فقه التيسير في الحج

فقه التيسير في الحج

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

انطلاقاً من أهمية فريضة الحج كونها الركن الخامس من أركان الإسلام الخمسة, وامتثالاً لقوله – تعالى -: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ},1 واستجابة لتوجيه المصطفى – صلى الله عليه وسلم – حيث قال: ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)), ونظراً لما يحدث أثناء أداء هذا الركن من الازدحام الشديد، وتدافع الناس عند بعض المشاعر، فإنه لا يخفى أهمية مراعاة قاعدة "التيسير في الحج" ما دامت الحالة هذه، فإنها القاعدة في أعمال الحج، كما أنها قائمة على العمل بسنة النبي – صلى الله عليه وسلم – في قوله ((لتأخذوا مناسككم))2، وهي قائمة أيضاً على رفع الحرج كما في قوله – عليه الصلاة والسلام -: ((افعل ولا حرج))3.

المراد بالتيسير:

اليسر أو التيسير أمر نسبي، فقد يطلق على ما هو في حدود طاقة الإنسان وإن كان فيه حرج وعنت، وقد يطلق على ما هو في وسع الإنسان بحيث يتمكن من امتثال التكليف دون حرج أو عنت، والذي يظهر من النظر في الرخصة الشرعية بل وفي كل التكاليف أن المراد بالتيسير في الشريعة – غالباً – هو: كون الأمر بحيث يمكن امتثاله دون حرج أو مشقة.4

ثبوت التيسير في الشريعة:

دين الإسلام مبني على اليسر كما قال جل ذكره: {يرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}5، وقال سبحانه أيضاً: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حرج}6، وهذا ما كان معروفاً من هديه – صلى الله عليه وسلم – ووصيته المتكررة لأصحابه حيث يقول – صلى الله عليه وسلم -: ((يسروا ولا تعسروا، وبشـروا ولا تنفروا))7، وقال – عليه الصلاة والسلام -: ((إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسـددوا وقاربوا))8، وقال – صلى الله عليه وسلم – أيضاً: ((إن الله يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف))9.

وهذه الأدلة الكثيرة وغيرها تؤكد أن التيسير في الشريعة ليست رخصة بل هي الأصل، ولذلك كان من هدى النبي – صلى الله عليه وسلم – التزامه في حياته كلها، ولا يترك التيسير إلا إذا كان الأخذ به يؤدي إلى خلاف الشرع فقد جاء عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: "ما خيّر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً"10قال ابن عبد البر: فيه دليل على فضل التيسير في أمور الديانة، وأن ما يشق منها مكروه قال الله – تعالى -: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}11، ألا ترى أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما خير بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثماً"12.

وأثبت الله لعباده تخفيفات كثيرة في المواطن التي يخشى من حصول المشقة فيها مثل: السفر، والمرض، والخوف ونحوها، يشرع الأخذ بها حتى لو لم تحصل مشقة حقيقية، فالجمع والقصر مشروعان في السفر بكل حال، وصلاة الخوف تصلى بحسب ما تيسر إن أمكنت جماعة، وإلا صلى كل واحد على حسب حاله حتى ولو إلى غير جهة القبلة.13

ومنهج التيسير سار عليه الصحابة أيضاً اقتداء بالقدوة والأسوة نبيهم محمد – صلى الله عليه وسلم – يقول عمر بن إسحاق: "لمَنْ أدركت من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أكثر لمن سبقني منهم، فما رأيت قوماً أيسر سيرة، ولا أقل تشدداً منهم"، وقال رجاء بن أبي سلمة: "سمعت عبادة بن نسي الكندي وسئل عن المرأة ماتت مع قوم ليس لها ولي، فقال: أدركت أقواماً ما كانوا يشددون تشديدكم، ولا يسألون مسائلكم"14.

والقاعدة الكبرى في الباب تنص على أن "المشقة تجلب التيسير"، فهل مشقة الحج المعاصر تجلب التيسير في فقهنا المعاصر؟ هذا ما سنطرقه في طيات بحثنا.

تمهيد على عجالة:

الحج كما لا يخفى على أحد يعتبر من العبادات التي اختلفت فيها أحوال الناس في هذا الزمن اختلافاً كثيراً، وذلك بسبب سهولة المواصلات، وتقارب البلدان، ويسر الانتقال، مما أدى إلى أن يصل إلى البيت الحرام لأداء مناسك الحج والعمرة أعداد غفيرة هائلة لم تكن في عصر من العصور السابقة، وقد مرَّ على الحج ما يقرب من أربعة عشر قرناً أو قريباً من هذا، والحجاج يتراوحون بين أعداد محدودة يسعها المسجد الحرام والمشاعر المقدسة، حتى أن الحجاج إلى عهد قريب كانوا إذا نزلوا بمنى ينزلون في ناحية منها بسبب قلتهم، ثم تغيرت الحال بفضل الله – سبحانه وتعالى -، وأصبح كثير من المسلمين في أصقاع الأرض يستطيعون أداء هذه الفريضة، فتوافدوا وتقاطروا إلى هذا البيت، وعظم العدد، وترتب على ذلك أمور من أعظمها وأهمها وأشدها إلحاحاً ما يترتب على وجود هذه الأعداد الغفيرة في هذه المناطق المحدودة الأتساع؛ من المشقة العظيمة، وهذا ما جعل أهل العلم يراجعون بحث كثير من المسائل، وإن لم تكن من النوازل يبحثونها، ويعيدون النظر في الأدلة؛ كل ذلك بسبب كثرة الحجاج، وما نتج عن هذه الكثرة من ازدحام شديد، ومشاق عظيمة، ووفيات، وأمور لا تخفى على أحد.

وبالتالي فإنه لابد من النظر في مسائل الحج، وفي أعماله، وفي مناسكه؛ وفق هذه الظروف، وهذه الأحوال، بما لا يخل بأداء هذه الشعيرة العظيمة، وفي المقابل لا يلزم الناس بما لم يلزمهم به الشارع الكريم مما يترتب عليه إزهاق الأرواح، والضرر العظيم الذي يلحق بالمسلمين رجالاً ونساءً، أقوياءً وضعفاءً، وحديثنا في هذه الوريقات: عن فقه التيسير في الحج من خلال هذه النواحي.

أولاً: ما المراد بالتيسير في الحج:

التيسير في الحج: هو الأخذ بأيسر الأقوال التي تحتملها الأدلة

وليس كل خلاف جاء معتبراً                 إلا خلاف له حظ من النظرِ

فالتيسير هو الأخذ بما يناسب أحوال الناس، وما يرفع الحرج والمشقة عنهم مما تحتمله الأدلة، مما له حظ من النظر، مما له مساغ، وليس التيسير هو أن تضيع أوامر الله – سبحانه وتعالى – وتضيع أوامر رسوله – صلى الله عليه وسلم –15.

ثانياً: ضوابط التيسير:

ليعلم إن فقه التيسير لا يعني المروقّ من الدين، أو الانحلال والتفريط في العمل بأحكام الشرع الحنيف، بل هو منهج علمٍ، ومدرسة فقهٍ، وطريق فتيا، وحياةٍ أمثل للمسلمين.

فالتيسير ورفع الحرج عن المكلفين إذا لم يصادم نصاً صريحاً، أو إجماعاً معتبراً، وكان متفقاً مع أصول الشرع الكلية، ومقاصده العامة؛ مراعياً تبدل الأزمان والأماكن، وتغير الظروف والأحوال، فهذا مما ينبغي العمل به، وجريان الفتيا عليه، فأزمان المحن والشدائد ليست كأزمان السعة والاستقرار، وأحوال الخائفين ليست كأحوال الآمنين، ومن وقع في ضرورةٍ أو حاجةٍ ليس حاله كحال من هو في السعة والطمأنينة، يقول ابن عبد البر: "أن المرء ينبغي له ترك ما عسر عليه من أمور الدنيا والآخرة، وترك الإلحاح فيه إذا لم يضطر إليه، والميل إلى اليسر أبداً، فإن اليسر في الأمور كلها أحب إلى الله وإلى رسوله قال – تعالى -: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}16، وفي معنى هذا الأخذ برخص الله – تعالى -، ورخص رسوله – صلى الله عليه وسلم -، والأخذ برخص العلماء ما لم يكن القول خطأ بينا"17.

وقد ذكر العلماء ضوابط للتيسير هاك بعضها:

أولاً: إن فقه التيسير في الحج لا بد أن يكون نابعاً من مقاصد الإسلام في إقامة هذه الشعائر، وإذا كان التيسير يؤول إلى استهداف شعيرة، أو نسك، أو مقصد؛ فإن ذلك لا يكون تيسيراً، وللحج مقاصد عظيمة، أعظمها تحقيق توحيد الله، وعبوديته، وإقامة ذكره وشكره، والوقوف بتلك المواقف العظيمة التي هي مواقف أنبيائه، وتعظيم شعائره، والمشقة التي تلزم تحقيق هذه المقاصد غير معتبرة في التخفيف؛ لأنها ملازمة للعبادة لا تنفك عنها، فالحج أساسه مشاق يؤجر عليها العبد، ولذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((أجرك على قدر نصبك))18، ويبين بعض هذه المقاصد مثل قوله – تعالى -: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}19، ومثل قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله))20.

ثانياً: ومن ضوابط التيسير المهمة: تحديد مفهوم التيسير، وضبط حدوده، فقد يكون التيسير فيما ظاهره العسر؛ لأن من النصح للمسلمين دلالتهم على أمر الله وأمر رسوله – صلى الله عليه وسلم – لاسيما فيما كان دلالته على الحكم ظاهرة، وأقوال العلماء يستدل لها لا بها، والأئمة مجمعون على أنه لا يجوز الأخذ بأقوالهم إذا خالفت نصوص الشرع21.

ثالثاً: ومن تحديد معالم التيسير السير فيه على منهج وسط، فلا يكون اتباع التيسير ردة فعل تجنح بالمرء إلى الطرف الآخر، يقول الشاطبي: "المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال، والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مر أن مقاصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا جاءت عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين"، إلى أن قال: "فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضاداً للمشي على التوسط، كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضاً، … والوسط هو معظم الشريعة وأم الكتاب"22.

رابعاً: ومن ضوابط  التيسير فيما يكون من الخلاف: أن الخلاف الذي يبني على دليل، وله حظ من النظر؛ يكون رافداً من روافد التيسير لا باعتبار وقوعه فقط، وإنما بالنظر إلى مأخذه، فربما يكون الاجتهاد السابق مبنياً على ظروف بيئية تغيرت، واقتضى تغيرها إعادة الاجتهاد، أو يكون الاجتهاد بني على نظر لم يظهر فيه ما يستدعي التقييد في الحكم، أو ترك التقييد، أو أن واقع الناس في التهاون أوجب نظراً إلى مآل الحكم، أو لغير ذلك من الاعتبارات، فالاستفادة من الخلاف يكون في إعادة الاجتهاد فيه على ضوء المتغيرات، لكن الناظر في الخلاف لمعرفة الراجح فهذا المعول عليه؛ لأن الحق لا يتعدد، فالمجتهد معذور باجتهاده، ومن فهم أن الخلاف متعلق للتوسيع بحيث يجعل الخيرة للمستفتي باتباع ما يهواه فذاك ليس تيسيراً، وإنما نوع من اتباع الهوى المذموم، يقول الشاطبي "وأكثر من هذا شأنه من أهل الانتماء إلى العلم يتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية، بحيث يتحرى الفتوى بالقول الذي يوافق هوى المستفتي، بناء منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه، وحرج في حقه، وأن الخلاف إنما يكون رحمة لهذا المعنى، وليس بين التشديد والتخفيف واسطة، وهذا قلب للمعنى المقصود في الشريعة"، ثم قال: "وإن كانت المذاهب كلها طرقاً إلى الله، ولكن الترجيح فيها لا بد منه؛ لأنه أبعد من اتباع الهوى كما تقدم، وأقرب إلى تحري قصد الشارع في مسائل الاجتهاد"23.

خامساً: أن يكون من خلال الأدلة، وعلى ضوء فهم صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فإنهم اصطفاهم الله واختارهم لصحبة نبيه محمد – صلى الله عليه وسلم -، وحمل هذا الدين، وفهمهم أقرب إلى الصواب، فهم عاصروا النبي – صلى الله عليه وسلم -، وعايشوا التنزيل والوحي، وأدركوا ما لم يدركه غيرهم، ولذا فإن بناء الحكم على فهمهم وفتاواهم وأقوالهم أقرب إلى موافقة مقاصد الشرع ومراميه في هذه الشعيرة العظيمة.

سادساً: فإن من المهم في التيسير ملاحظة المألآت، وتحري المقاصد، فإذا كان هذا الأمر يؤول إلى التوسع مذموم، أو تجاسر على ما ليس مجالاً للتوسع فإن سد الذرائع من الأصول المعتبرة، والملاحظ أن بعض الناس بناء على ضعف الديانة، وظروف الحج؛ يبحث عن أي مخرج، بل يفتي نفسه بناء على ما سمع، أو يقيس على ما يراه موافقاً لقول أو ما أشبه ذلك، فإدراك مثل هذه الجوانب تضبط هذا المسار المهم.24

ثالثاً: ثبوت التيسير في شعيرة الحج خاصة:

وهناك ما يدل على أن هذا الركن مبني أيضاً على التيسير والسماحة فمن هذه الأدلة:

1- قول الله – سبحانه وتعالى -: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}25 وفي هذا أخبر الله – سبحانه وتعالى – أنه لم يجعل على عباده في هذا الدين من حرج، وأن هذا الدين والحنيفية السمحة التي بعث بها إبراهيم – عليه السلام -، والحج من أعظم الميراث الذي ورثته هذه الأمة المسلمة عن إبراهيم الخليل، فقد صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – كما في الحديث الذي رواه الخمسة، وقال عنه الترمذي: إنه حديث حسن صحيح أن النبي – صلى الله عليه وسلم – بعث منادياً ينادي على الناس وهم في المشاعر: "أيها الناس كونوا على مشاعركم، فإنكم على أرث من أرث إبراهيم – عليه السلام -"، فهذه الشعيرة وهذا النسك وهذا الحج من أعظم ما ورثتهُ هذا الأمة عن إبراهيم الخليل – عليه السلام – من الدين والحنيفية السمحة التي يسرها الله – سبحانه وتعالى – لعباده.

2- ومن الأدلة الدالة على أن هذا الركن وهذه الشعيرة بنيت على التيسير الأدلة الدالة على فرضية هذا الحج، فإن الله – سبحانه وتعالى – جعل فرض الحج مشروطاً بالاستطاعة، ولو تأملت فإن الصلاة مشروطة بالاستطاعة، والزكاة مشروطة بالاستطاعة، والصوم مشروط بالاستطاعة، ولكنك لا تجد هذا الشروط مقارنة لفرضية الصيام، أو الصلاة، أو الزكاة، بخلاف الحج فإنك تجد اشتراط الاستطاعة في الدليل الدال على الفرضية كما قال الله – سبحانه وتعالى -: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }26، والنبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: (( بني الإسلام على خمسة …، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً))27، فالاستطاعة هنا مؤكد عليها في فرضية الحج، وفي وجوب الحج كما لم يؤكد عليها في غيره، مع أنها شرط في الصيام والزكاة لماذا؟ لأن هذه الشعيرة شعيرة يرد فيها أنها يمكن أن يكون فيها مشقة وعسر وعدم قدرة، فإذا كانت الاستطاعة شرطاً في الحج، والعسر مرفوع في أصل فرضية الحج؛ فرفعه في أجزاءهِ، وفي أعماله؛ من باب أولى.

3- ومن الأدلة الدالة على أن هذه الشعيرة مبنية على التيسير، أنه في كثير من أعمال الحج تجد أنها مبنية على التخيير، والتخيير نوع من التيسير، فأنت مخير في الميقات بين ثلاثة أنساك وهذا أول التيسير، ثم إذا دخلت النسك فإنك إن أتيت محظوراً من محظورات الإحرام قيل لك: {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}28 على التخيير، وهذا نوع من التيسير، ولو أنك قتلت الصيد وأنت محرم لقيل لك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}29 فجزاء الصيد مبني على التخيير، ويوم العيد يوجد لديك مجموعة من الأعمال: رمي جمرة العقبة، والطواف، والسعي، والحلق والنحر بأي شيء ابدأ أو أقدم، فأنت بالخيار، وإذا كان في اليوم الثاني عشر فأنت بالخيار إن شئت أن تتعجل، أو شئت أن تتأخر، كل هذه أدلة دالة على أن هذه الشعيرة مبنية على التيسير.

4- ومن الأدلة الدالة على أن هذا النسك مبني على التيسير والسماحة أنه في أكثر من موضع كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يرخص للضعفة، وذوي الحاجات والأعذار؛ في أعمال من أعمال الحج، فمثلاً في ليلة جمع يقدم النبي – صلى الله عليه وسلم – ضعفة أهله فهذه رخصة، والرخصة لا شك أنها تيسير وتسهيل، وفي ليالي منى رخص النبي – صلى الله عليه وسلم – للرعاة في البيتوتة ألا يبيتوا، ورخص للرعاة أيضاً في أن يجمعوا رمي يومين في يوم واحد، ورخص – صلى الله عليه وسلم – للسقاة في ترك المبيت بمنى ليالي أيام التشريق، كل هذه الرخص مظاهر ودلائل تدل على أن هذه الشعيرة مبنية على التيسير والسماحة والتسهيل فيما لا يخرج عن دائرة ما أمر الله – سبحانه وتعالى – به، أو أمر به رسوله – صلى الله عليه وسلم -.30

5- وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن النبي – صلى الله عليه وسلم – ما سئل يوم العيد عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: ((افعل ولا حرج، افعل ولا حرج))31، فالحديث يدل على جواز تقديم بعض الأمور المذكورة فيها على بعض، وهو إجماع كما قال ابن قدامة في المغني، وقال صاحب الفتح: "إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم في بعض المواضع انتهى"32، فهذه الكلمة ((لا حرج)) معناها أن النسك ما بني على الحرج، وإنما بني على اليسر والسماحة والتسهيل، فإن الله – عز وجل – في غنىً عن مشقتنا وعنتنا، وما نلقاه من الأذى والعنت إنما بعثنا الله – سبحانه وتعالى – إلى هذا البيت، وأرسلنا وأمرنا وحثنا لأمر آخر ليس للمشقة.

وقبل الختام ينبغي الإشارة إلى أمرين:

– أن الأولى والأفضل والأحرى ترتيب وظائف يوم النحر كما جاءت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في حديث جابر: (الرمي ثم الذبح ثم الحلق ثم الطواف)، ونقل الإجماع على هذا ابن حجر في الفتح، وقال: "وقد أجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب"33، وهذا الحكم يشمل جميع المناسك من باب أولى.

– ألَّا يكون التوسع في ذلك إلا في حال نسيان أو خطأ ما أمكن، لا أن يتعمد الفعل، خروجاً من الخلاف، ودفعاً للحرج المترتب، وقد نص على هذا صاحب المنتقى فقال: "وقوله – صلى الله عليه وسلم – ((انحر ولا حرج)) يحتمل أن يريد لا إثم عليك؛ لأن الحرج الإثم، ومعظم سؤال السائل إنما كان عن ذلك خوفاً من أن يكون قد أثم، فأعلمه النبي – صلى الله عليه وسلم – أن لا حرج عليه إذا لم يقصد المخالفة، وإنما أتى ذلك عن غير علم ولا قصد مع خفة الأمر، وإنما هو ترتيب مستحب لا تبطل العبادة بمخالفته، ولا تؤثر فيها نقصاً… ثم قال: ((افعل ولا حرج)) لا يقتضي إباحة ذلك؛ لأنه إنما سئل عمن فعل ذلك جهلاً، وقد بيَّن الترتيب في الحج فكان ذلك هو المشروع، ولا يقتضي ذلك رفع الحرج في تقديم شيء ولا تأخيره عن المسألتين المنصوص عليهما؛ لأننا لا ندري عن أي شيء غيرهما سئل في ذلك اليوم، وجوابه إنما كان عن سؤال السائل، فلا يدخل فيه غيره، كما لا يدخل في قوله: ((انحر ولا حرج))، ((ارم ولا حرج)) غير ذلك مما لم يسأل عنه، ولم يجب فيه، والله أعلم"34.

نسأل الله أن نكون قد وفقنا في استعراض ما طرقناه، وأن يلهمنا رشدنا، ويسدد خطونا، إنه جواد بر رحيم، والله الموفق، وعليه التكلان.


 


1 البقرة (185).

2 رواه مسلم برقم (2286).

3 رواه البخاري برقم (81)، ومسلم برقم (2301).

4 قواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير (1/44).

5 سورة البقرة (185).

6 سورة الحج (78).

7 رواه البخاري برقم (67)، ومسلم بنفس اللفظ ولكنه لم يورد ((وبشروا)).

8 رواه النسائي برقم (4948)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1161).

9 رواه مسلم برقم (4697).

10 رواه البخاري برقم (3296)، ومسلم برقم (4294).

11 سورة البقرة (185).

12 التثريب في شرح التقريب (2/66).

13 قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام (2/6-10).

14 سنن الدارمي (1/63).

15 فقه النوازل في الحج للسكاكر (98).

16 سورة البقرة (185)

17 التمهيد لابن عبد البر (8/146).

18 رواه مسلم برقم (2120).

19 سورة الحج (26).

20 رواه أبو داود برقم (826)، وأحمد برقم (23215)، والدارمي برقم (1780)، وضعفه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (2624).

21 ذخر المحتي من آداب المفتي صديق حسن خان (62).

22 الموافقات للشاطبي (4/258-259).

23 الموافقات (4/259).

24 ضوابط التيسير في مناسك أيام التشريق (12-13)بتصرف.

25 سورة الحج (78).

26 سورة آل عمران (97).

27 رواه مسلم برقم (13).

28 سورة البقرة (196)

29 سورة المائدة (95)

30 من كتاب نوازل الحج للسكاكر بتصرف (87-91).

31 سبق تخريجه برقم (3) في الحاشية.

32 عون المعبود (5/ 318).

33 فتح الباري (3/571).

34 المنتقى شرح الموطأ – عند شرحه حديث أفعل ولا حرج -.