جديرة في حج
الحمد لله جعل بيته مهوى أفئدة عباده، ومهد سيرهم من شتى أرجاء بلاده، ووفاهم جزيل فضله، وعظيم نواله، والصلاة والسلام على أشرف من وطئ الثرى، المبعوث من أم القرى، جاب المشاعر كلها، وطاف ولبى، أما بعد:
قال – تعالى -: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}1، وقال – تعالى -: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}2.
أيها الكرام:
فإن في الحج تعويد للنفس على معان عظيمة، وسمات خالدة جليلة، يعيشها كل من شرفه الله بالتنقل بين مناسكه – تسبقه أشواقه قبل أن يحط رحاله، وتلامس الأرض أقدامه -؛ من استسلام وتسليم وإذعان، وإعلان الفاقة والافتقار بين يدي الرب المتعال، يبذل الحاج أقاصي جهده، وكرائم ماله؛ ليعانق بيت الله الحرام بلهف المحب، وشوق الشجي، تعاون وتعارف، وتآخي وتألف؛ يرفرف على رؤوسهم كأنه سحابة أبت انقشاعاً، تقرأ في قسمات وجوههم آيات الخضوع والذلة لسان حالهم: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}3، لا تفتر ألسنتهم عن التحميد والتهليل والتعظيم والتبجيل يدعوهم لذلك قوله: {ويَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ}4.
تسير أرواحهم بين مشاعر الحج وإن كان ما يرى أجسادهم يرفعون أكفاً ضارعة، مبتهلين إلى ربهم، معترفين بتقصيرهم وزللهم، تكاد قلوبهم أن تخرج من بين أضلاعهم وهم يجأرون إلى بارئهم أن لا يرجعهم من حجهم إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وعمل صالح مقبول.
تقلب بصرك بينهم فلا تنظر إلا عيناً من خشية الله دامعة، وأذن لخير الهدى سامعة، ونفس إلى رحمة الله متطلعة طامعة، وأفئدة من هول الموقف خاضعة خاشعة.
فيا من نال الشرف، وحج البيت وما عزف:
لا شك أنك أحرص ما تكون على حجة ترقى بك في مقام العبودية الحقة، تزكي النفوس، وتهذب الطباع، وتحلق بروحك حول العرش، ترجع منها خفيفاً قد وضعت عن نفسك أوزارها، وأسقطت أثقالها، يصدق فيك قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق؛ رجع كيوم ولدته أمه))5.
دعني أنثر بين يديك ما تستكمل به أجر حجتك، وتنال بسببه كريم نوال ربك، وعظيم صفح خالقك، وقد قيل: "ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين" وأنشدوا:
إن اللبيب إذا بدا من جسمه *** مرضان مختلفان داوى الأخطر6
فلكي تؤدي حجة صالحة المقاصد، رغيدة الروافد؛ لا بدّ من مراعاة آداب عملية، وأعمال قلبية ترقى بحجتك إلى أشرف المقامات، وتحظى من ربك بجزيل الهبات، فإني ألفتك إلى ما سطرته أنامل الإمام الغزالي في ذلك يقول – رحمه الله -: "باب: في الآداب الدقيقة والأعمال الباطنة للحج:
بيان دقائق الآداب – ثم ذكر منها -:
أولاً: أن تكون النفقة حلالاً، وتكون اليد خالية من تجارة تشغل القلب، وتفرّق الهمّ، حتى يكون الهمّ مجرداً لله – تعالى -، والقلب مطمئناً منصرفاً إلى ذكر الله – تعالى -، وتعظيم شعائره.
ثانياً: التوسع في الزاد، وطيب النفس بالبذل والإِنفاق من غير تقتير ولا إسراف، بل على اقتصاد، وأعني بالإِسراف التنعم بأطيب الأطعمة، والترفّه بشرب أنواعها على عادة المترفين.
ثالثاً: ترك الرفث والفسوق والجدال كما نطق به القرآن، والرفث: اسم جامع لكل لغو وخنا وفحش من الكلام، ويدخل فيه مغازلة النساء ومداعبتهن، والتحدّث بشأن الجماع ومقدّماته، فإن ذلك يهيّج داعية الجماع المحظور، والداعي إلى المحظور محظور.
والفسق: اسم جامع لكل خروج عن طاعة الله – عز وجل -.
والجدال: هو المبالغة في الخصومة، والمماراة بما يورث الضغائن، ويفرق في الحال الهمة، ويناقض حسن الخلق.
رابعاً: أن يحج ماشياً إن قدر عليه فذلك الأفضل، والتردد ماشياً من مكة إلى المواقف وإلى منى آكد منه في الطريق.
خامساً: أن يكون رث الهيئة، أشعث أغبر، غير مستكثر من الزينة، ولا مائل إلى أسباب التفاخر والتكاثر، فيكتب في ديوان المتكبرين المترفهين، ويخرج عن حزب الضعفاء والمساكين، وخصوصاً الصالحين.
سادساً:أن يتقرب بإراقة دم وإن لم يكن واجباً عليه، ويجتهد أن يكون من سمين النعم ونفيسه، وليأكل منه إن كان تطوّعاً، ولا يأكل منه إن كان واجباً إلا بفتوى إمام.
سابعاًً: أن يكون طيب النفس بما أنفقه من نفقة وهدي، وبما أصابه من خسران ومصيبة في مال أو بدن إن أصابه ذلك، فإنّ ذلك من دلائل قبول حجّه"7.
ثم قال في موطن آخر: "بيان الأعمال الباطنة، ووجه الإِخلاص في النية، وطريق الاعتبار بالمشاهد الشريفة، وكيفية الافتكار فيها، والتذكر لأسرارها ومعانيها من أول الحج إلى آخره.
ثم يستطرد في بيان مراحل الحج الربانية؛ ليعيشها القاصد لبيت الله مرحلة مرحلة فيقول: "واعلم أن أول الحج الفهم – أعني موقع الحج في الدين -، ثم الشوق إليه، ثم العزم عليه، ثم قطع العلائق المانعة منه، ثم شراء ثوب الإِحرام من الميقات بالتلبية، ثم دخول مكة، ثم استتمام الأفعال، وفي كل واحد من هذه الأمور تذكرة للمتذكر، وعبرة للمعتبر، وتنبيه للمريد الصادق، وتعريف وإشارة للفَطِن، فلنرمز إلى مفاتحها حتى إذا انفتح بابها، وعرفت أسبابها؛ انكشف لكل حاجّ من أسرارها ما يقتضيه صفاء قلبه، وطهارة باطنه، وغزارة فهمه"8.
فيا أيها الحاج: عرفت الطريق فالزم، وتمسك بغرزه تغنم.
أسأل الله العلي القدير لجميع حجاج بيت الله الحرام حجاً مبروراً، وسعياً مشكوراً، والحمد لله أولاً وآخراً.