رقاد الغفلة
الحمد لله الملك الوهاب، غافر الذنب، وقابل التوب شديد العقاب، إليه المرجع والمآب، والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإنَّ الله قد حثنا على دوام ذكره وشكره، وحذرنا من الغفلة عن دينه وشرعه فقال – تعالى – آمراً سيد الذاكرين، وخليل رب العالمين: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ (سورة الأعراف:205)، وقال: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (سورة الكهف:28). وذلك أن في الغفلة العطب، وحلول غضب الرب، وفي الإكثار من الذكر لله حصول الاطمئنان، والقرب من الواحد الأحد، ولنعلم جميعاً أن من كان في رقدة الغفلة معرضاً عن أمر ربه؛ فإن الموت سيأتيه بغتة، والله ويقول: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (سورة الزخرف:66)، وقال: فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (سورة محمد: 18)، وقال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ (سورة القمر:1)، وعن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله ﷺ: بعثت أنا والساعة كهذه من هذه أو كهاتين، وقرن بين السبابة والوسطى رواه البخاري ومسلم.
فتأمل – أخي المسلم حفظك الله ورعاك – في إصبعيك السبابة والوسطى لتعرف ما بينهما من البعد لتعلم أن الساعة قد اقتربت، فأعد الزاد والراحلة للسفر، واحذر – أن تكون – من الغافلين المعرضين عن الله؛ قال تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (سورة الأنبياء:1-2)، فمن غفل عن الله، وأعرض عنه؛ فإن معيشته في هذه الدنيا معيشة الضيق، والضنك، والحزن، وفي الآخرة يحشره ربه أعمى قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (سورة طـه:124)، وأشد وأعظم أنواع الغفلة؛ أن يغفل الإنسان عن الهدف الذي لأجله خُلق وهو عبادة الله وحده لا شريك له، قال – تعالى -: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (سورة الذاريات:56).
فلنحذر من الغفلة، ولنعمل عمل المتيقظين الحذرين:
يا غافلاً عما خلقت له انتبه | جـد الرحيل ولسـت باليقظان |
سار الرفاق وخلفوك مع الألى | قنعوا بذا الحظ الخسيس الفاني |
ولرُبمـا تأتـي المنيـة بغتة | فتساق من فرش إلى الأكفـان |
ومن صفات الغافلين: أن يعمل أحدهم للدنيا الحقيرة الفانية، ويهمل العمل للآخرة الباقية قال تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (الأعلى:16-17)، وقال تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (سورة الروم:7). واعلم – أخي في الله – أن الله منزه عن الغفلة، فإذا غفلت فتذكر أن الله لا يغفل كما قال تعالى: وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (سورة الأنعام:132)، ثم – اعلم – أن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، والله أعلم كم بقي من عمرك، فاستيقظ من غفلتك، وأفق من سباتك، وعدْ إلى خالقك ومولاك قبل أن يفجأك هادم اللذات، ومفرق الجماعات، واسمع إلى أبي البقاء الرندي وهو يقول في قصيدته النونية:
يا غافلاً وله في الدهر موعظة | إن كنت في سِنَةٍ فالدهر يقظان |
فالله الله في دوام ذكر الله وشكره قبل نزول هادم اللذات، ومعاينة السكرات، وإفاضة العبرات؛ يقول ربنا في كتابه الكريم عن حال الغافلين اللاهين: لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (سورة ق:22)، نسأل الله أن يرزقنا دوام ذكره، وشكره، اللهم إنا نسألك قلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وجسداً على البلاء صابراً، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.