منافع الحجّ الدنيوية

ليشهدوا منافع لهم: منافع الحجّ الدنيوية

 

الحمد لله وحده، وأصلي وأسلم على خير خلقه، وأكرم رسله، خير من صلى وصام، وسجد لربه ثم قام، أما بعد:

فإن الإسلام وشرائعه خير كله، ورحمة كلّه، ومصلحة كلّه، وفضل ونعمة مسداة كلّه، مَن دان به رشد، ومَن عمل به سعد، ومَن التزمه فاز ونجا، ومَن أعرض عنه أو انحرف زاغ وضلّ، وتاه وشذّ.

وكلّ شيء في هذا الإسلام عظيم، من عقيدة قائمة على التوحيد الخالص، وتنزيه مطلق لله، وعبادة تصقل النفوس، وتهذب الطبائع، وتربي القلب، وتصحح الفكر، وتصلح الفرد والمجتمع، ومعاملة قائمة على الحقّ، والعدل والميزان، والاستقرار، وأخلاق وفضائل تقوِّم الاعوجاج، وتلجم الأهواء والشهوات، وتنمي عواطف الحبّ والودّ، والخير والسلام، وتحقق الاستقامة والرشد، وراحة النفس والضمير، وسلامة الأمة والجماعة،كل هذه العقائد والعبادات، والأخلاق والمعاملات، ذات غايات سامية، ومقاصد عالية، هدفها تهذيب النفس الإنسانية، وتربية الإنسان تربية قويمة صحيحة، توفّر على العلماء والدولة والمعلمين ثروات كبرى لا تحتاج إلا إلى شيء من التذكير والبيان، والتبسيط في تحديد الأهداف، والسمات المميزة لها، وهذا واضح كل الوضوح.

ففي جانب العبادات المفروضة في الإسلام – من صلاة وزكاة وصيام وحجّ على سبيل المثال – حصر دقيق لغاياتها في القرآن؛ يدور حول التقويم والتهذيب، والتربية والإصلاح، وأكتفي بإيراد آية كريمة في كلّ منها عدا الحجّ:

ففي قوله – تعالى – عن الصّلاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}1، بيان الغاية التربوية منها.

وفي قوله سبحانه عن الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا}2 إرشاد لجانب التطهير وتزكية النفوس، وتخليصها من آفات البخل والشح، وإنقاذ المستضعفين من الفقراء والمساكين من ذلِّ الحاجة والضعف والعوز.

وفي قوله – عزّ وجلّ – عن صيام شهر رمضان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}3، بيان صريح لثمرة الصوم، وفائدته العظمى وهي إعداد النفس لتقوى الله بترك الشهوات المباحة والمحظورة، وتقويم النفس وتربيتها وتزكيتها، والالتزام بالمأمورات الإلهية، واجتناب المنهيات.

فهذه كلها غايات تربوية سامية تتحقق بممارسة العبادات.

وأما فريضة الحجّ فبدءاً من رحلة مغادرة الوطن، إلى حين العودة إليه، فإنها رحلة تدريب عملي ميداني على آداب الإسلام وأخلاقه، وتجرد خالص للعبادة، وإظهار شامل للطاعة المطلقة، وتصفية الأعمال من شوائب المادة، وآصار الدنيا ومغرياتها، وتعلقات الحياة الرغيدة ومفاتنها، وتجوال الفكر العميق في تقديس الله – تعالى -، وجلاله وعظمته، وتحقيقٌ – كغيره من العبادات – لمنافع الدين والدنيا والآخرة، وسنتطرق إلى ذكر بعض المنافع الدنيوية التي يشهدها حجاج بيت الله الحرام كما ذكر الله عنهم قائلاً: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}4.

المنافع الدنيوية:

هي التي تكون سبباً لتقدم الحياة الإنسانية والاقتصادية، والاجتماعية والسياسية، والأخلاقية والعادات كلها، فيكون الحجّ والعمرة مدرسة عملية تدريبية على تحقيق المساواة التامة بين الناس في مظهرهم وحقوقهم وواجباتهم، فلا يتميز غني بغناه، ولا يعرف فقير بفقره، ولا حاكم بعزّته وسلطانه، ولا متنفذ ذو جاه بنفوذه وجاهه، ولا متفوق في أي شيء بتفوقه وتميزه فكراً وعملاً، واختراعاً وتطبيقاً، الكل يضرعون إلى الله، ويتجهون إلى عزّته، ويطمعون بعفوه ومغفرته، والجميع يتساوون في أداء المناسك والشعائر: في الوقوف بعرفات، والمشعر الحرام، ورمي الجمار، والطواف حول الكعبة المشرفة، والسعي بين الصفا والمروة، والحلق أو التقصير، وبعد أداء المناسك يتذاكر الحجاج الآراء في تبادل خيراتهم ومنتجاتهم وثرواتهم، فينتفع الكل فرداً وجماعة، ويعقدون الصفقات، أو يصدرون الوعود، وتتم المكاتبات، ومعرفة العناوين؛ لإكمال ما تمت المفاوضة حوله، وفي أثناء ممارسة تلك الشعائر يتعاطف الناس، ويتعلمون كيفية التخلص من داء الشح والبخل، فتسخوا الأيدي، ويكثر العطاء والبذل، ويزداد الإنفاق في سبيل الله، وتراق الدماء من الأضاحي والقربات، ويعم الخير الطوعي، ويستفيد الكل من هذا وذاك، وهذا يحقق تضامناً وتكافلاً اجتماعياً وطيد الجذور بين الأسرة الإسلاميّة الكبرى، ويغتني الفقراء، وتظهر ثمرات نداء سيدنا إبراهيم – عليه السلام – فيما حكاه الله عنه: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}5، ويقوى الشعور بالانتماء الخالد للأمة الإسلاميّة، والغيرة على مصالحها، والإحساس بواجب المسلم وحقه على أخيه المسلم، وضرورة الإسهام في تفادي المشكلات، وتخطي المحن والأزمات والصعاب، وترسيخ جذور وحدة المسلمين بالتعارف والتآلف، وتقييم الأحوال والأوضاع، والتخطيط لمستقبل باسم زاهر بعيد عن العثرات والمآسي والآلام، ويشعر الحجّاج بقوة الروابط التي تربطهم بإخوانهم في المشارق والمغارب، والتي أنعم الله بها عليهم، فأنشأها الإيمان، وحققها لهم الإسلام، وأحكم نسيجها بروابط الأخوة السامية المخلصة، والمحبة الصادقة، والودّ في الله ومن أجل الله، والإيثار والتضحية والفداء، والصدق في القول والعمل، والتأثر ببيئة وأحوال الصفاء والطهر الذي كان الحجُّ مظلة لها، ومؤثراً في تكوينها، فيسهل اللقاء، وتتجرد النفوس عن الأطماع والمصالح الذاتية، والأهواء والشهوات الصارفة عن جادة الاستقامة، كما تظهر في رحلة الحجّ أخلاق سامية من الصبر والتحمل، وتحمل الأذى والمشقة، والتخلص من العادات الذميمة والخصال السيئة، والترفع عن المعاصي والذنوب، وتحلي النفوس بعواطف المحبة، وتنمية عوامل الخير، وصنع المعروف، مما يجعل هذه الرحلة من أقوم السبل المؤدية إلى تهذيب الأنفس، وتقويم الطباع، والشعور براحة النفس والأمن والاطمئنان، وغمرة الفرحة والسعادة بأداء الفريضة، وبذكر الله {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}6.

وقد حذّر القرآن الكريم من التورط بما يتنافى مع إيجابيات الحجّ وآدابه المتعددة فقال – تعالى -: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}7، ويبشّر النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – الحجّاجَ المترفعين عن دنايا الأخلاق، المعتصمين بعفة اللسان وطهارة القلب، يبشرهم بالمغفرة الشاملة فقال فيما يرويه البخاري عن أبي هريرة – صلى الله عليه وسلم -: ((مَن حجّ فلم يرفُثْ، ولم يفسُق، رجع من ذنوبه كيومَ ولدته أُمّه))8، والرفث كما قال الأزهري: كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة، والفسق: المعصية، وقد جاء من حديث جابر مرفوعاً: ((إن بِرَّ الحجّ: إطعام الطعام، وطيبُ الكلام، وإفشاء السلام))9، ويمكن تلخيص منافع الحجّ الدنيوية: بطهر النفس، ونقاء القلب، وعفة اللسان، وسلامة الجوارح – الأعضاء – من كل ما يشينها، ويوقع في الأذى، إلى غير ذلك من التجارة بجميع أنواع البضائع من جميع البلدان، وكذلك الاستفادة من ذلك الموسم للبيع والشراء، وتوفر جميع ما يحتاجه المرء في معاشه وحياته من طعام وشراب، ومتاع وغذاء؛ لأن الناس يفدون بها من بلدانهم ومن شتى عوالمهم، ومختلف أمصارهم وأقطارهم.

نسأل الله تعالى أن يوفقنا لحج بيته، وزيارة نبيه – صلى الله عليه وسلم -، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


1 سورة العنكبوت (45).

2 سورة التوبة (103).

3 سورة البقرة (183).

4 سورة الحج (27).

5 سورة إبراهيم (37).

6 سورة الرعد (28).

7 سورة البقرة (197).

8 رواه البخاري برقم (1521).

9 أخرجه السيوطي وحسنه الألباني انظر حديث رقم 2819 في صحيح الجامع.