فلم يرفث

 

 

فلم يرفث

اللهم لك الحمد جزيل الثواب، جميل المآب، سريع الحساب، منيع الحجاب، منحت أهل الطاعة، ورغبتهم فيها، وأوجدت فيهم الاستطاعة، وأثبتهم عليها، وخلقت لهم الجنان، وسقتهم فضلاً إليها، وجعلت في الأعمال مفضولاً وفاضلاً وجيهاً، رب أحمدك كما ينبغي لجلال وجهك، وكمال قدسك، وصل اللهم أتم الصلاة وأكملها، وأشرفها على الدليل إليك، والمرغب فيما لديك؛ محمد أفضل خلقك أجمعين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، صلاة لا يحصيها عدد، ولا يقطعها أمد، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

فالحج شعيرة من شعائر الدين، وركن من أركانه كما في حديث  ابْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  :((بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ))1، فعلم من خلال هذا الحديث أن الحج ركن من أركان الإسلام من أنكره كفر، وخرج من الملة، وهذه العبادة لها وقت محدد جاء تعيينه في قوله – تعالى -: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}2، وظاهر النص أن للحج وقتاً معلوماً، وأن وقته أشهر معلومات هي: شوال، وذو القعدة، والعشر الأوائل من ذي الحجة، وعلى هذا فلا يصح الإحرام بالحج إلا في هذه الأشهر المعلومات؛ وإن كانت بعض المذاهب تعتبر الإحرام به صحيحاً على مدار السنة، ويخصص هذه الأشهر المعلومات لأداء شعائر الحج في مواعيدها المعروفة، وقد ذهب إلى هذا الرأي الأئمة: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد بن حنبل، وهو مروي عن إبراهيم النخعي، والثوري، والليث بن سعد، وذهب إلى الرأي الأول: الإمام الشافعي، وهو مروي عن ابن عباس، وجابر، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وهو الأظهر.

فمن  فرض الحج في هذه الأشهر المعلومات – أي أوجب على نفسه إتمامه بالإحرام – {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}، والرفث هنا أي ذِكْرُ الجماع، ودواعيه إما إطلاقاً، وإما في حضرة النساء كما قال – تعالى -: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}، وكذلك يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة والتقبيل ونحو ذلك، وكذا التكلم به بحضرة النساء، وقيل: الرفث الإفحاش بالكلام، والجدال: المناقشة والمشادة حتى يغضب الرجل صاحبه، والفسوق: إتيان المعاصي كبرت أم صغرت، والنهي عنها ينتهي إلى ترك كل ما ينافي حالة التحرج، والتجرد لله في هذه الفترة، والارتفاع على دواعي الأرض، والرياضة الروحية على التعلق بالله دون سواه، والتأدب الواجب في بيته الحرام لمن قصد إليه متجرداً حتى من مخيط الثياب3.

وحدد النبي   جزاء من تجنب الرفث، والفسوق، والعصيان فقال في الحديث الذي يرويه البخاري،ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : ((مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ))4.

إلا أن الحج ليس أداء عبادة فقط؛ بل إن له شروط ومتطلبات قد تختلف بعض الشيء عن بقية العبادات، لأنه عبادة بدنية، ومالية، ووقتية – محددة بوقت معين -… الخ، وهذه العبادة (عبادة الحج) مبنية على الاستطاعة حتى تجب على مؤديها، ثم في وقت أدائها يجب على الحاج أداؤها حال الاستطاعة فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: ((سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ   أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ أَوْ أَيُّ الْأَعْمَالِ خَيْرٌ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِه،ِ قِيلَ: ثُمَّ أَيُّ شَيْءٍ؟ قَالَ: الْجِهَادُ سَنَامُ الْعَمَلِ، قِيلَ: ثُمَّ أَيُّ شَيْءٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ))5، في هذا الحديث العظيم فوائد منها:

1- أن جمعاً من العلماء استدلوا بهذا الحديث الصحيح على أن الجهاد أفضل من حج النافلة.

2- أنه لا يقدم شيء على التوحيد.

3- أن الجهاد إذا كان فرض عين والحج نافلة فإن الجهاد فرضيته مقدمة على الحج.

4- فضيلة الحج: قال الإمام أحمد – رحمه الله -: “الحج فيه مشقة وتعب، وأعمال بدنية ومالية فما أعظمه”، وقال أيضاً: “في الحج موقف لا يشبهه موقف في الدنيا وهو الوقوف بعرفة”.

5- الحج المبرور: وهو الذي عمل فيه الحاج الواجبات والمستحبات، وترك المحرمات والمكروهات6.

وهذا الحديث أيضاً يحدد فيه النبي   الحج على الصفة المطلوبة وهو الحج المبرور، والحج المبرور معناه ما ذُكِرَ في الآية: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}، فالحج الذي لم يخالطه رفث، أو فسوق، أو معصية؛ هو الحج الذي حدد النبي   جزاؤه حيث قال في الحديث الذي رواه أَبِو هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -ُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ   قَالَ: ((الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ))7.

ونجد أن الله -تعالى – يحبب إليهم فعل الجميل بعد النهي عن فعل القبيح فيقول: {وَمَاتَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ}، ويكفي في حس المؤمن أن يتذكر أن الله يعلم ما يفعله من خير، ويطلع عليه، ليكون هذا حافزاً على فعل الخير، ليراه الله منه ويعلمه، وهذا وحده جزاء قبل الجزاء، ثم يدعوهم إلى التزود في رحلة الحج، زاد الجسد، وزاد الروح فقد ورد أن جماعة من أهل اليمن كانوا يخرجون من ديارهم للحج ليس معهم زاد، يقولون: نحج بيت الله ولا يطعمنا، وهذا القول؛ فوق مخالفته لطبيعة الإسلام التي تأمر باتخاذ العدة الواقعية في الوقت الذي يتوجه فيه القلب إلى الله، ويعتمد عليه كل الاعتماد؛ يحمل كذلك رائحة عدم التحرج في جانب الحديث عن الله، ورائحة الامتنان على الله بأنهم يحجون بيته فعليه أن يطعمهم، ومن ثم جاء التوجيه إلى الزاد بنوعيه، مع الإيحاء بالتقوى في تعبير عام دائم الإيحاء: {وَتَزَوَّدُواْفَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}.

“والتقوى زاد القلوب والأرواح؛ منه تقتات، وبه تتقوى وترف وتشرق، وعليه تستند في الوصول والنجاة، وأولوا الألباب هم أول من يدرك التوجيه إلى التقوى، وخير من ينتفع بهذا الزاد”.8

وفي قَوْله  : ((وَالْحَجّ الْمَبْرُور لَيْسَ لَهُ جَزَاء إِلَّا الْجَنَّة)) الْأَصَحّ الْأَشْهَر: أَنَّ الْمَبْرُور هُوَ الَّذِي لَا يُخَالِطهُ إِثْم، مَأْخُوذ مِنْ الْبِرّ وَهُوَ الطَّاعَة، وَقِيلَ: هُوَ الْمَقْبُول، وَمِنْ عَلَامَة الْقَبُول أَنْ يَرْجِع خَيْراً مِمَّا كَانَ، وَلَا يُعَاوِد الْمَعَاصِي، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا رِيَاء فِيهِ، وَقِيلَ: الَّذِي لَا يُعْقِبهُ مَعْصِيَة، وَهُمَا دَاخِلَانِ فِيمَا قَبْلهمَا، وَمَعْنَى ((لَيْسَ لَهُ جَزَاء إِلَّا الْجَنَّة)): أَنَّهُ لَا يَقْتَصِر لِصَاحِبِهِ مِنْ الْجَزَاء عَلَى تَكْفِير بَعْض ذُنُوبه بَلْ لَا بُدّ أَنْ يَدْخُل الْجَنَّة9، والمراد بالحج الذي يكفر الذنوب هو الحج الذي وفيت أحكامه فوقع لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل.

والحج المبرور قد يكون أفضل من الجهاد في سبيل الله لما في الحديث عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – أَنَّهَا قَالَتْ:)) يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلَا نُجَاهِدُ؟ قَالَ:لَا، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ))10، فالحج وغيره من صالح الأعمال من أسباب تكفير السيئات إذا أداها العبد على وجهها الشرعي، عدا الكبائر التي لا بد لها من توبة صادقة بشروط التوبة المعروفة.

ولذا حرم الله – عزوجل – على الحاج الرفث والجدال في الحج أثناء تأدية المناسك؛ كونها سوف تحصل نتيجة الزحام الغير عادي، والتقاء جنسيات مختلفة اللغة واللهجة والمظهر، والله – سبحانه وتعالى – يريد من الحجاج أن يكونوا في موسم الحج في جو أقرب شبهاً بالملائكة؛ لأن الله يباهي بالحجاج الملائكة فنبتعد عن كل شهوة ومعصية وجدال، ويكون كل وقت الحاج ذكراً لله – تعالى -، فإذا ما انتهى الحاج من حجه غفر جميع ذنوبه، فيكون الحاج عندما يرجع من حجه؛ حال امتثاله لهذه النصوص، وتأديته للحج على الوجه المطلوب منه شرعاً؛ خالياً من الذنوب والخطايا، ليتحقق بذلك قوله  : ((مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ))11.

نسأل الله – تعالى – أن يتجاوز عنا وعن جميع حجاج بيته الكريم، والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1 الترمذي (2534)، إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (ج3/781).

2 سورة البقرة (197).

3 في ظلال القرآن (ج1/ص172) بتصرف.

4 البخاري (1690)، ومسلم (2404) واللفظ للبخاري.

5 الترمذي (1582)، وهو في صحيح الترغيب والترهيب (1094).

6 مذكرة الحج (ج1/ص1).

7 البخاري (1650).

8 في ظلال القرآن (ج1/ص172-173).

9 شرح النووي على مسلم (ج5/ص12).

10 البخاري (1423).

11 البخاري (1690)، ومسلم (2404)، واللفظ للبخاري.