اتخذوا هذا القرآن مهجوراً

  اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا

 

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله الصادق الأمين, وعلى آله وصحبه والتابعين, أما بعد:

فإنه لما ذكر الله تعالى ما قاله المشركون من الباطل في معارضة القرآن والإعراض والصد عنه، وما قالوه من عبارات الحسرة والندامة يوم القيامة على ما كان منهم من ذلك في الدنيا, ذكر ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- من الشكوى لربه من تركهم للقرآن العظيم وهجره.   قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (30) سورة الفرقان. ففي التعبير عنهم بقومه وإضافتهم إليه، وفى التعبير عن القرآن باسم الإشارة القريب بيان لعظيم جرمهم، فتركهم للقرآن -وهو قريب في متناولهم- وقد أتاهم به واحد منهم أقرب الناس إليهم فصدوا وأبعدوا في الصد عمن هو إليهم قريب من قريب, وهذا أقبح الصد وأظلمه.

وفى قوله: {اتَّخَذُوا}… الخ بيان أنهم جعلوا الهجر ملازماً له ووصفاً من أوصافه عندهم، وذلك أعظم من أن يقال هجروه، الذي يفيد وقوع الهجران منهم دون دلالة على الثبوت والملازمة.

والمعنى أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قال شاكياً لربه إن قومي الذين أرسلتني إليهم بالقرآن لأتلوه عليهم قد صدوا عنه؛ فتركوه وثبتوا على تركه وهجره.

 وفي شكوى النبي -صلى الله عليه وسلم- من هجر القرآن دليل على أن ذلك من أصعب الأمور عليه وأبغضها لديه، وفى حكاية القرآن لهذه الشكوى وعيد كبير للهاجرين بإنزال العقاب بهم إجابة لشكوى نبيه، ولما كان الهجر طبقات، أعلاها عدم الإيمان به فلكل هاجر حظه من هذه الشكوى وهذا الوعيد.

ونحن -معشر المسلمين- قد كان منا للقرآن العظيم هجر كثير في الزمان الطويل, وإن كنا به مؤمنين، حيث بسط القرآن عقائد الإيمان كلها بأدلتها العقلية القريبة القاطعة؛ فهجرناها، وقلنا تلك أدلة سمعية لا تحصل اليقين، وأخذنا في الطرائق الكلامية المعقدة وإشكالاتها المتعددة واصطلاحاتها المحدثة مما يصعب أمره على الطلبة فضلاً عن العامة، وبيّن القرآن أصول الأحكام وأمهات مسائل الحلال والحرام ووجوه النظر والاعتبار، مع بيان حِكم الأحكام وفوائدها في الصالح الخاص والعام؛ فهجرناها واقتصرنا على قراءة الفروع الفقهية مجردة بلا نظر، جافة بلا حكمة، محجبة وراء أسوار من الألفاظ المختصرة، تفني الأعمار قبل الوصول إليها، وبيّن القرآن مكارم الأخلاق ومنافعها ومساوئ الأخلاق ومضارها، وبين السبيل للتخلي عن هذه والتحلي بتلك مما يحصل به الفلاح بتزكية النفس، والسلامة من الخيبة؛ فهجرنا ذلك كله، ووضعنا أوضاعاً من عند أنفسنا، واصطلاحات من اختراعاتنا، خرجنا في أكثرها عن الحنيفية السمحة إلى الغلو والتنطع، وعن السنة البيضاء إلى الإحداث والابتداع، وأدخلنا فيها من النسك الأعجمي، والتخيل الفلسفي ما أبعدها غاية البعد عن روح الإسلام، وألقى بين أهلها بذور الشقاق والخصام، وآل الحال بهم إلى الخروج من أثقال أغلالها، والاقتصار على بقية رسومها للانتفاع منها ومعارضة هداية القرآن بها.

وعرض القرآن علينا هذا الكون وعجائبه، ونبهنا على ما فيه من عجائب الحكمة ومصادر النعمة لننظر ونبحث ونستفيد ونعمل؛ فهجرنا ذلك كله إلى خريدة العجائب وبدائع الزهور والحوت والصخرة وقرون الثور!

ودعانا القرآن إلى تدبره وتفهمه والتفكر في آياته، ولا يتم ذلك إلا بتفسيره وتبيينه؛ فأعرضنا عن ذلك وهجرنا تفسيره وتبيينه، فترى الطالب يفني حصة كبيرة من عمره في العلوم الآلية دون أن يكون قد طالع ختمة واحدة في أصغر تفسير, بل ويصير مدرساً متصدراً ولم يفعل ذلك ولا أقل من ذلك.

وعلَّمنا القرآن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو المبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، وأن عليهم أن يأخذوا ما آتاهم وينهوا عما نهاهم عنه، فكانت سنته العملية والقولية تالية للقرآن؛ فهجرناها كما هجرناه وعاملناها بما عاملناه، حتى إنه ليقلّ في المتصدرين للتدريس من كبار العلماء في أكبر المعاهد مَن يكون قد ختم كتب الحديث المشهورة كالموطأ والبخاري ومسلم ونحوها مطالعة فضلاً عن غيرهم من أهل العلم وفضلاً عن غيرها من كتب السنة.

وكم وكم وكم بيّن القرآن, وكم وكم وكم قابلناه بالصد والهجران! نسأل الله السلامة.

أيها الناس:

إن شر الهاجرين للقرآن هم الذين يضعون من عند أنفسهم ما يعارضونه به ويصرفون وجوه الناس إليهم وإلى ما وضعوه عنه؛ وذلك لأنهم جمعوا بين صدهم وهجرهم في أنفسهم وصد غيرهم؛ فكان شرهم متعدياً وبلاؤهم متجاوزاً وشر الشر وأعظم البلاء ما كان كذلك، وفي هؤلاء جاء ما ذكره الإمام ابن القيم –رحمه الله- عن معاذ بن جبل قال: "تكون فتن, فيكثر المال، ويفتح القرآن حتى يقرأه الرجل والمرأة والصغير والكبير والمنافق والمؤمن، فيقرؤه الرجل فلا يتبع؛ فيقول والله لأقرأنَّه علانية فلا يتبع، فيتخذ مسجداً ويبتدع كلاماً ليس من كتاب الله ولا من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإياكم وإياه فإنه بدعة وضلالة"1.

فانظر في قطرنا وفى غير قطرنا، كم تجد ممن بنى موضعاً للصلاة ووضع كتباً من عنده أو مما وضعه أسلافه من قبله وروجها بين أتباعه، فأقبلوا عليها وهجروا القرآن وربما يكون بعضهم قصد بما وضع النفع فأخطأ وجهه، إذ لا نفع بما صرف عباد الله عن كتاب الله، وإنما يُدعى لله بكتاب الله، ولذلك سمي صنيع هذا الواضع بدعة وضلالة، وحذر معاذ منه وأكد في التحذير بالتكرير.

وهذا الحديث وإن كان موقوفاً على معاذ -فهو في حكم المرفوع؛ لأنه إخبار بمغيب مستقبل، وهذا ما كان يعلمه الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم – إلا بتوقيف من النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد تحقق مضمونه في المسلمين منذ أزمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

أيها الإخـوة المسلمون:

لا نجاة لنا من هذا التيه الذي نحن فيه والعذاب المنوع الذي نذوقه ونقاسيه إلا بالرجوع إلى القرآن، إلى علمه وهديه، وبناء العقائد والأحكام والآداب عليه والتفقه فيه, وفي السنة النبوية شرحه وبيانه، والاستعانة على ذلك بإخلاص القصد وصحة الفهم والاعتضاد بأنظار العلماء الراسخين والاهتداء بهديهم في الفهم عن رب العالمين، وهذا أمر قريب على من قرّبه الله عليه، يسير على من توكل على الله فيه، وقد بدت طلائعه -والحمد لله- وهى آخذة في الزيادة -إن شاء الله- وسبحان مَن يحيي العظام وهي رميم2.

نسأل الله تعالى أن يفقهنا في الدين, وأن يعلمنا التأويل, وأن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا, ونوراً لأبصارنا, وجلاء لهمومنا وغمومنا.

اللهم ارزقنا تلاوته وتدبره والعمل به على الوجه الذي يرضيك عنا آناء الليل وأطراف النهار, إنك سميع مجيب., وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم, والحمد لله رب العالمين.


 


1 إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم (ج 1 / ص 76).

2 استفيد الموضوع من مجلة البيان العدد 13 ص33 ذي الحجة 1408هـ.