وقفات مع حج النبي

وقفات مع حج النبي – عليه الصلاة والسلام –

 

الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

إن اتباع النبي – صلى الله عليه وسلم – شرط أساسي في قبول الأعمال، فلا يقبل إلا إذا كان متبعاً فيه للنبي – عليه أفضل الصلاة والسلام -، ولذلك أمر الله عباده باتباع نبيه – صلى الله عليه وسلم – في كثير من الآيات في كتابه الكريم فقال الله – سبحانه وتعالى -: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}1، وجعل اتباع نبيه هو دليل المحبة الأول، وشاهدها الأمثل فقال – سبحانه وتعالى -: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}2، قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله -: "هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))3"4، وروى ذلك جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – قال: رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: ((لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه))5، وهذا أمر من النبي – عليه الصلاة والسلام – لأمته باتباعه.

ويعتبر الحج من أوضح العبادات التي يتجلى فيها اتباع النبي – صلى الله عليه وسلم – والتأسي به، ولذلك كان واجباً على كل مسلم يريد صحة حجه وقبوله؛ أن يتعرف على هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحج، هذا الهدي الذي لا يقتصر فقط على أحكام النسك، بل يتجاوزه إلى التأسي به في أحواله مع الله – تبارك وتعالى -، ومع الخلق.

وسنقف وقفات يسيرة على بعض الأمور التي تجلت في حجه – صلى الله عليه وسلم – حتى يتبع المسلم خطاها، ويحرص على الاقتداء بنبيه – صلى الله عليه وسلم – فيها، تنبيهاً وإشارةً، لا حصراً وإحاطة:

1-      الاعتناء بأمر التوحيد، وإخلاص العمل لله – تبارك وتعالى -: حيث سأل ربه – عز وجل – أن يجنبه الرياء والسمعة قائلاً: ((اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة))6، وحرص على بيان التوحيد وإظهاره في جميع مناسك الحج وشعائره بدءاً من التلبية، إلى ركعتي الطواف، والسعي بين الصفاء والمروة، ويوم عرفة، وغير ذلك.

وكان – صلى الله عليه وسلم – في حجته حاضر القلب، خاشع الجوارح، كثير التضرع والمناجاة، حريصاً على السكينة والوقار فعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: "أفاض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من عرفة وعليه السكينة، ورديفه أسامة، وقال: ((أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل))7، وفي حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه دفع مع النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم عرفة، فسمع النبي – صلى الله عليه وسلم – وراءه زجراً شديداً، وضرباً وصوتاً للإبل، فأشار بسوطه إليهم وقال: ((أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع))8 رواه البخاري.

2-      وفي حجه – صلى الله عليه وسلم – تجلى بوضوح تعلقه بالدار الآخرة، وزهده في هذه الحياة الدنيا: فقد حج على رحل رثٍّ، وقطيفة لا تساوي أربعة دراهم كما في حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: "حج النبي – صلى الله عليه وسلم – على رحل رث، وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي9"، وقال – صلى الله عليه وسلم – وهو واقف بعرفة: ((لبيك اللهم لبيك، إنما الخير خير الآخرة))10، قال ابن القيم – رحمه الله -: "وكان حجه على رحل، لا في محمل ولا هودج، ولا عمارية 11"، وهي أدوات تكون فوق الإبل تسهل على الإنسان ركوبها، وكانت راحلته هي التي يحمل عليها متاعه وزاده، فلم تكن له ناقة أخرى خاصة بذلك، ولم يتميز – صلى الله عليه وسلم – في الموسم عن الناس بشيء كما في حديث ابن عباس – رضي الله عنهما -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – طاف بالبيت وهو على بعيره، واستلم الحجر بمحجن كان معه قال: وأتى السقاية فقال: ((اسقوني))، فقالوا: إن هذا يخوضه الناس، ولكنا نأتيك به من البيت، فقال: ((لا حاجة لي فيه اسقوني مما يشرب منه الناس))12.

3-      وفي الحج تجلى حرصه – صلى الله عليه وسلم – على تعليم الناس أمر دينهم، وإقامة الحجة والبيان عليهم: ولم يدع فرصة لتعليم الناس والقيام بواجب البلاغ إلا طرقها، فبيَّن لهم أحكام المناسك، وأركان الإسلام وقواعده، ونهاهم عن الشرك، وانتهاك الحُرمات العظيمة التي جاءت الشرائع بالمحافظة عليها من الدماء والأموال والأعراض، فعن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أنه "ذكر أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قعد على بعيره، وأمسك إنسان بخطامه – أو بزمامه – قال: ((أي يوم هذا؟))، فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، قال: ((أليس يوم النحر؟)) قلنا: بلى!! قال: ((فأي شهر هذا؟)) فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: ((أليس بذي الحجة؟)). قلنا: بلى!! قال: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه))13، وفي حجه – عليه الصلاة والسلام – ظهر تواضعه للناس فقد أردف أسامة بن زيد – رضي الله عنهما – من عرفة إلى مزدلفة وهو من الموالي14، ووقف لامرأة من آحاد الناس يستمع إليها، ويجيب عن سؤاله15، ولم يتخذ حُجَّاباً يصرفون الناس عنه، ويمنعونهم من مقابلته، وكان في إمكان كل أحد الوصول إليه، وقضاء حاجته بيسر وسهوله.

4-      ومن المظاهر التي تجلت في حجته – صلى الله عليه وسلم – رحمته بالناس، وشفقته عليهم، ومن ذلك إلزامه من لم يسق الهدي من أصحابه – رضي الله عنهم – بأن يحل إحلالاً كاملاً، وذلك رحمة بهم، وتيسيراً عليهم، ومن ذلك جمعه لصلاتي الظهر والعصر، والمغرب والعشاء16، حتى لا يشق على الناس، وإذنه للضعفاء في الإفاضة من مزدلفة قبل الناس حين يغيب القمر تخفيفاً عليهم، ووقاية لهم من الزحام17، ومن ذلك أيضاً رفعه الحرج عن الناس في التقديم والتأخير في أعمال يوم النحر18، إلى غير ذلك من مظاهر رحمته – صلى الله عليه وسلم – بأمته.

5-              وفي الحج كذلك تجلى تعظيمه لشعائر الله، وصبره على الناس على اختلاف طبقاتهم وبلدانهم ولغاتهم.

هذا ما تيسر جمعه، والمظاهر كثيرة غير أنه لا يتسع المجال هنا لذكرها، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الغر الميامين.


 


1 سورة الحشر (7).

2 سورة آل عمران (31).

3 رواه مسلم  في صحيحه برقم (1718).

4 تفسير ابن كثير (1/477).

5 رواه مسلم في صحيحه برقم (1297).

6 رواه ابن ماجه برقم (2890)؛ وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة برقم (2881)؛ وفي السلسلة الصحيحة برقم (2617).

7 رواه أبو داود في سننه برقم (1920)؛ وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1689).

8 رواه البخاري في صحيحه برقم (1587).

9 رواه ابن ماجه  في سننه برقم (2890)؛ وقال الألباني:صحيح لغيره في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1122)؛ وصحيح ابن ماجة برقم (2337).

10 حسنه الألباني في الجامع الصغير وزيادته برقم (9189)؛ وفي صحيح الجامع برقم (5058).

11 زاد المعاد في هدي خير العباد (2/148).

12 رواه أحمد بن حنبل في المسند برقم (1841)، وقال شعيب الأرناؤوط: صحيح.

13 رواه البخاري في صحيحه برقم (67).

14 رواه الترمذي  في سننه برقم (885)؛ وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة برقم (2494).

15 رواه مسلم في صحيحه برقم (1336).

16 رواه أبو داود في سننه برقم (1913)؛ وحسنه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1684).

17 رواه مسلم  في صحيحه برقم (1216).

18 رواه البخاري في صحيحه برقم (84).