أحكام الهدي

أحكام الهدي

 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الأمين, وعلى آله وصحبه أجمعين, وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:

فإننا سنتناول في هذا الدرس موضوع الهدي وما يتعلق به من أحكام, والذي سيتضمن بعون الله: معنى الهدي، وأنواعه وشروط دم التمتع، وصفته، والأكل منه، ومكان ذبحه وزمانه، وذابح الهدي، والتصدق بلحمه، والانتفاع به، وتقليد الهدي وإشعاره، وعطب الهدي في الطريق.

أولاً: معنى الهدي:

الهدي في اللغة: اسم لما يهدى أن يبعث وينقل، وفي الشرع: هو ما يهدى إلى الحرم من الأنعام الإبل والبقر والغنم, وسوق الهدي سنة لمن أراد أن يحرم بحج أو عمرة.

ثانياً: أنواع الهدي وصفته:

الهدي: بدنة أو بقرة أو شاة، وأدناه شاة, وقد يطلق الدم أو النسك على الهدي، والمراد بالنسك أو الدم هو الذبيحة وهي الشاة، لإجماع المسلمين على أن الشاة مجزئة في الفدية عن حلق الشعر أو قلم الظفر ونحو ذلك.

وأفضل الهدي: البدنة ثم البقرة، ثم الضأن، ثم المعز، لما صحَّ أن رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- لما أحصر بالحديبية، نحر البدن1، وكان يختار من الأعمال أفضلها.

والمجزئ من الهدي بالاتفاق: ما يجزئ في الأضحية، وهو الثَّني فصاعداً، وهو عند الحنفية مثلاً: من الإبل ما تم له خمس سنين، ومن البقر: سنتان، ومن الغنم سنة ومن المعز ما له سنتان، لكن يجزئ عندهم وعند الحنابلة الجذع من الضأن: وهو ما دون الثني، وهو ماله ستة أشهر، والهدي مثله.

والفرق بين جذع الضأن وجذع المعز: أن الأول ينزو فيلقح، بخلاف الثاني، ويعرف كونه أجذع بنمو الصوف على ظهره2.

ولا يجزئ في الهدي مقطوع الأذن أو أكثرها، ولا مقطوع الذَّنَب، ولا اليد ولا الرجل ولا الذاهبة العين، ولا العجفاء (كثيرة الهزال)، ولا العرجاء التي لا تمشي إلى المَنْسك (الموضع الذي تذبح النسائك فيه)؛ لأنها عيوب بينة, والذكر والأنثى في الهدي سواء، لأن الله تعالى قال: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ} (36) سورة الحـج. ولم يذكر ذكراً ولا أنثى.

نوعا الهدي شرعاً:

الهدي نوعان: واجب وتطوع, أما هدي التطوع: فهو ما يقدمه الإنسان قربة إلى الله تعالى بدون إيجاب سابق, ويستحب لمن قصد مكة حاجاً أو معتمراً أن يهدي إليها من بهيمة الأنعام، وينحره ويفرقه، لما جاء أن رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- أهدى مائة بدنة3.

والأفضل عند الجمهور سوق الهدي من بلده، فإن لم يكن، فمن طريقه من الميقات أو غيره أو من مكة أو منى، ولا يشترط أن يجمع الهدي بين الحل والحرم، ولا أن يوقفه بعرفة، ولكن يستحب ذلك.

وقال مالك: أحب للقارن أن يسوق هديه من حيث يحرم، فإن ابتاعه من دون ذلك مما يلي مكة بعد أن يوقفه بعرفة جاز، وقال في هدي المجامع: إن لم يكن ساقه فليشتره من مكة، ثم ليخرجه إلى الحل، وليسقه إلى مكة.

والمستحب أن يكون ما يهديه سميناً حسناً، لقوله -عز وجل-: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (32) سورة الحـج. قال ابن عباس في تفسيرها: الاستسمان والاستحسان والاستعظام.

والهدي الواجب نوعان: واجب بالنذر في ذمته للمساكين أو على الإطلاق، فإن نذر وجب عليه؛ لأنه قربة فيلزمه بالنذر. وواجب بغير النذر، كدم التمتع والقران، والدماء الواجبة تكون بترك واجب أو فعل محظور.

والواجب بغير النذر عند المالكية خمسة أنواع:

هدي المتعة والقران، وكفارة الوطء، وجبر ما تركه من الواجبات كرمي الجمار والمبيت بمنى والمزدلفة وغير ذلك، وهدي الفوات، وجزاء الصيد.

وينقسم الهدي الواجب بغير النذر عند الشافعية والحنابلة قسمين: منصوص عليه في القرآن، ومقيس على المنصوص, أما المنصوص عليه: فهو أربعة أنواع: دم التمتع، وجزاء الصيد، وفدية دفع الأذى كحلق، وفدية الإحصار, فإن عدم المتمتع الدم، فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، للآية: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (196) سورة البــقرة. والعبرة بالعدم في محل الذبح، وإن كان له مال غائب عن ذلك المحل, ولا يجب عليه تحصيل الدم بأكثر من ثمن المثل.

وإن فاته صوم الثلاثة الأيام في الحج، فرق بينها وبين السبعة، بقدر تفريقه بينهما في الأداء، وهو أربعة أيام، ومدة إمكان السير إلى وطنه، على العادة الغالبة.

وجزاء الصيد: إن كان له مثل خير بين أمور ثلاثة: إخراج مثله، بأن يذبحه ويتصدق به على مساكين الحرم، أو تقويمه بدراهم يشتري بها مثلاً طعاماً يجزئ في الفطرة، ويتصدق به على مساكين الحرم، لكل مسكين مد، أو أن يصوم عن كل مد يوماً، لآية: {فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (95) سورة المائدة. وهو صوم التعديل، لقوله تعالى: {أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} (95) سورة المائدة. وإن لم يكن له مثل خير بين أمرين: تقويمه وشراء طعام به والتصدق به، أو صوم يوم عن كل مد, والمعتبر في قيمة غير المثلي بمحل الإتلاف، لا بمكة، وفي قيمة المثلي بمكة، لا بمحل الإتلاف.

وفدية دفع الأذى كحلق وتقليم أظفار: يخير بين أمور ثلاثة: ذبح شاة بصفة الأضحية والتصدق بلحمها على مساكين الحرم، وصوم ثلاثة أيام، وتصدق باثني عشر مداً على ستة مساكين في الحرم، لكل مسكين مدان، لقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} أي: فحلق {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (196) سورة البقرة.

ودم الإحصار: شاة بصفة الأضحية، لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (196) سورة البقرة. فإن عدمها وقت الإخراج، فيجب عند الشافعية بدلها كدم التمتع وغيره، وهو طعام بقيمتها، فإن عجز عنه صام عن كل مد يوماً، قياساً على الدم الواجب بترك مأمور به، وعند الحنابلة: لا إطعام فيه وينتقل إلى صيام عشرة أيام، وقال مالك وأبو حنيفة: لا بدل له؛ لأنه لم يذكر في القرآن.

وأما المقيس على المنصوص عليه فهو نوعان:

أحدهما: لترك نسك يجبر تركه وهو خمسة: ترك الإحرام من الميقات والمبيت بمزدلفة، وبمنى، والرمي وطواف الوداع، ويقاس على دم التمتع، ويقاس عليه أيضاً دم الفوات، وهو ذبح شاة، فإن عجز صام عشرة أيام.

والثاني: الترفه: وهو خمسة أيضاً: الوطء في فرج أو غيره، واللمس بشهوة، والقبلة، والتطيب، واللباس، ويقاس على فدية الأذى: صيام أو صدقة أو نسك.

ثالثاً: شروط هدي التمتع:

من اعتمر في أشهر الحج، فطاف وسعى، ثم أحرم بالحج من عامه، ولم يكن خرج من مكة إلى ما تقصر فيه الصلاة، فهو متمتع، عليه دم بالإجماع، لقوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (196) سورة البقرة.

ويمكن تلخيص شروط وجوب الدم على المتمتع بما يأتي وهي خمسة:

الأول: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج: فإن أحرم بها في غير أشهره لم يكن متمتعاً، سواء وقعت أفعالها في أشهر الحج أو في غير أشهره, وهذا لا خلاف فيه إلا في شذوذ عن طاووس والحسن، إلا أن أبا حنيفة قال: إن طاف للعمرة أربعة أشواط في غير أشهر الحج فليس بمتمتع، وإن طاف الأربعة في أشهر الحج فهو متمتع؛ لأن العمرة صحت في أشهر الحج.

الثاني: أن يحج من عامه: فإن اعتمر في أشهر الحج، ولم يحج ذلك العام، بل حج من العام القابل، فليس بمتمتع، وهذا لا خلاف فيه إلا في قول شاذ عن الحسن؛ لأن الله تعالى قال: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (196) سورة البقرة. وهذا يقتضي الموالاة بينهما.

الثالث: ألا يسافر بين العمرة والحج سفراً بعيداً تقصر في مثله الصلاة, وهذا رأي الحنابلة: لقول عمر -رضي الله عنه-: "إذا اعتمر في أشهر الحج، ثم أقام، فهو متمتع، فإن خرج ورجع فليس بمتمتع", وقال الشافعي وأحمد: إن رجع إلى الميقات فلا دم عليه, وقال الحنفية: إن رجع إلى مصره، بطلت متعته، وإلا فلا, وقال المالكية: إن رجع إلى مصره أو إلى غيره مما هو أبعد منه، بطلت متعته، وإلا فلا.

الرابع: أن يحل من إحرام العمرة قبل إحرامه بالحج: فإن أدخل الحج على العمرة قبل حله منها، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم والذين كان معهم الهدي من أصحابه، فهذا يصير قارناً، ولا يلزمه دم المتعة، لأمر النبي -صلّى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه عن عائشة -رضي الله عنها- التي حاضت بالإهلال بالحج وترك العمرة، ولم يوجب عليها هدياً ولا صوماً ولا صدقة, ولكن عليه حينئذ دم للقران؛ لأنه صار قارناً، وترفه بسقوط أحد السفرين.

الخامس: ألا يكون من حاضري المسجد الحرام: وهذا متفق عليه، فلا يجب دم المتعة على حاضري المسجد الحرام، بنص القرآن الكريم: {ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (196) سورة البقرة. ولأن حاضر المسجد الحرام ميقاته مكة، فلم يحصل له الترفه بترك أحد السفرين، ولأنه أحرم بالحج من ميقاته، فأشبه المفرد.

من هم حاضرو المسجد الحرام؟:

حاضرو المسجد الحرام عند الحنفية: مَن دون الميقات؛ لأنه موضع شرع فيه النسك، فأشبه الحرم. وعند المالكية: هم أهل مكة وذي طوى, وعند الشافعية في الأصح: هم من دون مرحلتين مسافة القصر من الحرم؛ لأن كل موضع ذكر الله فيه المسجد الحرام فهو الحرم، إلا قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (149) سورة البقرة. فهو الكعبة نفسها، فإلحاق هذا بالأعم الأغلب أولى, والقريب من الشيء يقال: إنه حاضره.

وعند الحنابلة: هم أهل الحرم، ومن بينه وبين مكة دون مسافة القصر؛ لأن حاضر الشيء: من دنا منه، ومن دون مسافة القصر قريب في حكم الحاضر، كما قال الشافعية، بدليل أن من قصده لا يترخص رخص السفر.

وإذا كان للمتمتع قريتان: قريبة وبعيدة، فهو من حاضري المسجد الحرام؛ لأن له أن يحرم من القريبة، فلم يكن بالتمتع مترفهاً بترك أحد السفرين, وعليه: إن دخل الآفاقي مكة متمتعاً ناوياً الإقامة بها، بعد تمتعه، فعليه دم المتعة.

وإذا ترك الآفاقي الإحرام من الميقات، ثم نوى العمرة وحل منها، وأحرم بالحج من مكة من عامه فهو متمتع، عليه دمان: دم المتعة، ودم ترك الإحرام من الميقات.

الصيام بدل دم المتعة:

إن لم يجد المتمتع الهدي، ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى وطنه. وتعتبر القدرة على الهدي في موضعه، فمتى عدمه في موضعه، جاز له الانتقال إلى الصيام، وإن كان قادراً عليه في بلده؛ لأن وجوبه مؤقت، وما كان وجوبه مؤقتاً اعتبرت القدرة عليه في موضعه، كالماء في الطهارة إذا عدمه في مكانه، انتقل إلى التراب, ولا يجب التتابع في أيام الصوم، وإنما يندب.

وإذا لم يصم المتمتع الأيام الثلاثة في الحج، فإنه يصومها بعد ذلك عند الجمهور غير الحنفية، وتعين عليه الدم عند الحنفية، ولا يجزيه الصوم في وطنه، والأظهر عند الشافعية أنه يلزمه أن يفرق في قضائها بينها وبين السبعة.

ومن شرع في الصيام، ثم قدر على الهدي، لم يكن عليه عند الحنابلة والمالكية والشافعية الخروج من الصوم إلى الهدي، إلا إذا شاء؛ لأنه صوم دخل فيه لعدم الهدي.

والمرأة إذا أحرمت متمتعة، فحاضت قبل طواف العمرة، لم يكن لها أن تطوف بالبيت؛ لأن الطواف بالبيت صلاة، ولأنها ممنوعة من دخول المسجد, فإن خشيت فوات الحج، أحرمت بالحج مع عمرتها، وتصير قارنة, وهذا قول الجمهور، بدليل رواية مسلم لقصة عائشة التي حاضت، فإنها حجت أولاً، ثم اعتمرت من التنعيم.

وقال أبو حنيفة: تفض العمرة، وتهل بالحج، بدليل حديث عائشة المتقدم حينما حاضت، أهلت بالحج، وتركت العمرة، بدليل أمور ثلاثة: قالها -عليه الصلاة والسلام- لها: (دعي عمرتك), وقوله: (انقضي رأسك وامتشطي), وقوله: (هذه عمرة مكان عمرتك)4.

رابعاً: الأكل من الهدي:

يرى الحنفية أنه يجوز الأكل من هدي التطوع والمتعة والقران، إذا بلغ الهدي مَحِلَّه؛ لأنه دم نُسُك، فيجوز الأكل منه بمنزلة الأضحية, وما جاز لصاحبه الأكل منه، جاز للغني الأكل منه أيضاً, مع اشتراط بلوغ المحل؛ لأنه إذا لم يبلغ الحرم لا يحل الانتفاع منه لغير الفقير.

ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا كدماء الكفارات والنذور وهدي الإحصار، والتطوع إذا لم يبلغ مَحِلَّه، ومحله منى أو مكة.

وقرر المالكية أن صاحب الهدايا يأكل منها كلها إلا من أربعة: جزاء الصيد، ونسك الأذى، ونذر المساكين أي (النذر المعين للمساكين وهدي التطوع للمساكين) وهدي التطوع إذا عَطِب قبل محله (منى أو مكة) ، بأن عطب فنحره؛ لأنه يتهم بأنه تسبب في عطبه ليأكل منه، وليس عليه بدله, فإن أكل من هذه الأربعة، فعليه بدل البهيمة، إلا النذر المعين للمساكين يضمن فقط بقدر أكله منه, وكل ما يمنع الأكل منه، يختص بالمساكين.

وما سوى هذه الأربعة يجوز لصاحبها الأكل منها مطلقاً؛ قبل المحل وبعده، وهو كل هدي وجب في حج أو عمرة، كهدي التمتع والقران، وتجاوز الميقات، وترك طواف القدوم أو الحلق، أو المبيت بمنى أو النزول بمزدلفة، أو الواجب بسبب المذي ونحوه، أو نذر مضمون لغير المساكين.

ويأكل منها أيضاً الغني والقريب, ويعد رسول صاحب الهدي غير الفقير كصاحبه في الأكل وعدمه، أما الفقير فيجوز له الأكل مما لا يجوز لصاحبه الأكل منه.

وقال الشافعية: الهدي نوعان: واجب ومتطوع به، أما الهدي الواجب: وهو ما يجب بفعل حرام، أو ترك واجب من واجبات الحج، أو بنذر، فلا يجوز للمهدي الأكل منه، بل يجب ذبحه في محله، وتفرقة جميعه على أهله من مكة أو غيرها، ويملكهم جملته ولو قبل سلخه, أما ما يقع الآن من ذبح الهدي ورميه، فلا يجزئ ولا يقع هدياً.

كذلك لا يجوز الأكل لمن تلزم المهدي نفقته، ورفقته ولو فقراء قافلته، وإن كبرت كالحج المصري، ولا للأغنياء مطلقاً.

ومحل عدم جواز الأكل من الهدي المنذور إذا كانت صيغة النذر صحيحة، كقوله: لله علي أن أهدي شاة للحرم.

والخلاصة: لا يأكل من واجب؛ لأنه هدي وجب بالإحرام، فلم يجز الأكل منه كدم الكفارة، فلا يجوز الأكل من الهدي الواجب، وهدي القران والتمتع والمنذور ودم الجناية.

وأما المتطوع به: فيجوز لصاحبه كالأضحية الأكل منه، ويلزمه التصدق بقدر ما ينطلق عليه الاسم: وهو أقل متمول, والأفضل إذا أراد تقسيمه أن يأكل منه ثلثه، ويهدي للأغنياء ثلثه، ويتصدق بثلثه، لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} (36) سورة الحـج. والقانع: السائل أو الراضي بما عنده وبما يعطاه بلا سؤال، والمعتر: المتعرض للسؤال.

وقال الحنابلة: لا يأكل الإنسان من كل واجب كالواجب بنذر أو بتعيين كأن يقول: هذا هدي أو يقلده أو يشعره، إلا من هدي التمتع والقران دون ما سواهما؛ لأن أزواج النبي -صلّى الله عليه وسلم- تمتعن معه في حجة الوداع، وأدخلت عائشة الحج على العمرة، فصارت قارنة، ثم ذبح عنهن النبي -صلّى الله عليه وسلم- البقرة، فأكلن من لحومها، ولأن دم المتعة والقران دم نسك، فأشبه التطوع.

ولا يجوز أن يأكل من غير دم التمتع والقران؛ لأنه يجب بفعل محظور، فأشبه جزاء الصيد.

ويستحب أن يأكل من هدي التطوع: وهو ما أوجبه بالتعيين ابتداء من غير أن يكون عن واجب في ذمته، وما نحره تطوعاً من غير أن يوجبه، لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} (36) سورة الحـج.

وأقل أحوال هذا الأمر: الأمر بالاستحباب، ولأن النبي -صلّى الله عليه وسلم- أكل من بُدْنه، ويجوز التزود منه، لقول جابر -رضي الله عنه-: "كنا لا نأكل من بدننا فوق ثلاث، فرخص لنا النبي صلّى الله عليه وسلم ، فقال: كلوا وتزودوا، فأكلنا وتزودنا"5.

وإن لم يأكل فلا بأس، فإن النبي -صلّى الله عليه وسلم- لما نحر البدن الخمس، قال: (مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ)6. ولم يأكل منهن شيئاً.

والمحتسب أن يأكل اليسير منها، كما فعل النبي -صلّى الله عليه وسلم- وله الأكل كثيراً والتزود، كما جاء في حديث جابر، وتجزئه الصدقة باليسير منها كما في الأضحية, فإن أكلها، ضمن المشروع للصدقة منها، كما في الأضحية.

وإن أكل مما منع من أكله أو أعطى الجازر منها شيئاً أو باع شيئاً منها أو أتلفه، ضمنه بمثله لحماً, وإن أطعم غنياً مما يجوز له الأكل منه على سبيل الهدية جاز، كما يجوز له ذلك في الأضحية؛ لأن ما ملك أكله ملك هديته.

والخلاصة: يجوز الأكل من دم التمتع والقران عند الجمهور، ولا يجوز عند الشافعية، ولا يجوز الأكل من المنذور ودم الجزاء اتفاقاً، ويجوز الأكل من المتطوع به بالاتفاق.

خامساً: مكان ذبح الهدي وزمانه:

قال الحنفية: لا يجوز ذبح هدي المتعة والقران إلا في يوم النحر؛ لأنه دم نسك، والصحيح أن يجوز ذبح دم التطوع قبل يوم النحر، وذبحه يوم النحر أفضل؛ لأن القربة في التطوعات باعتبار أنها هدايا، وذلك يتحقق ببلوغها إلى الحرم، فإذا وجد ذلك جاز ذبحها في غير يوم النحر، وفي أيام النحر أفضل؛ لأن معنى القربة في إراقة الدم فيه أظهر, ويجوز ذبح بقية الهدايا أيّ وقت شاء؛ لأنها دماء كفارات، فلا تختص بيوم النحر، لأنها وجبت لجبر النقصان, ولا يجوز ذبح الهدايا إلا في الحرم؛ لأن الهدي اسم لما يهدى إلى مكان، ومكانه الحرم.

وقال المالكية: يجب على المعتمد نحر الهدي بمنى بشروط ثلاثة: إن سيق الهدي في إحرامه بحج، ووقف به بعرفة كوقوفه هو في كونه بجزء من الليل، وكان النحر في أيام النحر, فإن انتفت هذه الشروط أو بعضها، بأن لم يقف به بعرفة، أو لم يسق في حج، بأن سيق في عمرة، أو خرجت أيام النحر، فمحل ذبحه مكة, فكان محل الذبح إما منى بالشروط الثلاثة، وإما مكة لا غير عند فقدها.

والأفضل فيما ذبح بمنى أن يكون عند الجمرة الأولى، ولو ذبح في أي موقع منها كفى وخالف الأفضل ونحر الهدي يوم النحر.

أما فدية المحظور من لبس أو طيب ونحوهما: وهي الشاة أو إطعام ستة مساكين من غالب قوت البلد الذي أخرجها فيه، أو صيام ثلاثة أيام ولو أيام منى وهي ثاني يوم النحر وتالياه فلا تختص بأنواعها الثلاثة بمكان أو زمان، فيجوز تأخيرها لبلده أو غيره في أي وقت شاء.

وقال الشافعية: وقت ذبح الهدي إن كان تطوعاً أو بنذر: وقت أضحية، أما إن كان بسبب فعل حرام أو ترك واجب، فلا يختص بوقت, ومكان الذبح للمحصر مكان حصره أو الحرم، ولغير المحصر: جميع الحرم، فالحرم كله منحر حيث نحر منه أجزأه في الحج والعمرة، لكن الأفضل للحاج ولو متمتعاً الذبح في منى، ولمعتمر غير متمتع الذبح في مكة عند المروة؛ لأنهما مكان تحللهما.

وقال الحنابلة: فدية الأذى بحلق رأس أو غيره: في الموضع الذي حلق فيه؛ لأن النبي -صلّى الله عليه وسلم- أمر كعب بن عجرة بالفدية بالحديبية, ولم يأمره ببعثه إلى الحرم, وما عدا فدية الشعر من الدماء يكون بمكة، وأما جزاء الصيد فهو لمساكين الحرم، لقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (95) سورة المائدة. وأما الصيام فيجزئه في كل مكان، بلا خلاف.

والأفضل نحر ما وجب بحج بمنى، وما وجب بعمرة بالمروة، لما رواه أبو داود من قوله -صلّى الله عليه وسلم-: (كُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ)7.

والعاجز عن إيصاله للحرم، حتى بوكيله، ينحره حيث قدر، ويفرقه بمنحره، ويجزئ ما وجب بفعل محظور غير صيد: خارج الحرم، ولو بلا عذر، حيث وجد السبب، وبالحرم أيضاً.

ويدخل وقت ذبح فدية المحظور من حين فعله، وقبله بعد وجود سببه المبيح ككفارة يمين, ويكون وقت جزاء الصيد بعد جرحه، ووقت ترك الواجب عند تركه, ويجزئ دم إحصار حيث أحصر، وصوم وحلق بكل مكان، ووقت نحر الهدي والأضحية ثلاثة أيام: يوم النحر ويومان بعده.

سادساً: ذابح الهدي:

الأفضل عند الجمهور في البدن: النحر، وفي البقر والغنم، الذبح، والأولى بالاتفاق أن يتولى الإنسان ذبح الهدي بنفسه إن كان يحسن ذلك؛ لأنه قربة، والعمل بنفسه في القربات أولى لما فيه من زيادة الخشوع، إلا أنه يقف عند الذبح إذا لم يذبح بنفسه؛ لأن النبي -صلّى الله عليه وسلم- نحر هديه بيده.

وقال جابر -رضي الله عنه-: "نحر رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- ثلاثاً وستين بدنة بيده، ثم أعطى علياً، فنحر ما غبر"8. وإن ذبح الهدي غير صاحبه أجزأه، والمستحب أن يشهد ذبحه بنفسه.

والأفضل أن يتولى تفريق اللحم بنفسه؛ لأنه أحوط وأقل للضرر على المساكين، وإن خلى بينه وبين المساكين جاز، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: (من شاء اقتطع)9.

ويباح للفقراء الأخذ من الهدي إذا لم يدفع إليهم، إما بالإذن الصريح لفظاً لحديث: (من شاء اقتطع) أو بالإذن دلالة كالتخلية بينهم وبينه.

سابعاً: التصدق بلحم الهدي:

أجاز الحنفية أن يتصدق بلحم الهدي على مساكين الحرم وغيرهم؛ لأن الصدقة قربة معقولة، والصدقة على كل فقير قربة، وعلى مساكين الحرم أفضل، إلا أن يكون غيرهم أحوج.

ويتصدق بجلال الهدايا وخطامها، ولا يعطي الجزار أجرة منها، لقول علي -رضي الله عنه-: "أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أقوم على بدنه, وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها, وأن لا أعطي الجزار منها, وقال: (نحن نعطيه من عندنا)10.

وقال المالكية كالحنفية: يوزع لحم الهدي والخِطام والجِلال على المساكين, ويرى الشافعية أن جزاء الصيد، وفدية الأذى كحلق وتقليم أظفار ودم التمتع والقران يذبح ويتصدق به على مساكين الحرم، لقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (33) سورة الحـج.

وأما رأي الحنابلة: فهو أن كل هدي أو إطعام لترك نسك أو فوات أو فعل محظور لمساكين الحرم، إن قدر على إيصاله إليهم، إلا أن فدية الأذى توزع على المساكين في الموضع الذي حلق فيه، لما تقدم من أمر كعب بن عجرة بالفدية في الحديبية، ولقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "الهدي والطعام بمكة، والصوم حيث شاء", ولأنه نسك يتعدى نفعه إلى المساكين، فاختص بالحرم كالهدي, ويصح تفرقة اللحم أو إعطاؤه لمساكين الحرم ميتاً أو حياً لينحروه، وإلا استرده ونحره، فإن أبى أو عجز، ضمنه.

ومساكين الحرم: من كان فيه من أهله، أو وارد إليه من الحاج وغيرهم، وهم الذين يجوز دفع الزكاة إليهم، ويجوز إباحة الذبيحة لهم.

وما جاز تفريقه بغير الحرم، لم يجز دفعه إلى فقراء أهل الذمة في رأي الجمهور؛ لأن الذمي كافر فلم يجز الدفع إليه كالحربي, وأجاز الحنفية دفعه لأهل الذمة كالأضحية.

ثامناً: الانتفاع بالهدي:

يجوز الانتفاع بالهدي عند الضرورة أو الحاجة، فقال المالكية: يجوز له ركوبه إن احتاج إليه، ويندب عدم ركوبه والحمل عليه بلا عذر، بل يكره، فإن اضطر لركوبه لم يكره، ولا يشرب من اللبن وإن فضل عن الفصيل.

وقال الحنفية: من ساق بَدَنة، فاضطر إلى ركوبها أو حمل متاعه عليها، ركبها وحملها، وإن استغنى عن ذلك لم يركبها؛ لأنه جعلها خالصاً لله، فلا ينبغي أن يصرف لنفسه شيئاً من عينها أو منافعها إلى أن تبلغ محلها، ولقوله -صلّى الله عليه وسلم-: (ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْهَا حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا)11.

وإذا ركبها أو حملها، فانتقصت فعليه ضمان ما انتقص منها, وإن كان لها لبن لم يحلبها؛ لأن اللبن متولد منها، وينضح ضَرْعها بالماء البارد حتى ينقطع اللبن عنها، إن قرب محلها، وإلا حلبها وتصدق بلبنها كيلا يضر ذلك بها، وإن صرفه لنفسه، تصدق بمثله أو قيمته؛ لأنه مضمون عليه.

وقال الحنابلة: له ركوب الهدي على وجه لا يضر به، لما روى أبو هريرة وأنس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال: (ارْكَبْهَا) قال: يا رسول اللَّه, إنها بدنة! قال: (ارْكَبْهَا وَيْلَكَ) فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ12.

وقال الشافعية: للمحتاج دون غيره أن يركب الهدي المنذور ويشرب من لبنه ما فضل عن ولده، ولو تصدق به، كان أفضل، ولو كان عليه صوف لا منفعة له في جزه، ولا ضرر عليه في تركه، لم يجز له جزه، وإن كان عليه في بقائه ضرر، جاز له جزه، وينتفع به، فلو تصدق به كان أفضل.

تاسعاً: تقليد الهدي وإشعاره:

التقليد: أن يعلق في عنق الهدي قلادة، مضفورة من حبل أو غيره، ويعلق بها نعلان أو نعل.

والإشعار: أن يشق سنام البدنة الأيمن عند الشافعية والحنابلة، أو الأيسر عند المالكية، ويقول حينئذ: «بسم الله والله أكبر», والتقليد: هو المستحب بالاتفاق، أما الإشعار فمختلف فيه.

حيث قال الحنفية: الإشعار مكروه، لأنه مُثْلة، فكان غير جائز؛ لأن النبي -صلّى الله عليه وسلم- نهى عن تعذيب الحيوان، ولأنه إيلام فهو كقطع عضو منه وهذا هو الحق والله أعلم.

ولا يجب التعريف بالهدايا: وهو إحضارها عرفة،فإن عرَّف بهدي المتعة والقران والتطوع، فحسن؛ لأنه يتوَّقت بيوم النحر، فعسى ألا يجد من يُمسكه، فيحتاج إلى أن يعرّف به، ولأنه دم نسك، ومبناه على التشهير، بخلاف دماء الكفارات، فإنه يجوز ذبحها قبل يوم الجناية، فالستر بها أليق.

ويُقلَّد هدي التطوع والمتعة والقران إذا كان من الإبل والبقر؛ لأنه دم نسك، فيليق به الإظهار والشهرة، تعظيماً لشعائر الإسلام, وأما الغنم فلا يقلد، وكل ما يقلد يخرج به إلى عرفات، وما لا فلا.

ولا يقلد دم الإحصار؛ لأنه لرفع الإحرام، ولا دم الجنايات؛ لأنه دم جبر، فالأولى إخفاؤها وعدم إشهارها.

وقال المالكية: يستحب تقليد الهدي وإشعاره، وتجليله: وهو أن تكسى بجل من أرفع ما يقدر عليه من الثياب، ويشق فيه موضع السنام، ويساق كذلك إلى موضع النحر، فيزال عنه الجل، وينحر قائماً وذلك يوم النحر, ويتصدق بالجل والخطام، وتترك القلادة في الدم.

والإشعار والتقليد والتجليل كله في الإبل، وأما البقر فتقلد وتشعر، ولا تجلل، وأما الغنم فلا تقلد ولا تشعر ولا تجلل.

وقال الشافعية: إن ساق هدياً تطوعاً ومنذوراً، فإن كان بدنة أو بقرة، استحب له أن يقلدها نعلين لهما قيمة ليتصدق بهما، وأن يشعرها أيضاً؛ لما روى ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلّى الله عليه وسلم- صلى الظهر في ذي الحليفة، ثم أتى ببدنة، فأشعرها على صفحة سنامها الأيمن، ثم سلت الدم عنها، ثم قلدها نعلين13. ولأنه ربما اختلط بغيره، فإذا أشعر وقلد تميز، وربما ندَّ (هرب) فيعرف بالإشعار والتقليد فيرد.

وإن ساق غنماً قلدها خُرَب القُرَب: وهي عراها وآذانها، لما روت عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلّى الله عليه وسلم-: أهدى مرة غنماً مقلدة14. ولأن الغنم يثقل عليها حمل النعال, ولا يشعرها؛ لأن الإشعار لا يظهر في الغنم لكثرة شعرها وصوفها، ولأنها ضعيفة, ويكون تقليد الجميع والإشعار وهي مستقبلة القبلة، والبدنة باركة, وإذا قلد النعم وأشعرها، لم تصر هدياً واجباً، على المذهب الصحيح المشهور، كما لو كتب الوقف على باب داره.

وقال الحنابلة كالشافعية: يسن تقليد الهدي، سواء أكان إبلاً أم بقراً أم غنماً، لحديث عائشة السابق بلفظ: "كنت أفتل القلائد للنبي -صلّى الله عليه وسلم- فيقلد الغنم، ويقيم في أهله حلالاً".15

ويسن إشعار الإبل والبقر، لحديث عائشة المتفق عليه: "فتلت قلائد هدي النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم أشعرها وقلدها".16

والخلاصة: إن الإشعار عند الجمهور للإبل والبقر، وهو مكروه عند الحنفية، ولا تقلد الغنم عند المالكية والحنفية، وإنما تقلد الإبل والبقر، ويقلد الكل عند الشافعية والحنابلة.

عاشراً: عطب الهدي في الطريق:

قال الحنفية: من ساق هدياً فعَطِب أي هلك، فإن كان تطوعاً فليس عليه غيره، وإن كان عن واجب، فعليه أن يقيم غيره مُقامه؛ لأن الواجب باق في ذمته حيث لم يقع موقعه، فصار كهلاك الدراهم المعدة للزكاة قبل أدائها, وإن أصابه عيب كبير، أقام غيره مقامه، لبقاء الواجب في ذمته، وصنع بالمعيب ما شاء, وإذا عطبت البدنة في الطريق أي قاربت العطب, فإن كان تطوعاً نحرها، وصَبَغ نعلها أي قلادته بدمها، وضرب بقلادتها المصبوغة بدمها صفحتها أي أحد جانبيه، ولم يأكل منها صاحبها، ولا غيره من الأغنياء، ليعلم الناس أنه هدي، فيأكل منه الفقراء دون الأغنياء, وإن كانت البدنة واجبة، أقام غيرها مُقامها، وصنع بها ما شاء؛ لأنها ملكه كسائر أملاكه.

وقال المالكية: إذا عطب هدي التطوع قبل محله، ينحره، ويخلي بينه وبين الناس، ولا يأكل منه، فإن أكل منه، فعليه بدله.

وأما ولد الهدي المولود: فإن ولد قبل التقليد فيستحب نحره، ولا يجب حمله إلى مكة, وإن ولد بعد التقليد أو الإشعار، فيجب حمله إلى مكة على غير أمه، إن لم يمكن سوقه.

وكذلك قال الشافعية: إن عطب الهدي وخاف أن يهلك، نحره وغمس نعله التي قلده إياها في دمه، وضرب به صفحته وتركه موضعه، ليعلم من مر به أنه هدي، فيأكله؛ لما روى أبو قبيصة أن رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- كان يبعث بالهدي، ثم يقول: (إن عطب منها شيء، فخشيت عليه موتاً، فانحرها، ثم اغمس نعلها في دمها، ثم اضرب صَفْحتها، ولا تطعمها أنت، ولا أحد من رفقتك)17.

فإن كان تطوعاً : فله أن يفعل به ما شاء من بيع وذبح وأكل وإطعام لغيره، وتركه وغير ذلك؛ لأنه ملكه، ولا شيء في كل ذلك, وإن كان منذوراً: لزمه ذبحه، فإن تركه حتى هلك، لزمه ضمانه، كما لو فرط في حفظ الوديعة حتى تلفت.

ولا يجوز للمهدي ولا لسائق هذا الهدي وقائده الأكل منه، بلا خلاف للحديث السابق، ولا يجوز للأغنياء الأكل منه بلا خلاف؛ لأن الهدي مستحق للفقراء، فلا حق للأغنياء منه، ويجوز للفقراء من غير رفقة صاحب الهدي الأكل منه بالإجماع، لحديث ناجية الأسلمي أن رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- بعث معه بهدي، فقال: (إن عطب فانحره، ثم اصبغ نعله في دمه، ثم خل بينه وبين الناس)18. والأصح أنه لا يجوز للفقراء من رفقة صاحب الهدي الأكل منه.

وإذا أتلف المهدي الهدي، لزمه على المذهب ضمانه بأكثر الأمرين من قيمته ومثله، كما لو باع الأضحية المعينة وتلفت عند المشتري, وإن أتلف الهدي أجنبي، وجبت عليه القيمة، ويشترى بها المثل.

وإذا اشترى هدياً، ثم نذر إهداءه، ثم وجد به عيباً، لم يجز له رده بالعيب؛ لأنه تعلق به حق الله تعالى، فلا يجوز إبطاله.

وإذا أتلف الهدي قبل بلوغ المنسك، أو بعده وقبل التمكين من ذبحه، فلاشيء عليه، لأنه أمانة لم يفرط فيها، كما لو ماتت أو سرقت الأضحية المعينة أو المنذورة المعينة قبل تمكنه من ذبحها يوم النحر.

وإن ذبح الهدي أجنبي بغير إذن صاحبه، أجزأه عن النذر؛ لأن ذبحه لا يحتاج إلى قصده، ويلزم الذابح أرش نقصه: وهو ما بين قيمته حياً ومذبوحاً؛ لأنه لو أتلفه ضمنه، فإذا ذبحه ضمن نقصانه كشاة اللحم.

وإذا ذبح الهدي المعين قبل المنسك، لزم التصدق بلحمه، ولزم البدل في وقته، كما لو ذبح الأضحية المعينة أو المنذورة قبل يوم النحر، يلزم التصدق بلحمها، ولا يجوز له أكل شيء منها، ويلزمه ذبح مثلها يوم النحر بدلاً عنها.

وإذا ولد الهدي أو الأضحية المتطوع بهما، فالولد ملك لصاحبه كالأم، يتصرف فيه بما شاء من بيع وغيره كالأم, وأما ولد المنذور فيتبع الأم بلا خلاف.

ومذهب الحنابلة كالشافعية إجمالاً: إن كان الهدي تطوعاً، وخاف عطبه أو عجز عن المشي وصحبة الرفاق، نحره بموضعه، وخلى بينه وبين المساكين، ولم يبح له أكل شيء منه، ولا لأحد من صحابته، وإن كانوا فقراء, وليس عليه بدل عنه، لحديث أبي قبيصة السابق.

فإن أكل صاحب الهدي أو السائق أو رفقته منه، أو باع أو أطعم غنياً أو رفقته منها، ضمنه بمثله لحماً. وإن أتلفه أو تلف بتفريطه أو خاف عطبه، فلم ينحره حتى هلك، فعليه ضمانه بما يوصله إلى فقراء الحرم, وإن أطعم منه فقيراً أو أمره بالأكل منه، فلا ضمان عليه؛ لأنه أوصله إلى المستحق, وإن تعيب بفعل آدمي، فعليه ما نقصه من القيمة يتصدق به.

هذا ما تيسر جمعه في مسألة الهدي وأحكامه, والتي نسأل الله أن ينفع بها المسلمين من الحجاج والمعتمرين وطلاب العلم وعامة المسلمين, ونسأله سبحانه أن يوفقنا للتمسك بما جاء في كتابه وسنة نبيه الأمين على الوجه الذي يرضى به الله عنا, وأن يجنبنا الابتداع في الدين, إنه سميع مجيب, وصلى الله على نبينا محمد, وآله وصحبه وسلم, والحمد لله رب العالمين.


1 رواه مسلم برقم (3341 ) (ج 9 / ص 262).

2 حاشية الفقه الإسلامي لـ(وهبة الزحيلي).

3 رواه البخاري برقم (1603) (ج 6 / ص 197).

4 رواه البخاري ( 4044) (ج 13 / ص 304) صحيح مسلم (2108) (ج 6 / ص 214).

5 رواه البخاري (1604) (ج 6 / ص 199) ومسلم (3645) (ج 10 / ص 159).

6 رواه أبو داود (1502) (5/94) وأحمد (18292) (39/83) وصححه الألباني مختصر إرواء الغليل (1958) (1/388).

7 رواه أبو داود -1653- (5/291)وصححه الألباني -2324- سنن أبي داود – (5/324).

8 رواه مسلم (2137 ) (ج 6 / ص 245).

9 سبق تخريجه

10 رواه البخاري برقم (1601) (ج 6 / ص 193) ومسلم (2320) (ج 6 / ص 470).

11 رواه مسلم (2346) (ج 6 / ص 500).

12 رواه البخاري (2550) (9/294) ومسلم (2343) (6/497).

13 رواه مسلم (2184) (ج 6 / ص 305).

14 رواه أبو داود (1492) (ج 5 / ص 80) وأحمد (24555) (ج 52 / ص 212) وصححه الألباني في تحقيق سنن أبي داود برقم (1755) (ج 4 / ص 255).

15 رواه البخاري (1587) (ج 6 / ص 169).

16 رواه البخاري (1584) (ج 6 / ص 164) ومسلم (2333) (ج 6 / ص 486).

17 رواه مسلم (2349) (ج 7 / ص 4).

18 رواه أبو داود (1499) (ج 5 / ص 91) و الطبراني (13559) (ج 11 / ص 431) وصححه الألباني برقم (1422) في صحيح الجامع.