حال السلف عند الإحرام والتلبية
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
الحج فريضة شرعية، ومناسبة عمرية، إذ يجب على المسلم المستطيع في حياته مرة واحدة ينتقل فيه من بلده إلى بلد لا يعرفها، وظروف لم يألفها, ينفق فيه ماله، ويترك عياله، ويبذل جهده، ويتكبد مشاق السفر، ومتاعب الحل والترحال، والنزول والانتقال، في مواقف يزدحم فيها الرجال في الزمان والمكان.
أخي الحبيب: كان السلف – رحمهم الله تعالى – يستشعرون معنى الإحرام، فهو يعني عندهم الإنخلاع من جميع الشهوات الأرضية، والتوجه بالروح والبدن إلى خالق السماوات والأرض، لذلك فقد كانوا يضطربون عند الإحرام، فتتغير ألوانهم، وترتعد فرائصهم خوفاً من عدم القبول.
ولقد ضرب السلف – رضوان الله عليهم – أروع الأمثلة في كل شيء, وإن المطالع لسيرهم ليدرك ما كانوا عليه من الخشية والإنابة إلى ربهم سبحانه
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
وهنا نذكر بعضاً من أحوال القوم عند الإحرام والتلبية لنعرف كيف كانوا:
– قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يوماً وهو بطريق مكة: "تشعثون وتغيرون، وتتلون، وتضحون، لا تريدون بذلك شيئاً من عرض الدنيا، ما نعلم سفراً خيراً من هذا" يعني الحجّ1.
– وقال عبدالمجيد بن أبي روّاد – رحمه الله -: "كانوا يطوفون بالبيت خاشعين ذاكرين كأن على رؤوسهم الطير وقع، يستبين لمن رآهم أنهم في نسك وعبادة"2 وكثير من حجاج هذا الزمان لا يلبون، وأغلب الذين يلبون لا يجهرون بالتلبية، ولا يرفعون بها أصواتهم؛ ولقد كان السلف على خلاف ذلك؛ فعن السائب بن خلاد – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية))3، وعن عبد الله – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((أفضل الحج العج والثج، فأما العج فالتلبية، وأما الثج فنحر البدن))4، والعجّ: رفع الصوت بالتلبية، والثجّ: سيلان دماء الهدي والأضاحي.
– وقال عبدالله: "سبحان من جعل بيته الحرام مثابة للناس وأمناً، يترددون إليه ولا يرون أنهم قَضَوْا منه وطراً"، ولمّا أضاف الله – عز وجل – ذلك البيت إلى نفسه، ونسبه إليه بقوله – عز وجل – لخليله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ}5، تعلقت قلوب المحبين ببيت محبوبهم، فكلما ذُكر لهم ذلك البيت الحرام حنّوا، وكلما تذكروا بُعدهم عنه أنّوا، وهذا مصداقاً لقول الله – تبارك وتعالى -: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً}6, قال ابن عباس – رضي الله عنهما – في هذه الآية: لا يقضون فيه وطراً، يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه7"، وقال الحافظ ابن كثير – رحمه الله -: "جعله محلاً تشتاق إليه الأرواح, وتحن إليه, ولا تقضي منه وطراً ولو ترددت إليه كل عام، استجابة من الله – تعالى – لدعاء خليله إبراهيم – عليه السلام – في قوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}8"9.
– وقَالَ الربيع بن سليمان – رحمه الله -: "حججنا مع الشافعي فما ارتقى شرفاً ولا هبط وادياً إلا وهو يبكي وينشد:
يا راكباً قف بالمحصب من مـنى واهتف بقاعد خيفنا والناهضِ
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى فيضاً كملتطم الفرات الفائضِ
إن كان رفضاً حب آل محمـدِ فليشهد الثقلان أني رافضـي10
– وقال الإمام المزي – رحمه الله -: "قال إبراهيم بن محمد الشافعي: قال سفيان بن عيينة – رحمه الله -: "حج علي بن الحسين – رضي الله عنهما -، فلما أحرم واستوت به راحلته؛ اصفر لونه، وانتفض، ووقع عليه الرعدة، ولم يستطع أن يلبي، فقيل له: ما لك لا تلبي؟ فقال: أخشى أن أقول لبيك فيقول لي: لا لبيك، فقيل له: لا بد من هذا، فلما لبى غشي عليه، وسقط من راحلته، فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجه"، وقال مصعب بن عبد الله الزبيري عن مالك: ولقد أحرم علي بن الحسين فلما أراد أن يقول لبيك قالها فأغمي عليه، حتى سقط من ناقته فهشم، ولقد بلغني أنه كان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة إلى أن مات، وكان يسمى بالمدينة زين العابدين لعبادته"11.
– وقال أحمد بن أبي الحواري: "كنت مع أبي سليمان الداراني – رضي الله عنه – حين أراد الإحرام، فلم يلب حتى سرنا ميلاً، فأخذته الغشية ثم أفاق, وقال: يا أحمد إن الله سبحانه أوحى إلى موسى – عليه السلام -: مُرْ ظَلَمَةَ بني إسرائيل أن يقلوا من ذكري، فإني أذكر من ذكرني منهم باللعنة, ويحك يا أحمد بلغني أن من حج من غير حله ثم لبى قال الله – عز وجل -: "لا لبيك ولا سعديك حتى ترد ما في يديك" فما نأمن أن يقال لنا ذلك"12، وقال أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني – رحمه الله -: "قال أحمد: سمعت أبا سليمان يقول: أرجو أن أكون قد رزقت من الرضا طريقاً لو أدخلني النار لكنت بذاك راضياً، قال: ورأيت أبا سليمان أراد أن يلبي فغشي عليه، فلما أفاق قال: يا أحمد بلغني أن الرجل إذا حج من غير حله فقال: "لبيك اللهم لبيك قال له الرب: لا لبيك ولا سعديك، حتى ترد ما في يديك، فما يؤمنني أن يقال لي هذا، ثم لبى"13.
– وقال ابن الجوزي – رحمه الله -: "لما حج جعفر الصادق – رضي الله عنه – أراد أن يلبي فتغير وجهه، فقيل له: ما لك؟ فقال: "أريد أن ألبي وأخاف أن أسمع غير الجواب".
– ووقف مطرف وبكر ابنا عبدالله بن الشخير – رضي الله عنهما – بعرفة فقال مطرف: "اللهم لا تردهم من أجلي"، وقال بكر: "ما أشرفه من مقام لولا أني فيهم".
– ووقف الفضيل بن عياض فشغله البكاء عن الدعاء، فلما كادت الشمس أن تغرب قال: واسوأتاه منك وإن غفرت".
– ووقف بعض الخائفين على قدم الإطراق والحياء فقيل له: "لم لا تدعو؟ فقال: ثَمَّ وحشة، قيل: هذا يوم العفو عن المذنبين، فبسط يده فوقع ميتاً مكانه".
انزل الوادي بايمنـــه فهو بالأحزان ملآن
وارم بالطرف العقيق فلي ثم إطراب وأشجان14
– وقال وهيب بن الورد – رحمه الله -: " لقيت امرأة في الطواف وهي تقول بصوت حزين: إلهي ذهبت اللذات، وبقيت التبعات، يا رب مالك عقوبة إلا النار، أما في عفوك ما يسعني؟"15.
– وكان شريح – رحمه الله – إذا أحرم كأنه حيّة صماء16 من كثرة الصمت، والتأمل، والإطراق لله – عز وجل – قالَ ابن قدامة – رحمه الله -: "ويستحب له قلة الكلام إلا فيما ينفع، صيانة لنفسه عن اللغو والوقوع في الكذب وما لا يحل، فإن من كثر كلامه كثر سقطه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت))17 متفق عليه، وعنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه))18، قال أبو داود: أصول السنن أربعة أحاديث هذا أحدها، وهذا في حال الإحرام أشد استحباباً لأنه حال عبادة واستشعار بطاعة فهو يشبه الاعتكاف, وقد احتج أحمد – رحمه الله – على ذلك بأن شريحا ً- رحمه الله – كان إذا أحرم كأنه حية صماء، فيستحب للمحرم أن يشتغل بالتلبية، وذكر الله – تعالى -، وقراءة القرآن، وأمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو تعليم جاهل، أو يأمر بحاجته، أو يسكت19".
– وقال شجاع بن الوليد: "كنت أحج مع سفيان فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ذاهباً راجعاً"20.
– وقال علي بن الموفق – رحمه الله -: "لما تم لي ستون حجة خرجت من الطواف، وجلست بحذاء الميزاب، وجعلت أفكر لا أدري أي شيء حالي عند الله – عز وجل -، وقد كثر توددي إلى هذا المكان، فغلبتني عيني، فكأن قائلاً يقول لي: يا علي أتدعو إلى بيتك إلا من تحبه، قال: فانتبهت وقد سرى عني ما كنت فيه"21.
– وقال ابن بكر بن عبد الله المزني الإمام القدوة: سمعت إنساناً يحدث عن أبي أنه كان واقفاً بعرفة، فرفع رأسه فقال: لولا أني فيهم لقلت قد غفر لهم، قال الذهبي: كذلك ينبغي للعبد أن يزري على نفسه ويهضمها"22.
– وذكر ابن الجوزي في كتاب صفة الصفوة: أن عبد الله بن الجلاء قال: "كنت بذي الحليفة، وأنا أريد الحج، والناس يحرمون، فرأيت شاباً قد صب عليه الماء يريد الإحرام، وأنا أنظر إليه، فقال: يا رب أريد أن أقول لبيك اللهم لبيك وأخشى أن تجيبني لا لبيك ولا سعديك"23.
فهذه بعض المواقف التي وقعت للسلف الصالح – رضوان الله عليهم -، وما كانوا علبه من الخشية والخوف من الله – تبارك وتعالى -، ذكرناها للتأمل، والمقارنة بين أحوالهم وأحوال الحج في هذا الزمان الذي يصدق عليه (إلا لمن رحم الله) أنه حج أبدان لا حج قلوب، وحركات وتنقلات وكلمات يفعلها الإنسان بلا شعور ولا إحساس، يذهب الإنسان ويعود بالنفس التي ذهب بها،لم يتغير منه شيء، وكأن شيئاً لم يكن، وقد قال رجل لابن عمر – رضي الله عنهما -: "ما أكثر الحجاج؟ فقال ابن عمر: ما أقلهم، ثم رأى رجلاً على بعير على رحل رث، خطامه حبل، فقال: لعل هذا، وقال شريح: الحاج قليل، والركبان كثير، ما أكثر من يعمل الخير، ولكن ما أقل الذين يريدون وجهه"24.
وإذا كان هذا الكلام يقال في خير القرون وأزكاها، وأفضلها، فماذا سيقال في زماننا – والله المستعان -، كم من الأوقات التي تذهب بالقيل والقال، وكم من سقطات اللسان التي تخرج من أفواه كثير من النساء والرجال، وكم من الأفعال التي ترتكب وهي تغضب العزيز الجبار – سبحانه وبحمده -، كم من أناس يرتكبون المعاصي والآثام في أشرف المواقف والأيام، كم من الناس من يتتبع عورات الناس ومحارمهم في أطهر البقاع, وكم من الناس من تسوء أخلاقهم مع الزحام فلا تراه إلا ساباً شاتماً، متوعداً من حوله بالويل وأنواع التهديد، وكم وكم، وها نحن رجعنا إلى التاريخ، وطلبنا منه أن يحدثنا عن أسلافنا الأوائل، وحالهم في أدائهم لهذا المنسك العظيم في هذه العجالة، فقال ما تقدم من النقول عنهم
لقد كانوا يعيشون وقلوبهم موقنة بأن عين الله تراهم، راقبوا الله فصلحت أعمالهم، وزكت نفوسهم, وقد قال الجريري – رحمه الله -: "أحرم أنس بن مالك من ذات عرق فما سمعناه متكلماً إلا بذكر الله حتى رحل، قال له: يا ابن أخي هذا الإحرام"25.
هذا ولم يكن القصد من النقل إضاعة الوقت، أو الترفه والفضول, ولكن نقلنا ذلك لنراجع أنفسنا مما وقعت فيه من الغفلة، ثم ليحصل الاقتداء بهم {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}26 نسأل الله العظيم أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه, ونسأل الكريم الوهاب أن يهب لنا توبة يغفر بها ذنوبنا بمنِّه وكرمه {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
1 أخبار مكة للفاكهي (2/449).
2 مسألة الطائفين لمحمد بن الحسين الآجري أبو بكر (1/29).
3 رواه الترمذي في سننه برقم (829)؛ وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1135)؛ وفي صحيح ابن ماجة برقم (2364).
4 رواه أبو يعلى في مسنده برقم (5086)، وقال حسين سليم أسد: إسناده حسن؛ وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1500).
5 سورة الحج (26).
6 سورة البقرة (125).
7 تفسير ابن كثير (1/231).
8 سورة إبراهيم (37).
9 تفسير ابن كثير (1/231).
10 سير أعلام النبلاء (10/58).
11 تهذيب الكمال (20/390).
12 إحياء علوم الدين (1/268).
13 حلية الأولياء (9/263-264).
14 المنثور لابن الجوزي (1/10).
15 المصدر السابق (1/11).
16 الطبقات الكبرى (6/141).
17 رواه البخاري في صحيحه برقم (5672)؛ ومسلم في صحيحه برقم (47).
18 سنن الترمذي في سننه برقم (2318)؛ وقال الألباني: حسن لغيره في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2881)؛ وصححه في صحيح ابن ماجة برقم (3966).
19 المغني (3/270)؛ وانظر الشرح الكبير (3/333).
20 سير أعلام النبلاء (7/229).
21 التبصرة (2/282).
22 سير أعلام النبلاء (2/532).
23 صفة الصفوة (4/408).
24 لطائف المعارف (276).
25 طبقات ابن سعد (7/22).
26 سورة الزمر (18).