أسباب قسوة القلب

أسباب قسوة القلب

أسباب قسوة القلب

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:

إن الاهتمام بإصلاح القلب من أهم ما يجب أن يعتني به المسلم، خاصة في أزمنتنا التي كثرت فيها أسباب القسوة والغفلة، ويسرت سبل الشيطان، فلم يبق للعبد إلا توفيق الله تعالى إلى العمل بأسباب صلاح القلوب واستقامتها، وقد كان المسلمون من قبل يعتنون بذلك عناية بالغة، ويخافون من أن تقسو قلوبهم، فتجترئ النفوس على المعاصي، وتهلك مع من هلك!

وكان أحدهم يعاتب نفسه على تقصيرها وبعدها عن ربها، مع أنهم كانوا من أشد الناس عبادة، وتركاً للحرمات، بل لكثير من المباحات؛ خشية الوقوع في الحرام، فهذا يحيى بن يوسف أبو زكريا الصرصري البغدادي يعاتب نفسه قائلاً:

يا قسوة القلب مالي حيلـة فيـكِ

حجبت عني إفادات الخشوع فـلا

وما تماديك من كسب الذنوب ولـ

لكن تماديك من  كسب نشأتِ به

وأنت يا نفس مأوى كل معضلـة

أنت الطليعة للشيطـان في جسدي

 

ملكت قلبي فأضحى شر مملـوكِ

يشفيكِ ذكر ولا وعـظ يداويكِ

ـكن الذنـوب أراها من تماديـك

طعام سـوءٍ على ضعفي يقويـك

وكل داءٍ بقـلبي مـن عـواديك

فليس يدخـل إلا من نواحــيك

 

وقال الشافعي:

ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي       جعلت رجائي نحو عفوك سلما

تعاظمني ذنـــبي فلما قرنته       بعفوك ربي كان عفوك أعظما

وأسباب قسوة القلب هي المعاصي، ومصادر المعاصي تكون من الجوارح التي هي منافذ للقلب، تمده إما بالخير أو بالشر، فالبصر منفذ للقلب، إذا أطلقه الإنسان في النظر إلى ما يحرم من محاسن النساء وغيرها انتقل تأثير ذلك النظر إلى القلب، فتنكت في القلب نكتة، فإن أقلع عنها محيت، وإلا بقيت سوداء، فإن تكرر ذلك صار القلب أسوداً مظلماً.

ومنفذ السمع ينقل للقلب معاصي السمع، كالاستماع إلى الموسيقى والغناء الفاحش، وغير ذلك مما حرمه الله، فتُنكت في القلب نكت سود، وهكذا المعاصي الأخرى التي ينتقل أثرها إلى القلب عن طريق المنافذ الأخرى، كاللسان والفرج واليد والرجل، فأما اللسان فبالكلام الفاحش والغيبة والكذب وغير ذلك، وأما الفرج فبفعل الفاحشة من الزنا واللواط، وأما اليد فبالسرقة وضرب الغير والتعدي عليه وأكل أموال الناس بالباطل، وأما الرجل فبالمشي إلى الحرام بشكل عام.. فتبين بهذا أن القلب ملك والأعضاء جنوده، إذا صلح القلب صلحت الأعضاء، وإذا فسد فسدت، فإذا صلح مدَّته هذه الأعضاء بما يزيد في صلاحه، وإذا فسد مدَّته تلك الأعضاء فيما يقرب من هلاكه، والعياذ بالله، وقسوة القلب وموته ومرضه معان متقاربة، سببها الذنوب وأكبرها الكفر..

فكل ما ذكر من أنواع الذنوب والمعاصي هو السبب في قسوة القلب.. وقسوة القلب من أكبر المصائب التي يعاقب بها الإنسان، ولما أكثر بنو إسرائيل من المعاصي والمخالفات لرسلهم عوقبوا بقسوة قلوبهم قال تعالى :{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (16) سورة الحديد، فحذر الله تعالى هذه الأمة من سلوك الطرق التي سلكها من قبلهم من أهل الكتاب الذين اتبعوا أهواءهم وارتكبوا الذنوب فقست قلوبهم. وهذه القسوة حصلت لهم بعدما رأوا آيات الله تعالى في وضح النهار؛ من ذلك: إحياء الله الموتى بين أيديهم وهم ينظرون، ولما أحيا الله ميتهم بعد أن ضربوه بجزء من لحم البقرة التي أمروا بذبحها، لم يفيقوا من غفلتهم وقسوتهم، بل استمروا على ذلك، قال الله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } (74) سورة البقرة ، ولما ذكر الله الحكمة من الابتلاء بالبأساء والضراء وهي الرجوع إلى الله والتضرع بين يديه، ذكر أن أهل المعاصي والذنوب الذين زين لهم الشيطان أعمالهم السيئة قد ازدادت قلوبهم قسوة بهذا البلاء، فقال تعالى : {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (43) سورة الأنعام ، وبين الله تعالى أن أهل القسوة سرعان ما يتأثرون بالشبه والفتن فقال: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (53) سورة الحـج، وقد جاء في الحديث الشريف عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفاء لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُربادّاً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه )) رواه مسلم وأحمد. وقد توعد الله سبحانه وتعالى القاسية قلوبهم بالويل ووصفهم بأنهم في ضلال مبين، فقال تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (22) سورة الزمر فيجب على الإنسان أن يبتعد عن أسباب قسوة القلب، وأن يكثر من الاستغفار والتوبة؛ لأنها تمحو الذنوب وتكفر السيئات، نسأل الله أن يغفر ذنوبنا ويستر عيوبنا، ويلين قلوبنا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب.. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم,,