قالوها في موكب الحج وعرفات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن لخوالج النفس مشاعر شوق تفيضه دون عناء، وتسكبه بلا نصب؛ إذا ما مازجت أحاسيس المرء، وجرت في دماءه، وعانقت روحه، وداعبت فؤاده، ولاعبت دماغه، فتثري به معين الأدب ما يهتز لندى بوحه الأسماع، ويسري صداه في الأصقاع، وتروي من حقول الشعر ما يمتع الناظر، ويروق الخاطر.
تلك هي المشاعر، ضج بها الفؤاد فأطلقها اللسان، وجري بها القلم، فدونتها المحابر، وتلقتها العشائر، كابراً عن كابر، وصاغراً عن صاغر، وإن عانق صاحبها المقابر.
تجد صاحبها يعبر بها عما يكنه فؤاده في قالب شعري فتارة يتغزل في حبيبته، وثانية يتمدح بصنيع عشييرته، وذاك يصف الروابي الخضر المطلة على سفوح الجبال بارعة الجمال، ورابع يبكي المعالم الدارسة والأطلال الذاهبة، وآخر يرثى فراق الأحباب وينعي رحيل الأصحاب و..و..و…
وأما المشاعر هنا فقد جاشت ليصف صاحبها رحلة العمر، تلك الرحلة التي تذكر بالرحيل إلى الدار الآخرة، الرحلة إلى البلد العتيق الذي يقصده الحجيج {مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}1.
يتقاطر منهم الشوق لتلك الديار فتتلقفها قرائحهم تبوح بما تكنه صدروهم من حر الشوق، ولهيب التوق، ونستعرض هنا جملة من تلك القصائد التي قالوها إما في طريقهم للحج، وإما عند وصفهم للمشاعر، أو تأملهم ليوم المباهاة – يوم عرفة -، تفوح منها صدق العبارة، ويأسرك فيها براعة السبك، وتناسق رفيع الجدارة، قد لا يتجاوز بعضها السطر، وبعضها قد جاوز نصابه العشر، نأخذ منها نتفاً من قصائدهم وأشعارهم لئلا يطول بنا المقام.
أولاً: في طريقهم إلى الحج:
حج الشبلي فلما رأى مكة قال:
أبطحاء مكة هذا الذي أراه عيـانا وهـذا أنا
ثم غشى عليه فلما أفاق قال:
هذه دارهم وأنت محـب ما بقاء الدموع في المآق2
وقال سري: لقيت في طريق الحج حبشية فقلت: إلى أين؟ قالت: الحج، قلت: الطريق بعيد، فقالت:
بعيد على كسلان أو ذي ملالة فأما على المشتاق فهو قريب
ثم قالت: يا سري إنهم يرونه بعيداً، ونراه قريباً، فلما وصلت البيت رأيتها تطوف كالفتى الشاطر، فنظرت إليها فقالت: يا سري أنا تلك العبدة لما جئته بضعفي حملني بقوته.3
وعن الحسين بن عبد الرحمن قال: حج سعيد بن وهب ماشياً فبلغ منه وجهد فقال:
قدمي اعتورا رمل الكثيـب واطرقا الآجن من ماء القليب
رب يوم رحتمـا فيه على زهرة الدنيا وفي واد خصيب
وسمـاع حسن مـن حسن صخب المـزهر كالظبي الربيب
فاحسبا ذاك بـهذا واصـبرا وخــذا من كل فن بنصيب
إنـما أمـشي لأني مذنـب فلعــل الله يعفو عن ذنوب4
قَالَ الربيع بن سليمان: حججنا مع الشافعي، فما ارتقى شرفاً ولا هبط وادياً إلا وهو يبكي وينشد:
يا راكباً قف بالمحصب من منى *** واهتف بقاعد خيفنا والناهضِ
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى *** فيضاً كملتطم الفرات الفائضِ
إن كان رفضاً حب آل محمدِ *** فليشهد الثقلان أني رافـضي5
ورأى بعض الصالحين الحجاجّ في وقت خروجهم، فوقف يبكي ويقول: واضعفاه! ثم تنفس وقال: هذه حسرة من انقطع من الوصول إلى البيت، فكيف تكون حسرة من انقطع عن الوصول إلى رب البيت؟!
يحق لمن رأى الواصلين وهو منقطع أن يقلق، ولمن شاهد السائرين إلى ديار الأحبة وهو قاعد أن يحزن.
ألا قل لزوّار دارِ الحبيب *** هنيئاً لكم في الجنان الخلود
أفيضوا علينا من الماء فيضاً *** فنحن عطاش وأنتم ورودُ6.
إذا قطعهم عن الوصول قاطع:
وأروع ما ذكروا في ذلك ما أورده صاحب التاريخ العربي من أن البرعي في حجه الأخير أخذ محمولاً على جمل، فلما قطع الصحراء مع الحج الشامي، وأصبح على بعد خمسين ميلاً من المدينة، هب النسيم رطباً عليلاً معطراً برائحة الأماكن المقدسة، فازداد شوقه للوصول لكن المرض أعاقه عن المأمول، فأنشأ قصيدة لفظ مع آخر بيت منها نفسه الأخير .. يقول فيها:
يا راحلين إلـى منـى بقيـادي *** هيجتموا يوم الرحيـل فـؤادي
سرتم وسار دليلكم يا وحشتـي *** الشوق أقلقني وصوت الحـادي
وحرمتموا جفني المنام ببعدكـم *** يا ساكنين المنحنـى والـوادي
ويلـوح لي مابين زمزم والصفـا *** عند المقام سمعت صوت منادي
ويقول لي يا نائماً جـد السُـرى *** عرفات تجلو كل قلب صـادي
من نال من عـرفات نظرة ساعة *** نال السرور ونال كل مـرادي
تالله ما أحلى المبيـت على منـى *** في ليل عيد أبـرك الأعيـادي
ضحوا ضحاياهم وسال دماؤها *** وأنا المتيم قد نحـرت فـؤادي
لبسوا ثياب البيض شارات اللقاء *** وأنا الملوع قد لبسـت سـوادي
فإذا وصلتـم سالميـن فبلغـوا *** مني السلام أُهيـل ذاك الـوادي
قولوا لهم عبـد الرحيـم متيـم *** ومفـارق الأحـبـاب والأولاد
صلى عليك الله يا علـم الهـدى *** ما سار ركب أو ترنـم حـادي7
عند وصفهم للمشاعر:
وقصيدة الأديب أبي بكر محمد بن محمد بن عبد الله بن رشد البغدادي في ذكر الحج ومشاعره هي أعظم ما سطرته أنامل إنسان على وجه هذه البسيطة حسب ما أظن، فلم يدع فيها لذي لب مقالاً، أو أديب محلاً ومقاماً، جلى فيها مراحل الحج بروحانية المستشعر، وحر المشتاق، وهي طويلة إلا أنا سنورد جزء منها وقد استهلها بقوله:
أيا عذبات البان من أيمـن الحمـى *** رعى الله عيشاً في ربـاك قطعنـاه
سرقناه من شرخ الشباب وروْقـه *** فلما سرقنا الصفو منـه سُرقنـاه
وجاءت جيوش البين يقدمها القضا ***فبـدد شمـلاً بالحجـاز نظمـناه
فهاتيك أيـام الحيـاة وغيـرهـا *** ممات فياليت النـوى مـا شهدناه
وترجع أيام المحصـب مـن منـى *** ويبـدو ثـراه للعيـون حصـباه
ونشكو إلى أحبابنـا طـول شوقنا *** إليهـم ومـاذا بالفـراق لقيـناه
فلا كانت الدنيـا إذا لـم يعاينـوا *** هم القصد في أولى المشوق وأخراه
عليكم سلام الله يا ساكني الحمـى *** بكم طاب رياه بكم طاب سكنـاه
أسكان وادي المنحنى زاد وجدنـا *** بمغنى حماكم ذاك مغنـى شغفنـاه
نحنّ إلـى تلـك الربـوع تشوقـاً *** ففيها لنا عهـد وعقد عقدنـاه
قضينا مع الأحبـاب فيـه مآربـا *** إلى الحشر لا تنسى سقى الله مرعاه
فشدوا مطايانا إلـى الربـع ثانيـا *** فإن الهوى عن ربعكم مـا ثنينـاه
رؤية البيت
وما زال وفـد الله يقصـد مكـة *** إلى أن بدا البيت العتيق وركنـاه
فضجت ضيوف الله بالذكر والدعا *** وكبرت الحجـاج حيـن رأيناه
وقد كادت الأرواح تزهق فرحـة *** لما نحن من عظم السرور وجدناه
تصافحنا الأملاك من كان راكبـاً *** وتعتنـق الماشـي إذا تتلـقـاه
ذكر البيت والطواف
ففـي ربعهـم لله بيـت مـبـارك *** إليه قلوب الخلـق تهـوى وتهـواه
يطوف بـه الجانـي فيغفـر ذنبـه *** ويسقـط عنـه جرمـه وخطايـاه
فكم لـذة كـم فرحـة لطـوافـه *** فلله مـا أحلـى الطـواف وأهناه
نطوف كأنا فـي الجنـان نطوفهـا *** ولا هـم لا غـم فـذاك نفيـنـاه
فواشوقنـا نحـو الطـواف وطيبـه *** فذلـك شـوق لا يعـبـر معـناه
فمن لم يذقه لـم يـذق قـط لـذة *** فذقه تذق يا صاح مـا قـد أذقنـاه
فوالله ما ننسـى الحمـى فقلوبنـا *** هناك تركناهـا فيـا كيـف ننسـاه
الإحرام من الميقات
ولمـا بـدا ميقـات إحرام حجنـا *** نزلنـا بـه والعيـس فيـه أنخـنـاه
ليغتسـل الحجـاج فيـه ويحرموا *** فمنـه نلـبـي ربـنـا لا حرمـناه
وصرنا كأمـوات لففنـا جسومنـا *** بأكفانـنـا كـلٌ ذليـل لمــولاه
لعـل يرى ذل العـبـاد وكسـرهم *** فيرحمـهم رب يرجُّـون رحـمـاه
ينادونـه: لبيـك لبيـك ذا الـعلا *** وسعديك كـل الشـرك عنـك نفيناه
فلو كنـت يـا هـذا تشاهـد حالهم *** لأبكاك ذاك الحال فـي حـال مـرآه
إلـى زمـزم زمـت ركـاب مطينـا *** ونحو الصفا عيس الوفـود صففنـاه
فما البيت ما الأركان ما الحجر ما الصفا *** وما زمزم أنـت الـذي قـد قصدنـاه
وأنت منانـا أنـت غايـة سولـنـا *** وأنـت الـذي دنيـا وأخـرى أردناه
المبيت بمنى والمسير إلى عرفات
وبتنا بأقطار المحصب من منـى *** فيا طيب ليـل بالمحصـب بتنـاه
وفي يومنا سرنا إلى الجبل الـذي *** من البعد جئناه لما قـد وجدنـاه
فلا حج إلا أن نكـون بأرضـه *** وقوفاً وهذا في الصحيح روينـاه
ولـا رأينـاه تعالـى عجيجنـا *** نلبـي وبالتهليـل منـا ملأناه
وفيـه نزلنـا بكـرة بذنوبـنـا *** وما كان من ثقل المعاصي حملناه
الإفاضة والمبيت بمزدلفة وذكر الله عند المشعر
أفيضوا وأنتم حامدون إلهكـم *** إلى مشعر جاء الكتاب بذكراه
وسيروا إليه واذكروا الله عنده *** فسرنا وفي وقت العشاء نزلناه
وفيه جمعنا مغرباً وعشاءهـا *** ترى عائداً جمعاً لجمع جمعناه
وبتنا به حتى لقطنـا جمارنـا *** ورباً شكرناه على ما هدانـاه
ومنه أفضنا حيثما الناس قبلنا *** أفاضوا وغفران الإله طلبنـاه
نزول منى والرمي والحلق والنحر
ونحو منى ملنا بها كان عيدنـا *** ونلنا بها ما القلب كان تمنـاه
فمن منكـم بالله عيَّـد عيدنـا *** فعيد منـى رب البريـة أعـلاه
وفيه رمينـا للعقـاب جمارنـا *** ولا جُرْمَ إلا مَعْ جمارٍ رمينـاه
وبالجمرة القصوى بدأنا وعندها *** حلقنا وقصرنا لشعر حضرنـاه
ولما حلقنا حلّ لبـس مخيطنـا *** فيا حلقة منها المخيط لبسنـاه
وفيها نحرنا الهدي طوعاً لربنا *** وإبليس لما أن نحرنـا نحرنـاه
ومن بعدها يومان للرمي عاجلاً *** ففيها رمينـا والإلـه دعونـاه
وإياه أرضينا برمـي جمارنـا *** وشيطاننا المرجوم ثم رجمنـاه
وبالخيف أعطانا الإلـه أماننـا *** وأذهب عنا كل ما نحن نخشاه
ذكر الرحيل إلى طيبة وزيارة النبي – عليه الصلاة والسلام –
ومن بعدما طفنـا طـواف وداعنـا *** رحلنا لمغنى المصطفـى ومصـلاه
ووالله لو أن الأسنـة أشـرعــت *** وقامت حروب دونـه مـا تركناه
ولـو أننـا علـى الـروس دونـه *** ومن دونه جفـن العيـون فرشنـاه
وتملـك منـا بالوصـول رقبـانـا *** ويسلب منـا كل شـيء ملكنـاه
لكـان يسيـراً فـي محبـة أحمـد *** وبالروح لو يشرى الوصال شرينـاه
ورب الورى لولا محمـد لـم نكـن *** لطيبـة نسعى والركاب شددنـاه
ولولاه ما اشتقنـا العقيـق ولا قبـا *** ولولاه لـم نهـوَ المدينـة لـولاه
فوا عجبـاه كيـف قـرّت عيوننـا *** وقـد أيقنـت أن الحبيـب أتيناه
ولقياه منـا بَعـدَ بُعـدٍ تقـاربـت *** فو الله لا لقيـا تـعـادل لقـيـاه
وصلنـا إليـه واتصلنـا بقـربـه *** فلله مـا أحلـى وصـولاً وصلنـاه
وقفنـا وسلمنـا علـيـه وإنــه *** ليسمعنا مـن غيـر شـك فدينـاه
ومسجـده فيه سجـدنـا لربـنـا *** فلله مـا أعلى سجـوداً سجدنـاه
بروضتـه قمنـا فهاتـيـك جـنـة *** فيا فوز من فيهـا يصلـي وبشراه
وزرنـا مزارات البقيـع فليتـنـا *** هنـاك دفنـا والممـات رزقـنـاه
فإذ ما رأيـت القبـر قبـر محمـد *** فلا تـدن منـه ذاك أولـى لعليـاه
وقـف بوقـار عـنـده وسكيـنـة *** ومثل رسـول الله حيـاً بمـثـواه
وسلـم عليـه والوزيريـن عنـده *** وزره وكـم زرنـا لنحصـد عقبـاه
وبلغـه عنـا لا عدمـت سلامـنـا *** فأنـت رسـول للرسـول بعثناه
ومن كـان منـا مبلغـا لسلامنـا *** فإنـا بمبـلاغ السـلام سبقـنـاه
فيا نعمـة لله لسنـا بشكـرهـا *** نقوم ولـو مـاء البحـور مددنـاه
فنحمد رب العرش إذ كـان حجنـا *** بزورة مـن كـان الختـام ختمناه
عليك سلام الله مـا دامـت السمـا *** سلام كمـا يبغـى الإلـه ويرضـاه8
وصف مشهدُ الحجيج:
قال ابن القيم – رحمه الله -:
أما والذي حج المحبون بيته *** ولبّوا له عند المهل وأحرموا
وقد كشفوا تلك الرؤس تواضعاً *** لعزة من تعنوا الوجوه وتُسلمُ
يُهلّون بالبيداء لبيك ربنا *** لك الملك والحمد الذي أنت تعلمُ
دعاهم فلبوه رضاً ومحبة *** فلما دعوه كان أقرب منهم
تراهم على الأنضاء شُعثاً رءوسهم *** وغُبراً وهم فيها أسر وأنعم
وقد فارقوا الأوطان والأهل رغبة *** ولم تُثْنهم لذاتهم والتنعّم
يسيرون كم أقطارها وفجاجها *** رجالاً وركباناً ولله أسلموا
ولما رأت أبصارهم بيته الذي *** قلوب الورى شوقاً إليه تضرّمُ
كأنهم لم يَنْصبوا قطّ قبله *** لأن شقاهم قد ترحّل عنهمُ
فلله كم من عَبرةٍ مهراقةٍ *** وأخرى على آثارها لا تَقدمُ
وقد شرقت عين المحب بدمعها *** فينظر من بين الدموع ويُسجمُ
وراحوا إلى التعريف يرجون رحمة *** ومغفرة ممن يجود ويكرم
فلله ذاك الموقفُ الأعظم الذي *** كموقف يوم العرض بل ذاك أعظمُ
ويدنو به الجبّار جلّ جلاله *** يُباهي بهم أملاكه فهو أكرم
يقول عبادي قد أتوني محبةً *** وإني بهم برّ أجودُ وأكرم
فأُشهدكم أني غفرت ذنوبهم *** وأعطيتُهم ما أمّلوه وأنعمُ
فبشراكمُ يا أهل ذا الموقف الذي *** به يغفرُ الله الذنوب ويرحم
فكم من عتيقٍ فيه كُمل عتقه *** وآخر يَسْتسعي وربُك أكرمُ
وما رُئي الشيطان أغيظ في الورى *** وأحقر منه عندها وهو ألأمُ
وذاك لأمر قد رآه فغاظة *** فأقبل يحثو التُرب غيظاً ويلطمُ
لما عاينت عيناه من رحمة أتت *** ومغفرة من عند ذي العرش تُقْسَمُ
بنى ما بنى حتى إذا ظن أنه *** تمكن من بنيانه فهو مُحْكمُ
أتى الله بُنياناً له من أساسه *** فخرّ عليه ساقطاً يتهدمُ
وكم قدر ما يعلو البناء وينتهي *** إذا كان يبنيه وذو العرش يهدمُ 9
نسائم الرحمات على صعيد عرفات:
وأما عرفات فذلك الموطن الذي ألهب قرائح الشعراء، وأذكى نار الأدب في أجوافهم لتزفر بكلمات أصدق ما تقول فيها أن من نطق بها قلوبهم وإن تفوهت بها ألسنتهم، فهذا أحمد شوقي يصور مشهد الحجيج وهم على صعيد عرفات:
رفعوا الأكف وأرسلوا الدعـوات *** وتجـردوا للـه في عرفــات
شعثاً تجللهم سحــائب رحمـة *** غبراً يفيض النور في القسمات
وكـأن أجنحـة الملائك عـانقت *** أرواحـهم بالبر والطـاعـات
فتنزلت بين الضلـوع سكينــة *** علوية موصـولـة النفحـات
وتصـاعدت أنفــاسهم مشبوبة *** وجـدا يسيل بواكـف العبرات
هذي ضيوفـك يـا إلهي تبتغـي *** عفواً وترجو ســابغ البركات
غصـت بهم في حلـهم ورحيلهم *** رحب الوهـاد وواسع الفلوات
تركوا وراء ظهورهم دنيا الورى *** وأتوك في شوق وفي إخبـات
وفدوا إلى أبواب جودك خشعـاً *** وتزاحموا في مهبط الرحمـات
فاقبل إله العرش كل ضراعــة *** وامــح الذنوب وكفر الزلات10
وتجلية أخرى للأديب الفحل ابن رشد البغدادي وهو يعيش لحظات الأنس في عرفات فيقول:
وبعد زوال الشمس كـان وقوفنـا *** إلى الليل نبكـي والدعـاء أطلنـاه
فكم حامد كـم ذاكـر ومسبـح *** وكم مذنب يشكـو لمـولاه بلـواه
فكم خاضع كـم خاشـع متذلـل *** وكم سائل مـدت إلـى الله كفاه
وساوى عزيز في الوقوف ذليلنــا *** وكم ثوب عز في الوقوف لبسنـاه
ورب دعانـا ناظـر لخضوعـنـا *** خبير عليـم بالذي قـد أردنـاه
ولما رأى تلك الدموع التي جرت *** وطول خشوع مع خضوع خضعنـاه
تجلى علينـا بالمتـاب وبالرضـى *** وباهى بنا الأملاك حيـن وقفنـاه
وقال انظروا شعثاً وغبراً جسومهم *** أجرنـا أغثنـا يـا إلهـاً دعونـاه
وقد هجـروا أموالهم وديارهـم *** وأولادهم والكـل يرفـع شكـواه
إليَّ فإنـي ربـهـم ومليكـهـم *** لمن يشتكي المملـوك إلا لمـولاه
ألا فاشهدوا أني غفـرت ذنوبهـم *** ألا فانسخوا ما كان عنهم نسخناه
فقد بدلت تلك المسـاوي محاسنـاً *** وذلك وعـد مـن لدنا وعدناه
فيا صاحبي من مثلنا فـي مقامنـا *** ومن ذا الذي قد نال ما نحن نلنـاه
على عرفات قـد وقفنـا بموقـف *** به الذنب مغفـور وفيـه محونـاه
وقد أقبل البـاري علينـا بوجهـه *** وقال ابشروا فالعفو فيكم نشرنـاه
وعنكم ضمنا كـل تابعـة جـرت *** عليكـم وأمـا حقـنـا فوهبـنـاه
أقلناكم من كـل مـا قـد جنيتـم *** وما كان من عذر لدينـا عذرنـاه
فيا من أسا يا من عصى لو رأيتنـا *** وأوزارنـا ترمـى ويرحــمنـا الله
تلبية القصيد:
وهذا أبو نواس حين جنَّ الليل لما أراد الإحرام بالحج جعل يلبي بشعر، ويحدو ويطرب في صوته، حتى فتن به كل من سمعه قال:
يا مالكا ما أعدلك
مليك كل من ملك
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
عبدك قد أهلَّ لك
أنت له حيث سلك
لولاك يا رب هلك
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
والليل لما أن حلك
والسابحات في الفلك
على مجاري تنسلك
كل نبي وملك
وكل من أهلَّ لك
سبح أو صلى فلك
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
يا مخطئا ما أجهلك
عصيت ربا عدلك
وأقدرك وأمهلك
عجل وبادر أملك
واختم بخير عملك
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك11
عند منقلبهم إلى الديار:
فإذا قضى الحجاج مناسكهم، ورجعوا إلى ديارهم، لم تجدهم إلا مشتاقين إلى تلك الأماكن التي فارقوها، يتسقّطون أخبارها، ويسألون عن معالمها، فيبصرونها في عيون القادمين، ويشمون عبقها وأريجها في ثياب الوافدين
إذا قـدم الركــب يممتهــم **** أحيي الوجـوه صـدوراً وروداً
وأسـألهم عـن عقيق الحمـى *****وعـن أرض نجـد ومن حل نجدا
ألا حَـدِّثوا عن عقيقٍ حديثـاً ***** فأنتـم به أقرب – اليومَ – عهـدا
ألا هل سمعتم ضجيج الحجيج ***** على ساحة الخيف والعيس تحدى
فذِكْـرُ المشـاعر والمَرْوَتَيْنِ ***** وذِكرُ الصَّفَـا يطـرد الهـمَّ طَرْد12
ولعل من المناسب أن نورد في ختام هذا الجمع لقصائد وأشعار العلماء والأدباء؛ قصيدة تحمل الطرافة والظرافة للعلامة السعدي بعدما أتينا على شيء من قصائد البوح، ولوعة المشاعر، وهي من باب وأنه أضحك وأبكى قالها – رحمه الله – أول ما ركب السيارة مسافراً للحج يقول فيها:
يا راحلين إلى الحِمى برواحلٍ *** تطوى الفَلا والبِيد طىٌَ المسرع
ليست تبول ولا تروث وما لها *** رُوحٌ تَحِنٌُ إلى الربيع المُمْرِِع
ما استولدت من نوقِنا بل صُنعها *** من بعض تعليم اللطيف المبدع
كم أوصلت دار الحبيب وكم سرت *** بحمولها نحو الديار الشٌُسٌَع13
ونود أن ننوه القاريء الكريم أنا اقتصرنا في الجمع على بعض قصائد وأبيات الأدباء والعلماء قبل هذا القرن، ولم نتطرق إلى شعر الأدباء حديثاً؛ اختصاراً واقتضاباً، وإلا فإن في قصائد الأدباء في العصر الحديث ما يأسر اللب، ويحلق بالفكر في عالم الحس المرهف، والشاعرية المتقدة.
والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
1 سورة الحج (27).
2 المدهش (1/148).
3 التبصرة (2/148).
4 التبصرة (2/148-149)
5 سير أعلام النبلاء (10/58)
6 صفوة الصفوة (4/332)
7 شرح ديوان البرعي في المدائح الربانية والنبوية والصوفية – الطبعة الرابعة 1386هـ – 1967م. نشر مكتبة القاهرة.
8 شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام للفاسي، وذكر أن صاحبها سماها: "الذهبية في الحجة المالكية والذروة المحمدية".
9 أوردها في ميميته المشهورة.
10 ديوان أحمد شوقي.
11 البداية والنهاية (10/233).
12 مجلة بينات العدد (245) ركن أضاءت.
13 الفتاوى السعدية (679).