خطورة الكذب

خطورة الكذب

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد الصادق الأمين ، أما بعد:

أيها الأحبـة:

نتحدث عن داء عضال، ومرض خطير لا يكاد يسلم منه أحد إلا من رحمه الله، هذا الداء هو داء الكذب، الكذب أيها الأحبـة من سمات الكافرين الذين قال تعالى عنهم: والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (البقرة:39)، وقال تعالى: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (ق:18) فما من لفظ يتلفظ به اللسان إلا وهو مسجل في كتاب، وقال تعالى مبيناً أن العذاب الأليم لمن كان كاذباً فقال : وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (البقرة:10) ولقد نفى المولى – جل وعلا – الإيمان عن أناس يفترون الكذب فقال – تعالى إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (النحل:105)، والكذب مستقبح شرعاً وعقلاً، وتأباه الفطرة السليمة، فإنك ما زلت توقر المرء ما دام صادقاً؛ فإن كذب سقط من عينك.

أيها الأحبة: لقد بيَّن النبي  أن الصدق طريق إلى الجنـة، والكذب طريق إلى النار ففي حديث ابن مسعود  قال: قال رسول الله : إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً1

بل إن النبي  جعل الكذب إحدى خصال النفاق والعياذ بالله فقال كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما -: أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهـن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر.

وفي حديث سمرة بن جندب  الطويل بيان لعقوبة من يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق، وقد جاء ذلك في الرؤيا التي رآها الرسول  ومما جاء في الحديث: فانطلقنا، فأتينا على رجل مستلقٍ لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصبح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثلما فعل المرة الأولى وفي نهاية الحديث بيان الذنب الذي ارتكبه ذلك الرجل وفيه: فإن الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة، تبلغ الآفاق2، وفي رواية: فيصنع به إلى يوم القيامة (ما كان خلق أبغض إلى رسول الله  من الكذب، ولقد كان الرجل يحدث عند النبي  بالكذبة فما يزال في نفسه حتى يعلم أنه قد أحدث منها توبة)3.

أيها الأحبة: كم من أمور يظنها الناس أنها ليست بكذب وهي كذب، ومن ذلك: دعوة الطفل الصغير لأخذ شيء، والداعي لا يملكه فعن عبد الله بن عامر  قال: أتى رسول الله  في بيتنا وأنا صبي، قال: فذهبت أخرج لألعب فقالت أمي: يا عبد الله تعالى أعطيك، فقال رسول الله : وما أردت أن تعطيه؟ قالت: أعطيه تمراً، قال: فقال رسول الله : أما إنك لو لم تعطيه شيئاً كتبت عليك كذبة4، ومن ذلك: التحدث بكل ما يسمع فعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله  : كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع5، ومن ذلك: التحدث بالكذب لإضحاك الناس قال رسول الله : ويل للذي يحدث فيكذب، ليضحك به القوم، ويل له، ويل له6، قال عمر بن الخطاب  : “لأن يضعني الصدق – وقلما يضع -؛ أحب إليّ من أن يرفعني الكذب – وقلما يفعل -“7

وصح عنه عليه الصلاة والسلام قال: لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في المزاح، ويترك المراء وإن كان صادقاً8

قال أبو عبد الله الإمام أحمد: “الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل”9.

وقال ابن القيم: “إياك والكذاب، فإنه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه، ويفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس”، وقال أيضاً: فإن الكاذب يصور المعدوم موجوداً، والموجود معدوماً، والحق باطلاً، والباطل حقاً، والخير شراً، والشر خيراً، فيفسد عليه تصوره وعلمه عقوبة له، ثم يصور ذلك في نفس المخاطب”، وقال أيضاً: “فإن الكاذب يصور المعدوم موجوداً، والموجود معدوماً، والحق باطلاً، والباطل حقاً، والخير شراً، والشر خيراً، فيفسد عليه تصوره وعلمه عقوبة له، ثم يصور ذلك في نفس المخاطب، وقال أيضاً: “ولهذا كان الكذب أساس الفجور كما أخبر بذلك الصادق المصدوق “، وقال أيضاً: “إن أول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده، ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها، يعم الكذب أقواله، وأعماله، وأحواله، فيتحكم عليه الفساد، ويترامى داؤه إلى الهلكـة”10

وقال صالح بن عبد القدوس:

واختر صديقاً واصطفـيه تفاخراً إن القرين إلى المقـارن ينسب
ودع الكذوب ولا يكن لك صاحباً إن الكذوب لبئس خلاً يصحب11

وقال آخر:

وما شيءٌ إذا فكرت فيه بأذهب للمروءة والجمـال
من الكذب الذي لا خير فيه وأبعد بالبهاء من الرجال12

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.


1– أخرجه البخاري ومسلم.

2– أخرجه البخاري مع الفتح برقم 7047.

3– رواه أحمد والترمذي واللفظ له وكذا رواه غيرهما وهو في الصحيحة برقم (2052).

4– أخرجه أبو داود وأحمد وهو في الصحيحة برقم (545).

5– رواه مسلم.

6– رواه أحمد وأبو داود وهو في صحيح أبي داود 4175.

7– أدب الدنيا والدين 255.

8– رواه أحمد والطبراني، وقال الألباني صحيح لغيره

9– المصدر السابق (1 /20).

10– انظر الفوائد.

11–  الترغيب والترهيب (4 /52-53).

12– أدب الدنيا والدين 253.