متابعة الحج عاماً بعد عام

متابعة الحج عاماً بعد عام

 

فرض الله الحج على المؤمنين مرة في العمر، فمن أدى هذه الفريضة فقد سقط عنه الواجب، وما زاد على ذلك فهو تطوع منه، وتقرب يتقرب بها إلى الله – تبارك وتعالى -،والحج له أجر عظيم، وثواب جزيل لمن يؤديه، والتزود من الطاعات أمر مطلوب؛ لأن الله يحث على هذا {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}1وهذه الآية عامة وتشمل أنواع الطاعات والقربات، والحج داخل في هذه الآية لعموم اللفظ.

ونجد أحياناً بعضاً من المسلمين يتوق قلبه إلى حج بيت الله، فنراه يحج في أغلب السنوات، بل يكرره كل عام،كل هذا سعياً منهم إلى ابتغاء ما عند الله – عز وجل – من الأجر، ولا شك أن التزود من الطاعات أمر مطلوب، إلا أن هذا العمل قد يرجع إلى المستوى المادي للشخص، والقوة البدنية لديه، ولكن مع هذا يجب ألا يغفل عن واقع الأمة، وأن في الأمة فقراء هم في أشد الحاجة إلى من يمد لهم يد العون والمساعدة لحاجتهم وفاقتهم، فينظر إلى الأصلح، والأنفع له ولأمته في نفس الوقت.

وقد تكلم سادتنا العلماء حول موضوع تكرار الحج وفضله، وحكمه في الشرع، حيث أن تكرار الحج فيه فضل عظيم؛ يقول الله – عز وجل -: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ}2، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةُ))3، وفيه دليل على استحباب المتابعة بين الحج والعمرة، وذكر في الحديث سبب التتابع ((فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ)) أَيْ اِجْعَلُوا أَحَدهمَا تَابِعاً لِلْآخَرِ وَاقِعاً عَلَى عَقِبه، أَيْ إِذَا حَجَجْتُمْ فَاعْتَمَرُوا، وَإِذَا اِعْتَمَرْتُمْ فَحَجُّوا فَإنْهَمَّا مُتَابِعَانِ4.

حال السلف في متابعة الحج:

وقد ورد عن بعض السلف أنهم قد كانوا يكثرون من الحج، حتى روي عن بعضهم أنه حج سبعين، وبعضهم ستين، وبعضهم أربعين، وبعضهم أقل من ذلك، وبعضهم أكثر من ذلك، وممن نقل عنه:

·   الأسود بن يزيد:  حيث كان مجاهداً في العبادة، ويصوم حتى يصفر جسده، وكان علقمة بن قيس يقول له: "لم تعذب هذا الجسد هذا العذاب؟، فيقول: إن الأمر جد"، وقد حج ثمانين حجة5.

·       محمد بن زنبور أبو صالح المكي، وهو محمد بن جعفر بن أبي الأزهر، وزنبور لقب، يقال إنه حج ثمانين حجة.6

·       محرز بن سلمة المكي حج ثمانين حجة.7

·       روى شعبة عن أبي إسحاق أن عمرو بن ميمون حج ستين حجة وعمرة.8

·   وسفيان بن عيينة بن ميمون الهلالي أبو محمد، محدث الحرم المكي، ولد سنة 107 هـ، وكان حافظاً ثقة ثبتاً إماماً، قيل: حج سبعين سنة.9

وهناك الكثير ممن روي عنهم هذا الفعل.

حكم تكرار الحج عاماً بعد عام:

تكرار الحج ليس بواجب على العبد، بل إذا أداها مرة واحدة قد برئت ذمته، وأدى الواجب الذي افترضه الله عليه، إلا أن بعض الناس يحتج بحديث أن النبى – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من حج حجة أدى فرضه، ومن حج ثانية داين ربه، ومن حج ثلاث حجج حرَّم الله شعره وبشره على النار)) وهذا الحديث ليس بصحيح، وهو موضوع لا أصل له، والله أعلم.

ويمكن القول بأن تكرار الحج كل عام تطوع ليس إلا، وفيه ثواب وأجر من الله – تبارك وتعالى -، وقد وجه سؤال إلى اللجنة الدائمة هو: هل يستحسن الحج كل سنة لمن يرغب ذلك ولا يشق عليه، أو الأفضل كل ثلاث سنوات مرة، أو كل سنتين مرة؟

فجاء الرد كالتالي: فرض الله الحج على كل مكلف مستطيع مرة في العمر، وما زاد على ذلك فهو تطوع وقربة يتقرب بها إلى الله، ولم يثبت في التطوع بالحج تحديد بعدد، وإنما يرجع تكراره إلى وضع المكلف المالي والصحي، وحال من حوله من الأقارب والفقراء، وإلى اختلاف مصالح الأمة العامة، ودعمه لها بنفسه وماله، وإلى منزلته في الأمة ونفعه لها حضراً أو سفراً في الحج وغيره، فلينظر كلٌّ إلى ظروفه وما هو أنفع له وللأمة فيقدمه على غيره، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.10

وبناءً على هذا فإن تكرار الحج ليس واجباً بل من فضائل الأعمال، ومن فعله بعد أداءه الفريضة فهو منه تطوعاً، وما جاء عن السلف في تكرارهم للحج أكثر من مرة فهو تطوع، ومن فضائل الأعمال، وقد نقل عن بعض السلف أنه كان يفضل الصدقة وغيرها من أعمال البر على حج التطوع، نقل ذلك عن الحسن حيث قال: يقول أحدهم: أحج أحج، قد حججت صل رحماً، نفس عن مغموم، أحسن إلى جار.11

وعن الحسن بن عمرو قال سمعت بشر بن الحارث يقول: الصدقة أفضل من الحج والعمرة والجهاد، ثم قال: ذاك يركب ويرجع ويراه الناس، وهذا يعطي سراً لا يراه إلا الله – عز وجل –12.

ولا يفهم من هذا أن مرادهم – رحمهم الله – أنها أفضل من حج الفريضة، بل كان القصد منه حج النافلة والتطوع، والله أعلم.

وصلى الله على محمد على آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.


 


1 سورة البقرة (197).

2 سورة البقرة (196).

3 سنن الترمذي (738)، السلسلة الصحيحة (ج3/ص274).

4 شرح سنن النسائي (ج4/ص103).

5 حديث أبي الفضل الزهري (ج2/ص99).

6 تهذيب الكمال (ج25/ص213).

7 من له رواية في الكتب الستة (ج2/ص244).

8 حلية الأولياء (ج2/ص143).

9 أشراط الساعة (ج1/ص211).

10 فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج13/ص15).

11 الزهد لأحمد بن حنبل (ج4/ص35).

12صفة الصفوة (ج1/ص253).