ما يكفره الحج من الذنوب
الحمد لله الذي شهدت الكائنات بوجوده، وشمل الموجودات عميم كرمه وجوده، ونطقت الجمادات بقدرته، وأعربت العجمات عن حكمته، وتخاطبت الحيوانات بلطيف صنعته، وتناغت الأطيار بتوحيده، أحمده حمداً تنطق به الشعور والجوارح، وأشكره شكراً يصيد نعمه صيد المصيد بالجوارح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ربٌ أودع أسرار ربوبيته في بريته، وأظهر أنوار صمديته في جواني بحره وبريته، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله أفضل من بعث بالرسالة، وسلمت عليه الغزالة، وكلمه الحجر، وآمن به المدر، وانشق له القمر، ولبت دعوته الشجر، واستجار به الجمل، وشكا إليه شدة العمل، وحن إليه الجذع، ودرّ عليه يابس الضرع، وسجت في كفه الحصباء، ونبع من بين أصابعه الماء، وصدقه ضب البرية، وخاطبته الشاة المصلية، صلى الله عليه صلاة تنطق بالإخلاص، وتسعى بالخلاص، وعلى آله أسود المعارك، وأصحابه شموس المسالك، وسلم تسليماً وزاده شرفاً وتعظيماً، أما بعد:
إن من رحمة الله – تعالى – على عباده المؤمنين أن جعل لهم مواسم للطاعات، ورتب عليها الأجور العظيمة (وهذا من دلائل حب الله – تعالى – لعباده)، حيث رتب – تعالى – للعبد أعمالاً هي مما يكفر عن العباد خطاياهم وسيئاتهم، فمن مكفرات الذنوب:
– الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((الصَّلَواتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ؛ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ))1.
– صلاة ركعتين بخشوع: فعن حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ – رضي الله عنه – دَعَا بِإِنَاءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْإِنَاءِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثاً وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثَ مِرَارٍ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))2.
– المصائب: فعن عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ – رضي الله عنه – أَنَّ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا))3.
– الأعمال الصالحة: قال – تعالى -: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}4.
– ومن المكفرات: الحج المبرور قال – صلى الله عليه وسلم -: ((الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ))5، وقال أيضاً: ((مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ))6.
فهذه بعض الأمور التي ورد في الشرع الحنيف أنها مما يكفر الذنوب والخطايا، وسنقف مع الحج وما يكفره من الذنوب والخطايا:
هل الحج يكفر جميع الذنوب – صغيرها وكبيرها – أم أنه يكفر الصغائر دون الكبائر؟
سبق الحديث عن بعض مكفرات الذنوب، ومنها الحج، إلا أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، فهل الحج يكفرهما معاً أم يكفر واحداً دون آخر؟
تحدث العلماء الأوائل حول هذا الموضوع بنوع تفصيل، فنقول – والله أعلم -:
أولاً: الذنوب والمعاصي لا بد لها من توبة صادقة، جامعة لشروط التوبة، فلا بد من الإقلاع عنها قال – تعالى -: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}7، فهذه الآية حددت الواجب الأول على العبد وهو: التوبة، والاستغفار، وهذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها، ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت، وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر، ولا يصح حمل هذه الآية على غير توبة؛ لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه.8
والمراد بالإسراف: الإفراط في المعاصي، والاستكثار منها، ومعنى لا تقنطوا: لا تيأسوا من رحمة الله ومن مغفرته، قال الإمام الشوكاني: "واعلم أن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله – سبحانه – لاشتمالها على أعظم بشارة، فإنه أوّلاً: أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم، ومزيد تبشيرهم، ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي، والاستكثار من الذنوب، ثم عقب ذلك بالنهي عن القنوط من الرحمة لهؤلاء المستكثرين من الذنوب، فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين من باب الأولى، وبفحوى الخطاب، ثم جاء بما لا يبقي بعده شك، ولا يتخالج القلب عند سماعه ظنّ فقال: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب}، فالألف واللام قد صيرت الجمع الذي دخلت عليه للجنس الذي يستلزم استغراق أفراده فهو في قوّة إن الله يغفر كلّ ذنب كائناً ما كان، إلا ما أخرجه النصّ القرآني وهو الشرك {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}، ثم لم يكتف بما أخبر عباده به من مغفرة كل ذنب بل أكد ذلك بقوله: {جَمِيعاً}، فيا لها من بشارة ترتاح لها قلوب المؤمنين، المحسنين ظنهم بربهم، الصادقين في رجائه، الخالعين لثياب القنوط، الرافضين لسوء الظنّ بمن لا يتعاظمه ذنب، ولا يبخل بمغفرته ورحمته على عباده، المتوجهين إليه في طلب العفو، الملتجئين به في مغفرة ذنوبهم، وما أحسن ما علل سبحانه به هذا الكلام قائلاً: إنه هو الغفور الرحيم أي: كثير المغفرة والرحمة، عظيمهما، بليغهما، واسعهما، فمن أبى هذا التفضل العظيم، والعطاء الجسيم، وظنّ أن تقنيط عباد الله وتيئيسهم من رحمته أولى بهم مما بشرهم الله به؛ فقد ركب أعظم الشطط، وغلط أقبح الغلط، فإن التبشير وعدم التقنيط جاءت به مواعيد الله في كتابه العزيز، وهو مسلك سلكه رسوله – صلى الله عليه وسلم – كما صح عنه من قوله: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا))9، وإذا تقرّر لك هذا فاعلم أن الجمع بين هذه الآية وبين قوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} هو: أن كلّ ذنب كائناً ما عدا الشرك بالله مغفور لمن شاء الله أن يغفر له، على أنه يمكن أن يقال: إن إخباره لنا بأنه يغفر الذنوب جميعاً يدل على أنه يشاء غفرانها جميعاً، وذلك يستلزم: أنه يشاء المغفرة لكلّ المذنبين من المسلمين.10
ثانياً: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَال: ((الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ))11، فقَوْلُهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ)) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ الْعُمْرَةُ مَعَ الْعُمْرَةِ تَكْفِيرٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَ"مَا" مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فَيَقْتَضِي مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ تَكْفِيرَ جَمِيعِ مَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَقَوْلُهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ((وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ)) عَلَى مِثَالِ مَفْعُولٍ مِنْ الْبِرِّ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ صَاحِبَهُ أَوْقَعَهُ عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ، وَأَصْلُهُ أَنْ لَا يَتَعَدَّى بِغَيْرِ حَرْفِ جَرٍّ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِمَبْرُورِ وَصْفَ الْمَصْدَرِ فَيَتَعَدَّى حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَتَعَدَّى مِنْ الْأَفْعَالِ فَإِنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَصْدَرِ، فَذَكَرَ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَوَعَدَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ، وَأَنَّ مَا دُونَ الْجَنَّةِ لَيْسَ بِجَزَائِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْعُمْرَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ أَفْعَالِ الْبِرِّ جَزَاؤُهَا تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ، وَحَطُّ الْخَطَايَا لِمَا يَقْتَصِرُ لِصَاحِبِهِ مِنْ الْجَزَاءِ عَلَى تَكْفِيرِ بَعْضِ ذُنُوبِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ إدْخَالَهُ الْجَنَّةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.12
وهذه الأحاديث تبين لنا جلياً أن رحمة الله – تعالى – واسعة، وأن الحج المبرور الذي أتى به صاحبه على الوجه الأكمل يكون مما يكفر الله به صغائر الذنوب، وأما الكبائر، والذنوب المتعلقة بحقوق الناس؛ فإنها إن كانت مالية كدين عليه فلا يكفره الحج، ولا بد من وفاء دينه، وأما الكبائر المتعلقة بحق الله – تعالى – فإن كانت مثل الإفطار في رمضان بغير عذر فيجب عليه قضاؤه ولا يكفره الحج، وإن كانت مثل تأخير الصلاة عن وقتها لغير عذر فإن الحج يكفره، وعليه أن يتوب توبة صادقة، وهذا خاص بالمعاصي المتعلقة بحق الله – تعالى – خاصة دون العباد، ولا تسقط الحقوق أنفسها، فمن كان عليه صلاة أو كفارة ونحوها من حقوق الله – تعالى – لا تسقط عنه لأنها حقوق لا ذنوب، وإنما الذنوب تأخيرها، فنفس التأخير يسقط بالحج لا هي نفسها.
والواجب على الحاج الحرص على تحقيق أسباب المغفرة بالاستقامة على الطاعة، وحفظ الحج وصونه عما ينقص أجره من الرفث والفسوق والجدال، والحذر مما يتساهل الناس، وليعلم أن الحج مخصوص بشرف الزمان والمكان، وعِظَمِ الحرمات، فإن المتلبس بالحج يكون أولاً في إحرام، ثم تزداد عليه الحرمة بدخوله في الحرم، ثم تزداد بمزاولته أعمال الحج؛ فوجب عليه أن يكون على أَتَمِّ صفة، وأحسنِ حال.
نسأل الله – تعالى – أن يهدينا سبيل الرشاد، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.