دروس وعبر من حجة الوداع
الحمد لله الذي ختم الرسالات والنبوات بنيه محمد عليه الصلاة والسلام، وشرف الأمة المحمدية بإكمال الدين وإتمام النعمة عليهم على الدوام، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:
فإن حجة الوداع التي كانت آخر عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بالبيت الحرام رسمت معالم عظمى في حياة الناس، وبينت أحكاماً جليلة وأحقت حقوقاً وأبطلت شروراً، إن ما يميز هذه الحجة النبوية عن غيرها من الزيارات للبيت الحرام أنها أعلنت أهم الحقوق الثابتة الراسخة إلى قيام الساعة.. وسوف نعرض بعض ما جرى في هذه الحجة من مواقف ومن خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها، ثم يتم التعريج إلى ذكر الفوائد والعبر..
أعلن رسول الله نيته بالحج، وأشعر الناس بذلك حتى يصحبه من شاء.
فترك المدينة أواخر ذي القعدة، بعد أن أمَّر عليها في غيابه "أبا دجانة" والحج هذه المرة جاء مغايراً لما ألِفَتهُ العرب أيام جاهليتها.
انتهت العهود المعطاة للمشركين، وحظر عليهم أن يدخلوا المسجد الحرام.
فأصبح أهل الموسم -قاطبة- من الموحِّدين الذين لا يعبدون مع الله شيئاً، وأقبلت وفود الله من كل صوب تيمم وجهها شطر البيت العتيق، وهي تعلم أن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلم- هو في هذا العام أمير حجهم ومعلمهم مناسكهم!!.
ونظر رسول الله -صلَّى الله عليه وسلم- إلى الألوف المؤلفة وهي تلبي وتهرع إلى طاعة الله، فشرح صدره انقيادها للحق، واهتداؤها إلى الإسلام، وعزم أن يغرس في قلوبهم لباب الدين، وأن ينتهز هذا التجمع الكريم ليقول كلمات تبدد آخر ما أبقت الجاهلية من مخلَّفات في النفوس، وتؤكد ما يحرص الإسلام على إشاعته من آداب وعلائق وأحكام.
فألقى هذه الخطبة الجامعة:
(أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً.
أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت..
فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإنَّ كل رباً موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم، لا تَظلمون ولا تُظلمون.
قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله.
وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب -وكان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل – فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية…
أما بعد -أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه أبداً، ولكنه إن يُطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم!!.
أيها الناس: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ}.
وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية، ورجب -الذي بين جمادى وشعبان.
أما بعد أيها الناس: فإنَّ لكم على نسائكم حقاً، ولهنَّ عليكم حقاً.
لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة.
فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضرباً غير مبرِّح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف. واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عَوان، لا يملكن لأنفسهن شيئاً.
وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله).1
(فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلّغت..
وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بيِّناً: كتاب الله وسنة نبيه..
أيها الناس: اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمنَّ أنَّ كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرىء من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمُنَّ أنفسكم، اللهم هل بلغت؟).
قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلم-: (اللهم اشهد).
قال ابن إسحاق: كان الرجل الذي يصرخ في الناس يقول رسول الله -صلَّى الله عليه وسلم- وهو بعرفة ربيعة بن أمية بن خلف.
يقول له رسول الله: قل: يا أيها الناس إن الرسول يقول: هل تدرون أي شهر هذا؟ فيقول لهم…فيقولون: الشهر الحرام..!! فيقول: قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقَوْا ربَّكم كحرمة شهركم هذا..
ثم يقول: قل يا أيها الناس إن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلم- يقول: هل تدرون أي بلد هذا؟ فيصرخ به! فيقولون: البلد الحرام، فيقول: قل: إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقَوا ربكم كحرمة بلدكم هذا!.
ثم يقول يا أيها الناس إن رسول الله يقول: هل تدرون أي يوم هذا؟.
فيقول لهم…فيقولون: يوم الحج الأكبر، فيقول: قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقَوا ربكم كحرمة يومكم هذا..
كان الرسول -صلَّى الله عليه وسلم- يريد -بعد بلاء طويل في إبلاغ الرسالة- أن يفرغ في آذان الناس وقلوبهم آخر ما لديه من نصح.
كان يُحسُّ أن هذا الركب سينطلق في بيداء الحياة وحده، فهو يصرخ به كما يصرخ الوالد بابنه الذي انطلق به القطار، يوصيه بالرشد، ويذكِّره بما ينفعه أبداً.
وكان هذا النبيُّ الطيب كلما أوجس خيفة من مكر الشيطان بالناس، عاود صيحات الإنذار، واستثار أقصى ما في الأعماق من انتباه، ثم ساق الهدى والعلم…وقطع المعاذير المنتحلة، وانتزع -بعد ذلك- شهادة من الناس على أنفسهم وعليه أنهم قد سمعوا، وأنه قد بلَّغ..
لقد ظل ثلاثاً وعشرين سنة يصل الأرض بالسماء، ويتلو على القاصي والداني آي الكتاب الذي نزل به الروح الأمين على قلبه، ويغسل أدران الجاهلية التي التاث بها كل شيء، ويربِّي من هؤلاء العرب الجيل الذي يفقه الحقائق ويفقِّه العالم فيها..
وها هو ذا يقود الحجيج في أول موسم يخلص فيه من الشرك، ويتمحض فيه لله الواحد القهار.
وها هو ذا على ناقته العضباء يستنصت الجماهير المائجة ليؤكد المعاني التي بعث بها، والتي عرفهم عليها، ويخلِّي ذمته من عهدة البلاغ والتبيان التي نيطت بعنقه.
لقد أجيبت دعوة أبي الأنبياء إبراهيم حين هتف وهو يبني البيت العتيق:
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (129) سورة البقرة.
إن العزيز الحكيم تجلّى باسميه الجليلين على هذه الديار، فوهب العزة والحكمة أوْ قل: القوة والسياسة لمحمد بن عبدالله، فعالج بها الآثام الجاثمة على صدر الأرض، فما استعصى على الأناة والحلم استكان للتأديب والحكم.
وبهذا المنهج الجامع بين العدل والرحمة أخذت رقعة الباطل تنكمش رويداً رويداً حتى اختفت الجاهلية ولوثاتها، وثبت الإسلام، ثم أصاخ العرب -بعد ما لان قيادهم- إلى صوت الحق الأخير في حجة الوداع.
وفي يوم عرفة من هذه الحجة العظيمة نزل قول الله عز وجل:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا..}. (3) سورة المائدة.
وعندما سمعها عمر بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان. وكأنه استشعر وفاة النبي صلوات الله عليه وسلامه.
والحق أن مشاعر التوديع للحياة والأحياء كانت تنضح بها بعض العبارات التي ترد على لسان الرسول -صلَّى الله عليه وسلم-، منها ما سبق ذكره في خطبته بالموسم. ومنها ما يقع في أثناء تعليمه الوفود المحتشدة حوله، كقوله عند جمرة العقبة: خذوا عني مناسككم فلعلِّي لا أحج بعد عامي هذا.2
ومن الفوائد أيضاً من هذه الحجة:
1- مرحلة النضج التي وصلت إليها الأمة:
وصلت الأمة الإسلامية في السنة العاشرة مرحلة من النضج متقدمة, وكان ذلك يقتضي لمسات أخيرة, فوسع -صلى الله عليه وسلم- في العامين التاسع والعاشر من الهجرة دائرة التلقي المباشر من خلال استقباله الوفود, ومن خلال رحلة الحج، فأوجد قاعدة عريضة تحمل دعوته وقد تلقت عنه مباشرة, وكان لذلك أكبر الأثر في أن تبقى رحى الإسلام دائرة وإلى الأبد. ففي حجة الوداع كانت اللمسات الأخيرة في تربية الأفراد والمجتمع على كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
2- تربية الأفراد على قطع الصلة بالجاهلية والابتعاد عن الذنوب:
أ- فقد أشار -صلى الله عليه وسلم- إلى أهمية قطع المسلم علاقته بالجاهلية، أوثانها، وثاراتها، ورباها، وغير ذلك, ولم يكن حديثه -صلى الله عليه وسلم- مجرد توصية بل كان قرارًا أعلن عنه للملأ كله لأولئك الذين كانوا من حوله والأمم التي ستأتي من بعده, وهذه هي صيغة القرار: "ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية، تحت قدمي موضوع، دماء الجاهلية موضوعة… وربا الجاهلية موضوع"؛ لأن الحياة الجديدة التي يحياها المسلم بعد إسلامه حياة لا صلة لها برجس الماضي وأدرانه.
ب- وقد حذر -صلى الله عليه وسلم- من الذنوب والخطايا والآثام، ما ظهر منها وما بطن؛ لأن الذنوب والخطايا تفعل بالفرد ما لا يفعله العدو بعدوه, فهي سبب مصائبه في الدنيا (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) الشورى: 30 فترديه في نار جنهم في الآخرة، وتفعل في المجتمعات ما لا يفعله السيف، وأعلن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه لا يقصد بالخطايا العودة إلى عبادة الأصنام؛ لأن العقول التي تفتحت على التوحيد، ترفض أن تعود إلى الشرك الظاهر، ولكن الشيطان لا ييأس من أن يجد طريقه إليها من ثغرات الخطايا والذنوب، حتى تردي صاحبها في المهاوي.
3- تربية المجتمع على مبادئ أساسية:
أ- الأخوة في الله هي العروة الوثقى التي تربط بين جميع المسلمين (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الحجرات: 10 فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس, اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة, فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم" وقال: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا حتى تلقوا ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضُلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض".
ب- الوقوف بجانب الضعيف حتى لا يكون هذا الضعف ثغرة في البناء الاجتماعي، فأوصى -صلى الله عليه وسلم- في خطبته بالمرأة والرقيق على أنهما نموذجان عن الضعفاء, وأكد في كلمة مختصرة جامعة القضاء على الظلم البائد للمرأة في الجاهلية، وتثبيت ضمانات حقوقها وكرامتها الإنسانية التي تضمنتها أحكام الشريعة الإسلامية.
ج- التعاون مع الدولة الإسلامية على تطبيق أحكام الإسلام، والالتزام بشرع الله، ولو كان الحاكم عبدًا حبشيًّا، فإن في ذلك الصلاح والفلاح، والنجاة في الدنيا والآخرة. فقد بين صلى الله عليه وسلم العلاقة بين الحاكم والمحكوم بأنها تعتمد على السمع والطاعة ما دام الرئيس يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, فإذا مال عنهما فلا سمع ولا طاعة، فالحاكم أمين من قبل المسلمين على تنفيذ حكم الله تعالى.
د- المساواة بين البشر: فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي, ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض, إلا بالتقوى، الناس من آدم, وآدم من تراب"حيث حدد أن أساس التفاضل لا عبرة فيه لجنس، ولا لون، ولا وطن، ولا قومية، وإنما أساس التفاضل قيمة خلقية راقية ترفع مكانة الإنسان إلى مقامات رفيعة جدا.
هـ- تحديد مصدر التلقي: وقد حدد -صلى الله عليه وسلم- مصدر التلقي والطريقة المثلى لحل مشاكل المسلمين التي قد تعترض طريقهم في الرجوع إلى مصدرين لا ثالث لهما، ضمن لهم بعد الاعتصام بهما الأمان من كل شقاء وضلال، وهما: كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وإنك لتجده يتقدم بهذا التعهد والضمان إلى جميع الأجيال المتعاقبة من بعده، ليبين للناس أن صلاحية التمسك بهذين الدليلين ليست وقفًا على عصر دون آخر، وأنه لا ينبغي أن يكون لأي تطور حضاري أو عرف زمني أي سلطان أو تغلب عليهما.
لقد وصف -صلى الله عليه وسلم- الداء والدواء, ووضع العلاج لكل المشكلات بالالتزام التام بما جاء من أحكام من في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي" هذا هو العلاج الدائم, وقد كرر -صلى الله عليه وسلم- نداءه للبشرية عامة, عبر الأزمنة والأمكنة, بوجوب الاهتداء بالكتاب والسنة في حل جميع المشكلات التي تواجه البشرية، فإن الاعتصام بهما يجنب الناس الضلال ويهديهم إلى التي هي أقوم في الحاضر والمستقبل، لقد اجتازت تعاليم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهديه حدود الجزيرة، واخترقت حواجز الزمن، وأسوار القرون, وظل يتردد صداها حتى يوم الناس هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فلم يكن يخاطب سامعيه فيقول لهم: أيها المؤمنون, أو أيها المسلمون, أو أيها الحجاج.. بل كان يقول لهم: يا أيها الناس, وقد كرر نداءه إلى الناس كافة مرات متعددة دون أن يخصصه بجنس أو بزمان أو مكان أو لون، فقد بعثه الله للناس كافة وأرسله رحمة للعالمين(3).
هذه بعض الفوائد التي نستخلصها من حجة الوداع، الحجة العظيمة التي جمع الله بها كلمة التوحيد وبين فيها رسوله -صلى الله عليه وسلم- بعض الأحكام التي كانت موجودة من قبل ولكن لأهميتها أكد عليها لكي يبلغها الجمع العظيم إلى من وراءهم إلى أبد الدهر..
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.