صلة الأرحام

صلة الأرحام

 

 الحمد لله الكريم الوهاب، هازم الأحزاب، ومنشئ السحاب، ومرسل الهباب، ومنزل الكتاب، في حوادث مختلفة الأسباب، أنزله مفرقاً نجوماً، وأودعه أحكاماً وعلوماً، القائل -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا})سورة النساء :1) والقائل: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}(22) سورة محمد، وصلاةً وسلاماً على الرحمة المهداة، المبعوث رحمة للعالمين، القائل: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه)1 وعلى آله الأطهار، وصحابته الغر الميامين الأبرار، ومن اقتفى أثرهم بإحسان، ما ارتفع إلى السماء أذان.. أما بعد:

عباد الله:

إن صلة الرحم من الأمور الواجبة على المسلم، وقطيعتها من كبائر الذنوب، فقد ذكر سبحانه صلة الرحم في القرآن في تسع عشرة آية، وفي هذا العصر الذي ماجت فيه الماديات وطغت، قطعت الأرحام، وتفرقت القلوب، فصار الجفاء والقطيعة هي السائدة، والله المستعان، حتى صدق فيهم قول الشاعر:

أفسد الناس خلوف خلفوا     قطعوا الآل وأعراق الرحم

فحرياً بالمرء المسلم أن ينتبه لهذا الموضوع، فهناك واجبات ضيعت، ومحظورات ارتكبت، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من سره أن يمد له في عمره، وينسأ في أجله، فليتق الله، وليصل رحمه)2. قيل: إن معنى زيادة العمر وبسط الرزق أن يبارك الله في عمر الإنسان ورزقه فيعمل في وقته ما لا يعمله غيره فيه. وقيل: إن معنى زيادة العمر وبسط الرزق على حقيقتها فيزيد الله في عمره ويزيد في رزقه ولا يشكل على هذا أن الأجل محدود والرزق مكتوب فكيف يزاد؟ وذلك لأن الأجل والرزق على نوعين: أجل مطلق يعلمه الله وأجل مقيد, ورزق مطلق يعلمه ورزق مقيد, فالمطلق هو ما علمه الله أنه يؤجله إليه أو ما علمه الله أنه يرزقه فهذا لا يتغير, والثاني يكون كتبه الله واعلم به الملائكة فهذا يزيد وينقص بحسب الأسباب"3. والمراد بالرحم القرابة، وكلما قربت القرابة كانت صلتها أوجب وأوكد. ولا سيما إذا كانوا فقراء.

أيها المسلمون:

إن من الواجب على المسلم أن يصل رحمه، لأن قطيعة الرحم ذنب كبير، وهو سبب في حرمان دخول الجنة. فعن أبي موسى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر)4 وقال النبي -صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قاطع)5.

وتكون الصلة بالمال أو بالهدية أو الزيارة أو الاتصال أو السؤال عنهم وتفقد أحوالهم، والتصدق على فقيرهم، والتلطف مع غنيهم، واحترام كبيرهم، وتكون كذلك باستضافتهم وحسن استقبالهم، ومشاركتهم في أفراحهم، ومواساتهم في أحزانهم، كما تكون بالدعاء لهم، وسلامة الصدر نحوهم، وإجابة دعوتهم، وعيادة مرضاهم، كما تكون بدعوتهم إلى الهدى، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، أو بأي شيء تيسر،  يقول ابن أبي حمزة: "تكون صلة الرحم بالمال، وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر، وبطلاقة الوجه، وبالدعاء". وقال النووي: "صلة الرحم هي الإحسان إلى الأقارب على حسب الواصل والموصول؛ فتارة تكون بالمال، وتارة تكون بالخدمة، وتارة تكون بالزيارة والسلام وغير ذلك"6. والصدقة إلى ذي الرحم أولى لقوله عليه السلام: (وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)7 وأدنى الصلة أن تصل أقاربك وأرحامك ولو بالسلام عليهم. فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (بلوا أرحامكم ولو بالسلام)8 قال ابن عابدين: "صلة الرحم واجبة ولو كانت بسلام، وتحية، وهدية، ومعاونة، ومجالسة، ومكالمة، وتلطف، وإحسان، وإن كان غائباً يصلهم بالمكتوب إليهم، فإن قدر على السير كان أفضل". فحري بك أيها المسلم أن تصل رحمك، فإن من وصل رحمه وصله الله، ومن قطع رحمه قطعه الله.

عبد الله: إن صلة الرحم سبب لمغفرة الذنوب واسمع -رحمك الله- إلى هذا الحديث فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أتى النبي رجل فقال: إني أذنبت ذنباً عظيماً، فهل لي توبة؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (هل لك من أم؟) قال: لا. قال: (فهل لك من خالة؟) قال: نعم. قال: (فبرّها)9. وصلة الرحم تقرب إلى الجنة، فعن أبي أيوب أن أعرابياً عرض لرسول الله وهو في سفر، فأخذ بحطام ناقته أو بزمامها، ثم قال: يا رسول الله -أو يا محمد- أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني من النار؟ قال: فكف النبي، ثم نظر في أصحابه، ثم قال: (لقد وفق أو لقد هدي) قال: (كيف قلت؟) قال: فأعادها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم، دع الناقة)10 وفي رواية: (وتصل ذا رحمك) فلما أدبر قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن تمسك بما أمرته به دخل الجنة)11 والرحم تشهد لمن وصلها يوم القيامة، فعن ابن عباس قال: قال -صلى الله عليه وسلم- : (وكل رحم آتية يوم القيامة أمام صاحبها تشهد له بصلة إن كان وصلها، وعليه بقطيعة إن كان قطعها)12 والصلة تعجل الثواب والقطيعة تعجل العقاب, فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ليس شيء أُطِيع الله فيه أعجل ثواباً من صلة الرحم، وليس شيء أعجل عقاباً من البغي وقطيعة الرحم)13 وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: (ما من ذنب أحرى أن يعجل اللهُ لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدِّخره له في الآخرة من قطيعة الرحم والبغي)14. وصلة الرحم أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة, فعن عقبة بن عامر أنه قال: لقيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبدرته فأخذت بيده وبدرني فأخذ بيدي فقال: (يا عقبة ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة؟ تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك, ألا ومن أراد أن يمد له في عمره ويبسط في رزقه فليصل ذا رحمه)15.

وصلة الرحم تثمر الأموال وتعمر الديار، فعن عائشة رضي الله عنها: (صلة الرحم وحسن الجوار أو حسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار)16 وعن ابن عباس قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله ليعمّر بالقوم الديار ويثمر لهم الأموال وما نظر إليهم منذ خلقهم بغضاً لهم) قيل: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: (بصلتهم لأرحامهم).17

وصلة الرحم سبب لمحبة الأهل للواصل: روى الترمذي وحسنه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر)18. وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (توضع الرحم يوم القيامة لها حجنة كحجنة المغزل، تتكلم بلسان طلق ذلق، فتصل من وصلها وتقطع من قطعها)19. نسأل الله أن يوفقنا إلى صلة الأرحام، وأن يرزقنا الإخلاص فيه، ويتقبله منا. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:

عباد الله:

 إن صلة الأرحام من أعظم القربات إلى الله وأجلها، قال تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} (38) سورة الروم، وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى}(النساء:36) وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}(النحل:90). وقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}(الرعد:25). قال القرطبي -رحمه الله-: "اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة، وأن قطيعتها محرمة"20.

لكن بعض الناس قد يقع في بعض الأخطاء. ومن ذلك:

– ألا تكون الصلة مجاملة أو إحراجاً، بل امتثال أمر الله ورسوله بالصلة:

وأن تطلب المثوبة والإحسان والأفضال من الله تعالى فإن الله سيصلك إذا وصلت رحمك، فعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله: (إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: نعم! أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى قال: فذلك لك… )21 الحديث.

وعن أنس-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الرحم شُجْنةُ متمِسكة بالعرش تكلم بلسان ذُلَق: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني، فيقول -تبارك وتعالى-: أنا الرحمن الرحيم، و إني شققت للرحم من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن نكثها نكثته)22

-ألا تكون مكافئاً، يعني لا تصل إلا إذا وُصلت، فعن أبي ذر -رضي الله عنه- أنه قال: (أوصاني خليلي أن لا تأخذني في الله لومةُ لائم، وأوصاني بصلة الرحم وإن أدبرت)23

وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)24. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلاً قال: (يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي, فقال: (لئن كنت كما قلت فكأنما تَسفُّهم المَلَّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم مادمت على ذلك)25. "ومعنى تسفهم المل" قال النووي: "كأنما تطعمهم الرماد الحار، وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم"26. وعن أم كلثوم بنت عقبة، قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح)27. والكاشح: المبغض: قال ابن الأثير: "العدو الذي يضمر عداوته، ويطوي عليهما كشحه، أي باطنه". كأنه يطويها في كشحه. وهو ما بين الخاصرة إلى الضلع، أو يعرض عنك بوجهه ويوليك كشحه.

وقال الشاعر:

وكن واصل الأرحام حتى لكاشحٍ         توفر في عمر ورزق وتسعد

  ولا تقطع الأرحام إن قطيعـة            لذي رحم كبرى من الله تبعد

اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفتن والإحن والآثام.

ونسألك اللهم قلباً سليماً، ولساناً صادقاً، ونسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، ونسألك من خير ما نعلم، ونعوذ بك من شر ما تعلم، ونستغفرك لما تعلم، إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وصلى الله وسلم وبارك على محمد صاحب القلب السليم، والقدر العظيم، وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.


1 – أخرجه البخاري ( 5673)

2 – أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط ( 7073)

3 -مجموع فتاوى ابن تيمية (8/517,540)

4 – أخرجه ابن حبان(5436)وقال الألباني صحيح لغيره انظر صحيح الترغيب والترهيب(ج 2/ص340-2539)

5 – أخرجه البخاري ( 5525) ومسلم ( 4636)

6 – شرح النووي على مسلم (ج 1 / ص 287)

7 – أخرجه البخاري (1368) ومسلم ( 1664)

8 – أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7740) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (ج 4 /ص 378- 1777)

9 – أخرجه الترمذي ( 1827) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (ج 2 / ص331-2504)

10 – أخرجه مسلم  ( 14)

11 أخرجه مسلم  ( 15)

12 -أخرجه البخاري في الأدب المفرد (73) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (ج 1/ ص 560 –  277)

13 – أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (5) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (ج 2 / ص 669 –  978)

14 –  أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين ( 7399)

15 – أخرجه  الحاكم في المستدرك (7394)، وذكر العراقي في تخريج أحاديث الإحياء أن إسناده ضعيف.

16 – رواه أحمد ( 24098) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (ج 2 / ص 336- 2524)

17 – أخرجه الحاكم ( 7391) والطبراني في المعجم الكبير (12391)، وضعفه الألباني.

18 – أخرجه الترمذي ( 1902) وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم:2965

19 – أخرجه أحمد ( 6485) وغيره، وقال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي تمامة الثقفي، وثقه ابن حبان.

20 – تفسير القرطبي (ج 5 / ص 6)

21 – أخرجه البخاري ( 4455) ومسلم ( 4634)

22 – قال الألباني: (حسن لغيره ) انظر صحيح الترغيب والترهيب (ج 2 / ص 338- 2531)

23 – أخرجه الطبراني في المعجم الصغير ( 759)

24 – أخرجه البخاري ( 5532)

25 – أخرجه مسلم ( 4640)

26 – شرح النووي على مسلم (ج 8 / ص 351)

27 – أخرجه أحمد ( 14781) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (ج 2/ص 338- 2535)