الفوات والإحصار

الفوات والإحصار

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد:

حديثنا اليوم حول الفوات والإحصار في الحج، وما يتعلق بهما، وسنتكلم عن أربع نقاط وهي:

أولاً: تعريف الفوات والإحصار.

ثانياً: بم يكون الإحصار؟ ومتى يفوت الحج؟

ثالثاً: حكم المحصر، والذي فاته الحج أو العمرة.

رابعاً: مسائل متفرقة في الموضوع.

أولاً: تعريف الفوات والإحصار:

الفوات: مصدر فاته يفوته فواتاً وفوتاً، والفوات عدم الشيء بعد وجوده1. والمقصود بالفوات هنا فوات الحج، ويفوت الحج بطلوع فجر يوم النحر على المحرم ولم يقف قبل ذلك بعرفة، ولو للحظة من ليل أو نهار. وهو من العوارض النَّادرة، فمن فاته الوقوف بعرفة ولو لعذر حتى طلع عليه فجر يوم النحر فقد فاته الحج، لفوات زمن الوقوف، وهو ركن الحج الأعظم.

أما الإحصار: فهو الحبس والمنع، مصدر أحصره إذا حبسه حابس ما، والمقصود به هنا أن يحصل للإنسان مانع يمنعه من إتمام النسك، كأن يمنع من دخول مكة، أو الوقوف بعرفة، فالإحصار لا يختص بعرفة كما هو في الفوات، ويمكن أن يكون في الحج والعمرة، بخلاف الفوات فلا يكون إلا في الحج.

ثانياً: بم يكون الإحصار؟ ومتى يفوت الحج؟!

اختلف العلماء بم يكون الإحصار؟ فخصه قوم بمنع العدو فقط، وأما غير العدو فإنه لا إحصار فيه، كالمرض وضياع النفقة، ونحو ذلك. لقوله تعالى -بعد أن ذكر الإحصار-: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} قالوا: فقوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} هذه إشارة إلى أن الحصر في قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} يراد به حصر العدو فقط. واحتجوا بقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ}(196) سورة البقرة، قالوا: فلو كان المحصر هو المحصر بمرض لم يكن لذكر المرض بعد ذلك فائدة.

"وقالوا: أن أفعل (أحصر) إذا أوقع بغيره فعلاً من الأفعال، وإذا كان هكذا فأحصر أحق بالعدو، وحصر أحق بالمرض، لأن العدو إنما عرض للإحصار، والمرض فهو فاعل الإحصار. وقالوا: لا يطلق الأمن إلا في ارتفاع الخوف من العدو، وإن قيل في المرض فباستعارة، ولا يصار إلى الإستعارة إلا لأمر يوجب الخروج عن الحقيقة، وكذلك ذكر حكم المريض بعد الحصر الظاهر منه أن المحصر غير المريض، وهذا هو مذهب الشافعي"2.

وذهب آخرون إلى أن الإحصار بكل مانع من مرض وذهاب نفقة وغيره، لعموم قول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}البقرة: 196 أي عن إتمام الحج والعمرة، ولم يقيد الله تعالى الحصر بعدو. وأما قوله تعالى:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ}البقرة: 196 فهذا ذكر لبعض أفراد العام، وهذا لا يقتضي التخصيص. ولحديث الحجاج بن عمرو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : (من كُسر أو عرج فقد حلَّ)3 رواه أصحاب السنن.

قال صاحب فتح القدير: " والإِحصار يتحقق عندنا بالعدو وغيره، كالمرض وهلاك النفقة وموت محرم المرأة، أَو زوجها في الطريق، وفي التجنيسِ في سرقة النفقة إن قدر على المشي فليس بِمحصرٍ، وإِلا فمحصر؛ لأنّه عاجز، ولو أَحرمت ولا زوج لها ولا محرم فهي محصرة لا تحل إلا بالدم؛ لأنها منعت شرعاً آكد من المنع بسبب العدو. وقال الشافعي -رحمه الله-: " لا إحصار إلا بالعدو"4. وقال صاحب البحر الرائق شرح كنز الدقائق: " واختلف في معناه اللغوي فقيل: الإحصار للمرض والحصر للعدو، وعليه فقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}( البقرة 169) لبيان حكم المرض، وألحق به الحصر بالعدو دلالة بالأولى؛ لأن منع العدو حسي لا يتمكن معه من المضي بخلافه مع المرض إذ يمكن بالمحمل والمركب، والأكثر على أن الإحصار هو المنع سواء كان من خوف أو مرض أو عجز أو عدو"5 ومن حبس بغير حق فهل هو كمن حصر بعدو؟ قيل: إنه كمن حصر بالعدو؛ وذلك لأن هذا الذي حبسه بغير حق اعتدى عليه، فيكون كالذي منعه العدو. والصحيح في هذه المسألة -والله أعلم- أن الإحصار يشمل الحصر عن إتمام النسك بعدو أو بغير عدو.

"وبقي مسألة وهي: أن من نوى التحلل من غير عذر فإنه لا يحل بنيته تلك، ولا يبطل إحرامه، ولا يخرج عن أحكامه بنية الخروج، لأن رفض الإحرام لغو باتفاق العلماء، بل يلزمه أن يمضي فيه ويتمه لقوله -جل وعلا-: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ}( البقرة 196)"6. ومن حبس عن عرفة فقط ذهب إلى البيت وتحلل بعمرة ولاشيء عليه، إن كان قبل الفوات، وإن كان تحلله بعمرة بعد الفوات فعليه القضاء. وإن وقف بعرفة وحصر عن إتمام بقية الحج، يذبح هدياً بنية التحلل ويحلق أو يقصر، ويكون بذلك قد حل من إحرامه كمن احصر عن الحج كله. أما من منعه مانع عن إتمام حجه قبل أن يحرم بالنسك رجع ولاشيء عليه.

ثالثاً: حكم المحصر، والذي فاته الحج أو العمرة.

الذي فاته الحج انقلب إحرامه عمرة، فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر ويتحلل بأعمال العمرة، كما يجب عليه أيضاً القضاء عند جمهور أهل العلم سواء أكان الفائت واجباً أم تطوعاً، وسواء أكان الفوات بعذر أم بغير عذر. وقال المزني: " يمضي في حج فاسد" أي يفعل أفعال الحاج، وهذا بعيد. قال صاحب البحر الرائق شرح كنز الدقائق: " من فاته الحج بفوتِ الوقوف بعرفة فليحلل بعمرة، وعليه الحج من قابل بلا دمٍ. بيان لأحكام أَربعة: الأول: أن فوات الحج لا يكون إلا بفوت الوقوف بعرفة بمضي وقته.

الثاني: أنه إذا فاته فإنه يجب عليه أن يخرج منه بأفعال العمرة.

الثالث: لزوم القضاء سواء كان ما شرع فيه حجة الإسلام أو نذراً أو تطوعاً، ولا خلاف بين الأمة في هذه الثلاثة فدليلها الإجماع.

والرابع: عدم لزوم الدم لحديث الدارقطني المفيد لذلك لكنه ضعيف، لكن تعددت طرقه فصار حسناً"7 والمحصر الذي أحصر عن الحج بعدما أحرم بمرض أو غيره، فإن حبس عن الحج كله، ولم يستطع أن يصل إلى البيت، جاز له التحلل في المكان الذي حصر فيه بعد أن ينحر هدياً، أو يبعث به إلى الحرم، ثم يحلق رأسه أو يقصره، لقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}الحج:196 ولأن النبي لما أحصر عن دخول مكة يوم الحديبية نحر هديه وحلق رأسه، ثم رحل، وأمر أصحابه بذلك. إلا إذا كان المحصر قد اشترط قائلاً عند إحرامه: "فمحلي حيث حبستني" حل من إحرامه، ولبس ثيابه، ولاشيء عليه. لا هدي ولا قضاء لأن للشرط تأثيرٌ في العبادات. لحديث ضُباعة بنت الزبير -رضي الله عنها- أنها قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " إني أريد الحج، وأنا شاكية" فقال لها: (حجي واشترطي أن محِلِّي حيث حبستني)8. وهل الأولى أن يشترط؟ أو الأولى ألا يشترط إما مطلقاً أو بالتفصيل؟ الصواب أنه لا يشترط إلا إذا كان يخاف من عدم إتمام النسك. فإن لم يجد هدياً في موضعه الذي أحصر فيه، أناب من يذبح عنه الهدي في الحرم ثم حل، فإن كان فقيراً لا يقدر على ذبح الهدي، صام عشرة أيام ثم حل في قول الجمهور، والصحيح لاشيء عليه، فيحلق أو يقصر وقد حل. وإن شاء أن يبقى على إحرامه إلى الحج القادم فله ذلك، ولكن الأسهل له التحلل لأنه لا يستطيع أن يدع محظورات الإحرام لمدة سنة كاملة! فهذا فيه مشقة شديدة. ولا فرق بين الحصر العام في حق الحجاج كلهم وبين الحصر الخاص بالفرد باتفاق أهل العلم. وأما إن تمكن المحصر من الوصول إلى البيت من طريق أخرى، تعين عليه ذلك، ولزمه سلوكها سواء بعدت أم قربت، ولم يُبَح له التحلل. وسواء أحصر المحرم عن البيت قبل الوقوف أو بعده، فله التحلل في أحد قولي العلماء، وأما إن كان ما أحصر عنه ليس من أركان الحج، كالمبيت بمزدلفة ومنى، ورمي الجمار، وطواف الوداع، فليس له أن يتحلل لأن صحة الحج لا تتوقف عليه، ويجب عليه دم لتركه الواجب، وقيل لا يجب لأن الواجب سقط عنه بالعجز. فإن عدم المُحْصَر الهدي ففي انتقاله إلى البدل خلاف بين أهل العلم.

رابعاً: مسائل متفرقة في الموضوع.

مسألة: حكم قضاء المحصر: في وجوب القضاء قولان: أحدهما يجب سواء كان الحج واجباً أم تطوعاً؛ لأنه إن كان واجباً فوجوب القضاء ظاهر، وسواء كان واجباً بأصل الشرع -بأن يكون هذا فريضة الإسلام- أو واجباً بالنذر، ولكن إذا كان تطوعاً فهل يجب القضاء؟ قيل: نعم، يجب القضاء؛ وذلك لأن الإنسان إذا شرع في النسك صار واجباً، وهذا من خصائص الحج والعمرة أنَّ نفلهما يجب المضي فيه، بخلاف غيرهما فهو لما شرع وأحرم بالحج أو بالعمرة صار ذلك واجباً كأنما نذره نذراً، وإلى هذا يشير قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(الحج:29) وعلى هذا فيجب القضاء سواء كان ذلك تطوعاً أو واجباً بأصل الشرع وهو الفريضة، أو بالنذر؛ لقول النبي -صلّى الله عليه وسلّم-: (من نذر أن يطيع الله فليطعه)9 وبهذا القول قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي، والثاني: لا قضاء عليه روي عن عطاء، ووجه الأول الحديث وإجماع الصحابة، وإذا قضى أجزأ القضاء عن الحجة الواجبة لا نعلم فيه خلافاً.

لكن الصحيح أن القضاء ليس بواجب إن كان الحج أو العمرة تطوعاً، لأن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- لم يلزم الناس بقضاء العمرة، وأن عمرة القضاء ليس معناها العمرة المقضية، وإنما معنى القضاء المقاضاة، وهي المصالحة التي حصلت بين النبي -صلّى الله عليه وسلّم- وبين قريش، والنبي -صلّى الله عليه وسلّم- لم يلزم الناس بالقضاء، لأن الله لم يفرض الحج والعمرة في العمر إلا مرة، فلو أوجبنا عليه القضاء لأوجبنا العمرة أو الحج مرتين أو ثلاثاً أو أكثر. وقيل: إن اشترط فلا قضاء عليه، ولا هدي عليه، إلا إذا كان الحج واجباً بأصل الشرع، أو واجباً بالنذر فإنه يلزمه القضاء ولو اشترط. وقيل: إن فاته بتفريط منه فعليه القضاء، وإن فاته بغير تفريط منه كما لو أخطأ في دخول الشهر فظن أن اليوم الثامن هو التاسع، ولم يعلم بثبوته فلا قضاء عليه، وهذا القول قول وسط بين من يقول يلزمه القضاء، ومن يقول لا يلزمه القضاء. فتكون الأقوال ثلاثة:

قيل يلزمه القضاء. وقيل: لا يلزمه القضاء. وقيل: التفصيل، فإن فاته بتفريط منه لزمه القضاء، وإن كان بغير تفريط منه لم يلزمه القضاء. والصحيح أنه لا يجب قضاء التطوع كما سبق.

مسألة : ومن خاف أن يفوته الحج فقلب إحرامه بالحج عمرة قبل أن يفوته فهو جائز، ولا يعد هذا فواتاً على كلام الفقهاء -رحمهم الله- قالوا: لأنه يجوز للحاج أن يقلب إحرامه عمرة، ولكن هذا القول فيه نظر؛ لأنه لا يجوز للحاج أن يقلب إحرامه عمرة إلا إذا أراد التمتع، وإرادة التمتع هنا ممتنعة.

مسألة: ويجب على المحصر الحلق أو التقصير؛ لأن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أمر بذلك بل إنه غضب لما تأخر الصحابة في الحلق. وقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}البقرة: 196 ، فيه إشارة إلى أنه لا بد من الحلق؛ لقوله:{وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} لكن السنة صرحت بأنه لا بد من الحلق أو التقصير.

مسألة: على من تحلل بالإحصار الهدي في قول أكثر العلماء لقوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}(196) سورة البقرة. وعن مالك: لا هدي عليه لأنه لم يفرط.

قيل: فإن فقد الهدي صام عشرة أيام ثم حل، قياساً على هدي التمتع، وهذا القياس فيه نظر، لأن الظاهر من حال الصحابة الذين كانوا مع النبي -صلّى الله عليه وسلّم- في الحديبية وهم أكثر من ألف وأربعمائة و فيهم الفقراء، ولم يرد أن رسول -صلّى الله عليه وسلّم- قال لهم: من لم يجد هدياً فليصم عشرة أيام، والأصل براءة الذمة. ولأن الهدي الواجب في التمتع هو هدي شكران للجمع بين النسكين، أما هذا فهو بعكس التمتع؛ لأن هذا حُرِم من نسك واحد، فكيف يقاس هذا على هذا؟ فلذلك لا يصح القياس، فمن لم يجد هدياً إذا أحصر فإنه يحل وليس عليه شيء. هذا ما تيسر ذكره في هذا الموضوع، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه.


 


1 –  الجوهرة النيرة – (ج 2 / ص 184)

2 – بداية المجتهد – (ج 1 / ص 284) بتصرف

3 – سنن أبي داود – (ج 5 / ص 204 – 1587)  وسنن الترمذي – (ج 4 / ص 24 – 862)  وسنن النسائي – (ج 9 / ص 273 – 2812)  و سنن ابن ماجه – (ج 9 / ص 204 – 3068)  ومسند أحمد – (ج 31 / ص 348 – 15172) وصححه الألباني في صحيح أبي داود ( 1627 و 1628 )

4 – فتح القدير  – (ج 6 / ص 94)

5 – البحر الرائق شرح كنز الدقائق – (ج 7 / ص 355)

7 – البحر الرائق شرح كنز الدقائق – (ج 7 / ص 370)

8 – صحيح مسلم – (ج 6 / ص 206 – 2102)

9 – صحيح البخاري – (ج 20 / ص 399 – 6202) وفي (ج 20 / ص 406 – 6206)