟، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ : (خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ، فَلَهِيَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ)7.
على مشارف مكة:
لما اتصل ذلك الخبر بقريش، خرج أكابر منهم عن مكة؛ عدواةً لله ولرسوله ﷺ ، ولم يقدروا على الصبر في رؤيته يطوف بالبيت هو وأصحابه، فدخل رسول الله ﷺ مكة، وأتم الله له عمرته، وقعد بعض المشركين بقعيقعان -جبل مشهور بمكة- ينظرون إلى المسلمين وهم يطوفون بالبيت، فأمرهم رسول الله ﷺ بالرمل؛ ليروا المشركين أن بهم قوة، وكان المشركون قالوا: في المهاجرين قد وهنتهم حمى يثرب8.
زواج النبي ﷺ بميمونة:
وتزوج رسول الله ﷺ في عمرته هذه ميمونة بنت الحارث الهلالية،قيل: تزوجها قبل أن يحرم بعمرته، وقيل بعد أن حل من عمرته9.
مدة الإقامة:
فأقام رسول الله ﷺ بمكة ثلاثًا، فأتاه حويطب بن عبد العزى في نفر من قريش في اليوم الثالث، وكانت قريش قد وكلته بإخراج رسول الله ﷺ من مكة، فقالوا له: إنه قد انقضى أجلك، فاخرج عنا، فقال النبي ﷺ : (وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم، وصنعنا لكم طعاماً فحضرتموه؟) قالوا: لا حاجة لنا في طعامك، فاخرج عنا، فخرج رسول الله ﷺ ، وخلف أبا رافع مولاه على ميمونة، حتى أتاه بها بسرف -موضع على ستة أميال من مكة10-، فبنى بها رسول الله ﷺ هنالك، ثم انصرف رسول الله ﷺ إلى المدينة في ذي الحجة11.
وكان رسول الله ﷺ قد أُرِيَ في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت، فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة، فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسر هذا العام، فلما وقع ما وقع من قضية الصلح ورجعوا عامهم ذلك على أن يعودوا من قابل، وقع في نفوس بعض الصحابة من ذلك شيء، حتى سأل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في ذلك، فقال له فيما قال: أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: (بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟) قال: لا، قال: (فإنك آتيه ومطوف به). وبهذا أجاب الصديق -رضي الله عنه- أيضاً حَذْو القُذَّة بالقُذَّة؛ ولهذا قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ}وهذا لتحقيق الخبر وتوكيده12.
فوائد ودروس:
حقيقة إن هذه العمرة حافلة بالدروس والعبر العديدة ذات الصور الحية والتي يمكن التعايش معها اليوم، فمنها:
ليس في البشر أظلم ممن صد عن بيت من بيوت الله، وأعرض عن ذكر الله تعالى، وهذا الظلم قد ذكره الله في القرآن في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(114) سورة البقرة، وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا}(57) سورة الكهف، فصار الظلم ظلمين ظلم الصد وظلم الإعراض، واجتمعا في كفار قريش، فمن أظلم من قريش في جميع العصور!!.
· الكافر لا يستطيع تحمل الحق ولا النظر إليه، فقد يقذف في قلبه الرعب كما جعل على بصره غشاوة.
· جواز التصالح مع المشركين في ما لا يمس الدين بنقص، ولو بالنزول على حكم الخصم إن كان فيه مصلحة مرجوة ولو بعد حين، ومدته عشر سنوات كما نص عليه الفقهاء في كتبهم؛ أخذاً من تحديد صلح الحديبية لمدة عشر سنوات.
· قدير المصالح والمفاسد وتقديم أعظم المصلحتين وأخف المفسدتين أمر يقوم عليه معظم ركائز الدين، كما في محو النبي ﷺ ل: “رسول الله” في صحيفة العهد، فقدم المصلحة الكبرى على المفسدة التي لا تعدو كونها كلاما يمحى أما الحقيقة فهو رسول الله ﷺ .
· تعدد الوسائل في الحرب ومجابهة العدو أمر لا ينبغي إغفاله بحال، فقد تعددت في هذه العمرة أمور كشعر ابن رواحة فلهو أسرع فيهم من نضح النبل، والعرض القوي أثناء الطواف ليرى المشركون قوة من أنهكتهم حمى يثرب، وغير ذلك.
· الحضانة مقدمة للخالة حتى وإن وجدت العمة، فقد قضى النبي ﷺ لخالة عمارة بحضانتها، في وجود عمتها صفية بنت عبد المطلب، وهذا مذهب جمهور العلماء.
· العمرة سنة، وفي قضائها على من أحصر خلاف وقد ذهب جمهور العلماء أنه لا قضاء عليه إلا بالشروع فيها.
· لا يضر الحق ضارٌّ ما دام كذلك فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يضره محو اسم رسالته، ولا محو اسم الرحمن من الصحيفة.
· أخذ بعض العلماء أن ليس للمهاجرين إقامة في مكة فوق ثلاثة أيام استناداً لهذه القصة.
· صدق الرؤى والأحلام أحياناً وتوقع ما فيها وتعبيرها أمر حق، وقد كانت هذه العمرة تصديقاً لرؤيا رآها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ولا شك عند القارئ أن في بواطن مثل هذه السيرة العطرة من الفوائد ما فيه نفع عظيم، ولكن نقف عند هذا، والله تعالى أعلم.
1 السيرة النبوية للصلابي: (722).
2 سيرة ابن هشام: (2/370).
3 فتح الباري لابن حجر: (12/65).
4 سيرة ابن هشام: (2/370).
5 هي عمارة بنت حمزة رضي الله عنهما وكانت حينئذ طفلة ولذا احتاجت إلى الحضانة وقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالتها لمكانتها منها.
6 صحيح البخاري: (3920).
7 سنن الترمذي: (2774).
8 عيون الأثر لابن سيد الناس: (2/158).
9 المصدر السابق.
10 السيرة النبوية لابن كثير: (3/69).
11 سيرة ابن هشام: (2/372).
12 تفسير ابن كثير: (7/356).