لنهدينهم سبلنا

لنهدينهم سبلنا

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

من المعلوم أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا يعيش حالة من الصراع مع أعداء ظاهرين، وآخرين لا يراهم، وربما كانوا أشد فتكاً به من أعدائه المشاهدين؛ ولذا فإنه لا بد أن يكون دائماً متيقظاً حذراً.

وإن أعدى أعداء المرء نفسه التي بين جنبيه، فإنها تحثه على نيل كل مطلوب، والفوز بكل لذة حتى وإن خالفت أمر الله وأمر رسوله، والعبد إذا أطاع نفسه، وانقاد لها؛ هلك، أما إن جاهدها، وزمها بزمام الإيمان، وألجمها بلجام التقوى؛ فإنه يحرز بذلك نصراً في ميدان من أعظم ميادين الجهاد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب))1، فجهاد النفس إذاً من أفضل أنواع الجهاد، وجهاد المرء نفسه هو من أكمل الجهاد وأفضله قال – تعالى -: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى}2.

تعريف المجاهدة:

الجهاد والمجاهدة: "استفراغ الوسع في مدافعة العدو، والجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس، وتدخل ثلاثتها في قوله – تعالى -: {وجاهدوا في الله حقَّ جِهادِهِ}3، وقوله: {وجاهدوا بأموالِكُم وأنفُسِكم في سبيل الله}4"5.

وقد ذهب بعض علماء السلف إلى أن مجاهدة النفس تكون على أربع مراتب:

أولاً: حمل النفس على تعلم أمور دينها.

ثانياً: حملها على العمل بذلك.

ثالثاً: حملها على تعليم من لا يعلم.

رابعاً: دعوة الناس إلى توحيد الله.

وهاكم ما جاء في كتاب الله في فضل مجاهدة النفس:

قال اللَّه – تعالى -: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن اللَّه لمع المحسنين}6.

فهذه الآية صريحة في بيان فضل مجاهدة النفس وثوابها العظيم، إذ يهدي الله صاحبها إلى سبل الخير والفلاح في الدنيا والآخرة، وقد جاء في تفسير القرطبي لهذه الآية: عن أبي سليمان الداراني أنه قال: "ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين، وقمع الظالمين، وأعظمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله – تعالى – وهو الجهاد الأكبر، ومعنى لنهدينهم سبلنا: أي لنخلصن نياتهم وصدقاتهم، وصلواتهم وسائر أعمالهم، ونوفقهم لدين الحق، ولطريق الجنة، وأما المحسنون: فهم المؤمنون بنصر الله وعونه، والمحسنون لمن يسيء إليهم"7.

وقال ابن القيم – رحمه الله – تعليقاً على هذه الآية: "علق سبحانه الهداية بالجهاد، فأكمل الناس هداية أعظمهم جهاداً، وأفرض الجهاد جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا؛ فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد، قال الجنيد: "والذين جاهدوا" أهواءهم، "فينا" بالتوبة، "لتهدينهم" سبل الإخلاص، ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطناً، فمن نصر عليها نصره على عدوه، ومن نصرت عليه نصر عليه عدوه"8.

وقال – تعالى -: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً}9 أي: انقطع إليه، وقال – تعالى -: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}10، وقال – تعالى -: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}11، وقال – تعالى -: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ}12، والآيات في هذا الباب كثيرة.

أما من السنة فمما جاء في فضل مجاهدة النفس وحملها على العمل ما يلي:

الأَول: عن أبي هريرة – رضي اللَّه عنه – قال: قال رسول اللَّه – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم -: ((إِنَّ اللَّه – تعالى – قال: منْ عادى لي وليّاً فقدْ آذنتهُ بالْحرْب، وما تقرَّبَ إِلَيَ عبْدِي بِشْيءٍ أَحبَّ إِلَيَ مِمَّا افْتَرَضْت عليْهِ، وما يَزالُ عبدي يتقرَّبُ إِلى بالنَّوافِل حَتَّى أُحِبَّه، فَإِذا أَحبَبْتُه كُنْتُ سمعهُ الَّذي يسْمعُ به، وبَصره الذي يُبصِرُ بِهِ، ويدَهُ التي يَبْطِش بِهَا، ورِجلَهُ التي يمْشِي بها، وَإِنْ سأَلنِي أَعْطيْتَه، ولَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَّنه13)) رواه البخاري، وآذنتُهُ: أَعلَمْتُه بِأَنِّي محارب لَهُ.

الثاني: عن أبي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قال: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: يقول الله – تَعَالَى -: ((أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وأنا معه إذا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي في ملأ ذَكَرْتُهُ في ملأ خَيْرٍ منهم، وَإِنْ تَقَرَّبَ إلي شبراً تَقَرَّبْتُ إليه ذِرَاعاً، وَإِنْ تَقَرَّبَ إلي ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إليه بَاعاً، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً14)) رواه البخاري.

الثالث: عن ابن عباس – رضي اللَّه عنه – قال: قال رسول اللَّه – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم -: ((نِعْمتانِ مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ15)) رواه البخاري.

الرابع: عن عائشة – رضي اللَّه عنها – أَنَّ النَّبِيَّ – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم -: ((كَان يقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حتَّى تتَفطَرَ قَدمَاهُ، فَقُلْتُ لَهُ: لِمْ تصنعُ هذا يا رسولَ اللَّهِ وقدْ غفَرَ اللَّه لَكَ مَا تقدَّمَ مِنْ ذَنبِكَ وما تأخَّرَ؟ قال: ((أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أكُونَ عبْداً شكُوراً؟16)) رواه البخاري.

الخامس: وعن عائشة – رضي اللَّه عنها – أنها قالت: ((كان رسولُ اللَّه – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم – إذَا دَخَلَ الْعشْرُ أحيا اللَّيْلَ، وأيقظ أهْلهْ، وجدَّ وشَدَّ المِئْزَرَ17)) متفقٌ عليه، والمراد: الْعشْرُ الأواخِرُ من شهر رمضان، وَالمِئْزَر: الإِزارُ وهُو كِنايَةٌ عن اعْتِزَال النِّساءِ، وقِيلَ: المُرادُ تشْمِيرهُ للعِبادَةِ، يُقالُ: شَددْتُ لِهذا الأمرِ مِئْزَرِي أيْ: تشمرتُ وَتَفَرَّغتُ لَهُ.

السادس: عن أبي هريرة – رضي اللَّه عنه – قال: قال رسولُ اللَّه – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم -: ((المُؤمِن الْقَوِيُّ خيرٌ وَأَحبُّ إِلى اللَّهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وفي كُلٍّ خيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا ينْفَعُكَ، واسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجَزْ، وإنْ أصابَك شيءٌ فلاَ تقلْ: لَوْ أَنِّي فَعلْتُ كانَ كَذَا وَكذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قدَّرَ اللَّهُ ومَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَان18)) رواه مسلم.

السابع: وعنه أَنَّ رسول اللَّه – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم – قال: ((حُجِبتِ النَّارُ بِالشَّهَواتِ، وحُجِبتْ الْجَنَّةُ بَالمكَارِهِ19)) متفقٌ عليه، وفي رواية لمسلم: حُفَّت، بَدلَ حُجِبتْ وهو بمعناهُ: أيْ بينهُ وبيْنَهَا هَذا الحجابُ، فإذا فعلَهُ دخَلها.

الثامن: عن أبي عبد اللَّه حُذَيْفةَ بن اليمانِ – رضي اللَّهُ عنهما – قال: ((صَلَّيْتُ مع النَّبِيِّ – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم – ذَاتَ ليَْلَةٍ فَافَتَتَحَ الْبقرة، فقُلْت: يرْكَعُ عِندَ المئة، ثُمَّ مضى، فَقُلْت: يُصلِّي بِهَا في رَكْعةٍ، فَمَضَى، فَقُلْت: يَرْكَع بهَا، ثمَّ افْتتَح النِّسَاءَ فَقَرأَهَا، ثمَّ افْتتح آلَ عِمْرانَ فَقَرَأَهَا، يَقْرُأُ مُتَرَسِّلاً إذَا مرَّ بِآيَةٍ فِيها تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وإِذَا مَرَّ بِسْؤالٍ سَأل، وإذَا مَرَّ بِتَعَوذٍ تَعَوَّذَ، ثم ركع فَجعل يقُول: سُبحانَ رَبِّيَ الْعظِيمِ فَكَانَ ركُوعُه نحْواً مِنْ قِيامِهِ، ثُمَّ قَالَ: سمِع اللَّهُ لِمن حمِدَه، ربَّنا لك الْحمدُ ثُم قَام قِياماً طوِيلاً قَريباً مِمَّا ركَع، ثُمَّ سَجَدَ فَقالَ: سبحان رَبِّيَ الأعلَى فَكَانَ سُجُوده قَرِيباً مِنْ قِيامِه20)) رواه مسلم.

التاسع: عن ابن مسعودٍ – رَضِيَ اللَّهُ عنه – قال: ((صلَّيْت مع النَبِيِّ – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم – لَيلَةً فَأَطَالَ الْقِيامَ حتَّى هممْتُ أَنْ أجْلِسَ وَأدعَه21)).

العاشر: عن أنس – رضي اللَّه عنه – عن رسولِ اللَّهِ – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم – قال: ((يتْبعُ الميْتَ ثلاثَةٌ: أهلُهُ ومالُه وعمَلُه، فيرْجِع اثنانِ، ويبْقَى واحِدٌ: يرجعُ أهلُهُ ومالُهُ، ويبقَى عملُه22ُ)).

الحادي عشر: عن ابن مسعودٍ – رضيَ اللَّهُ عنه – قال: قال النبيُّ – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم -: «الجنة أقَربُ إلى أَحدِكُم مِنْ شِراكِ نَعْلِهِ، والنَّارُ مِثْلُ ذلِك23َ».

الثاني عشر: عن أبي فِراس رَبِيعةَ بنِ كَعْبٍ الأسْلَمِيِّ خادِم رسولِ اللَّهِ – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم -، ومِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ -رضي اللَّهُ عنهم – قال: "كُنْتُ أبيتُ مع رسول اللَّه – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم – فآتِيهِ بِوَضوئِهِ، وحاجتِهِ، فقال: «سلْني» فقُلْت: أسْألُكَ مُرافَقَتَكَ في الجنَّةِ، فقالَ: «أوَ غَيْرَ ذلِك؟» قُلْت: أسْألُكَ مُرافَقَتَكَ في الجنَّةِ. فقالَ: «أوَ غَيْرَ ذلِك؟» قُلْت: هو ذَاك. قال: «فأَعِنِّي على نَفْسِكَ بِكَثْرةِ السجُودِ24».

الثالث عشر: عن أبي عبد اللَّه ويُقَالُ: أبُو عبْدِ الرَّحمنِ ثَوْبانَ موْلى رسولِ اللَّهِ – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم – رضي الله عنه – قال: سمِعْتُ رسولَ اللَّه – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم – يقول: ((عليكَ بِكَثْرةِ السُّجُودِ، فإِنَّك لَنْ تَسْجُد للَّهِ سجْدةً إلاَّ رفَعكَ اللَّهُ بِهَا درجةً، وحطَّ عنْكَ بِهَا خَطِيئَة25ً)).

الرابع عشر: عن أبي صَفْوانَ عبدِ اللَّه بن بُسْرٍ الأسلَمِيِّ – رضي اللَّه عنه – قال: قال رسولُ اللَّه – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم -: ((خَيْرُ النَّاسِ مَن طالَ عمُرُه، وَحَسُنَ عملُه26)).

الخامس عشر: عن أنسٍ – رضي اللَّه عنه – قال: غَاب عمِّي أَنَسُ بنُ النَّضْرِ – رضي اللَّهُ عنه – عن قِتالِ بدرٍ، فقال: يا رسولَ اللَّه غِبْت عن أوَّلِ قِتالٍ قَاتلْتَ المُشرِكِينَ، لَئِنِ اللَّهُ أشْهَدَنِي قتالَ المشركين لَيُرِيَنَّ اللَّهُ ما أصنعُ، فلما كانَ يومُ أُحدٍ انْكشَفَ المُسْلِمُون فقال: اللَّهُمَّ أعْتَذِرُ إليْكَ مِمَّا صنَع هَؤُلاءِ (يَعْني أصْحَابَه)، وأبرأُ إلَيْكَ مِمَّا صنعَ هَؤُلاَءِ (يعني المُشْرِكِينَ)، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سعْدُ بْنُ مُعاذٍ، فَقالَ: يا سعْدُ بْنَ معُاذٍ الْجنَّةُ ورَبِّ الكعْبةِ، إِنِى أجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ، قال سعْدٌ: فَمَا اسْتَطعْتُ يا رسول اللَّه ماصنَعَ، قَالَ أنسٌ: فَوجدْنَا بِهِ بِضْعاً وثمانِينَ ضَرْبةً بِالسَّيفِ، أوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ، أو رمْيةً بِسهْمٍ، ووجدْناهُ قَد قُتِلَ وَمثَّلَ بِهِ المُشرِكُونَ فَما عرفَهُ أَحدٌ إِلاَّ أُخْتُهُ بِبنَانِهِ، قال أنسٌ: كُنَّا نَرى أوْ نَظُنُّ أنَّ هَذِهِ الآيَة نزلَتْ فيهِ وَفِي أشْباهِهِ: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجالٌ صدقُوا ما عَاهَدُوا اللَّه علَيهِْ}27"28.

قوله: لَيُريَنَّ اللَّهُ رُوى بضم الياءِ وكسر الراءِ، أي لَيُظْهِرنَّ اللَّهُ ذَلِكَ لِلنَّاسِ، ورُوِى بفتحهما، ومعناه ظاهر، واللَّه أعلم.

السادس عشر: عن أبي مسعود عُقْبَةَ بن عمروٍ الأنصاريِّ البدريِّ – رضي اللَّهُ عنه – قال: "لمَّا نَزَلَتْ آيةُ الصَّدقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ عَلَى ظُهُورِنا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ فَقَالُوا: مُراءٍ، وجاءَ رَجُلٌ آخَرُ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ فقالُوا: إنَّ اللَّه لَغَنِيٌّ عَنْ صاعِ هَذَا، فَنَزَلَتْ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاَّ جُهْدَهُمْ}29 الآية"30، قوله: ونُحَامِلُ بضم النون، وبالحاءِ المهملة: أَيْ يَحْمِلُ أَحَدُنَا على ظَهْرِهِ بِالأجْرَةِ، وَيَتَصَدَّقُ بها.

السابَع عشر: عن سعيدِ بنِ عبدِ العزيزِ، عن رَبيعةَ بنِ يزيدَ، عن أَبِي إدريس الخَوْلاَنيِّ، عن أَبِي ذَرٍّ جُنْدُبِ بنِ جُنَادَةَ -رضي اللَّهُ عنه- عن النَّبِيِّ – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم – فيما يَرْوِى عَنِ اللَّهِ – تباركَ وتعالى – أنه قال: ((يا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً فَلاَ تَظالمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُم ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُوني أهْدكُمْ، يَا عِبَادي كُلُّكُمْ جائعٌ إِلاَّ منْ أطعمتُه فاسْتطْعموني أطعمْكم، يا عبادي كلكم عَارٍ إلاَّ مِنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُوني أكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً فَاسْتَغْفِرُوني أغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّوني، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُوني، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أوَّلَكُمْ وآخِركُمْ، وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أتقَى قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما زادَ ذلكَ فِي مُلكي شيئاً، يا عِبَادِي لو أَنَّ أوَّلكم وآخرَكُم وإنسَكُم وجنكُمْ كَانوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئاً، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِركُمْ وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعيدٍ وَاحدٍ؛ فَسألُوني فَأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسانٍ مَسْألَتَهُ؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا َيَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يَا عِبَادِي إنَّما هِيَ أعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمِدِ اللَّه، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إلاَّ نَفْسَهُ))31 قَالَ سعيدٌ: كان أبو إدريس إذا حدَّثَ بهذا الحديث جَثَا عَلَى رُكبتيه.

الثامن عشر: عن فضالة بن عبيد – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((المجاهد من جاهد نفسه في سبيل الله32)).

قال الشاعر:

وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى             فإن أقمعت تاقت وإلا تسلت

من أقوال علماء السلف في مجاهدة النفس:

عن الجنيد قال: "سمعت السري يقول: "يا معشر الشباب جدوا قبل أن تبلغوا مبلغي فتضعفوا وتقصروا كما ضعفت وقصرت"33.

وقال ابن المبارك: "إنَّ الصالحين كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفواً، وإنَّ أنفسنا لا تواتينا إلا كرهاً"34.

وقال بعض السلف: "جاهدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت" أربعين سنة؟! فبلغ ذلك الكلام بعض العلماء فقال: أَوَقد استقامت؟ يغبطه بعد أربعين سنه أنها استقامت"!

وعن ابن المنكدر- رحمه الله – قال: "كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت"35.

قصص بعض الصحابة الكرام في مجاهدة النفس:

قال علي – رضي الله عنه -: "والله لقد رأيت أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – كانوا يصبحون شعثاً غبراً صفراً، وقد باتوا سجداً وقياماً، يتلون كتاب الله، يراوحون بين أقدامهم وجباههم"36.

وقال أبو الدرداء – رضي الله عنه -: "لولا ثلاث ما أحببت العيش يوماً واحداً: الظمأ لله بالهواجر، والسجود له في جوف الليل، ومجالسة أقوام ينتقون الكلام كما ينتقى أطايب الثمر"37.

عدة المجاهدة:

والمسلم وهو يجاهد نفسه لابد له من عُدَّة يتسلح بها، وأقوى الأسلحة التي يستخدمها المسلم في مجاهدة نفسه سلاح الصبر؛ فمن صبر على جهاد نفسه وهواه وشيطانه غلبهم، وجعل له النصر والغلبة، وملك نفسه فصار ملكاً عزيزاً، ومن جزع ولم يصبر على مجاهدة ذلك غُلب وقُهر وأُسر، وصار عبداً ذليلاً أسيراً في يد شيطانه وهواه كما قيل:

إذا المرء لم يَغْلِبْ هواه أقامهُ                  بمنزلةٍ فيها العزيز ذليلُ

نسأل الله – تعالى – أن يجعلنا من الذين جاهدوا أنفسهم وأهوائهم، وأن يهدينا سبل السلام بمنِّه وكرمه.

والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1 رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (1/54) رقم (24)؛ وصححه ابن حبان في صحيحه (11/204)؛ وأحمد بن حنبل في المسند (6/21) رقم (24004)؛ وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (549).

2 سورة النازعات (40).

3 سورة الحج (78).

4سورة التوبة (41).

5 المفردات في غريب القرآن مادة جهد ص101.

6 سورة العنكبوت (69).

7 تفسير القرطبي (13/365).

8 الفوائد لابن القيم (1/59).

9 سورة المزمل (8).

10 سورة الزلزلة (7).

11 سورة المزمل (20).

12 سورة البقرة (273).

13 رواه البخاري (5/2384) برقم (6137).

14 رواه البخاري (6/2694) برقم (6970).

15 رواه البخاري (5/2357) برقم (6049) كِتَاب الرِّقَاقِ بَاب ما جاء في الصحة والفراغ، وأن لا عَيْشَ إلا عَيْشُ الآخِرَةِ.

16 رواه البخاري (4/1830) برقم (4557).

17 رواه البخاري (2/711) برقم (1920)؛ ومسلم (2/832) برقم (1174)، بَاب الاجتهاد في الْعَشْرِ الأوَاخِرِ من شَهْرِ رَمَضَانَ؛ وصححه ابن خزيمة في صحيحه (3/341) برقم (2214).

18 رواه مسلم (4/2052) برقم (2664) بَاب في الأمْرِ بِالْقُوَّةِ، وَتَرْكِ الْعَجْزِ، والاستعانة بِاللَّهِ، وَتَفْوِيضِ الْمَقَادِيرِ لِلَّهِ.

19 رواه البخاري (5/2379) برقم (6122)؛ ومسلم (4/2174) برقم (2822).

20 رواه مسلم (1/536) برقم (772)؛ والنسائي (3/225) برقم (1664)، وقال الشيخ الألباني: صحيح.

21 صحيح مسلم (1/537) رقم (773)؛ ومسند أحمد بن حنبل (1/ 396) برقم (3766)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

22 صحيح البخاري (5/2388) برقم (6149)؛ وصحيح مسلم (4/2273) برقم (2960).

23 صحيح البخاري (5/2380) برقم (6123)، كتاب الرقائق، بَاب الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إلى أَحَدِكُمْ من شِرَاكِ نَعْلِهِ وَالنَّارُ مِثْلُ ذلك.

24 صحيح مسلم (1/353) برقم (489)، بَاب فَضْلِ السُّجُودِ وَالْحَثِّ عليه.

25 صحيح مسلم (1/353) برقم (488)، بَاب فَضْلِ السُّجُودِ وَالْحَثِّ عليه.

26 سنن الترمذي (4/566) برقم (2330)، وقال: حديثٌ حسنٌ؛ وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته برقم (5607)؛ وفي صحيح الجامع برقم (3296).

27 سورة الأحزاب (23).

28 صحيح البخاري (3 /1032) برقم (2651).

29 سورة التوبة (79).

30 صحيح البخاري (2/513) برقم (1349).

31 صحيح مسلم (4/1994) برقم (2577) بَاب تَحْرِيمِ الظُّلْمِ.

32 مسند أحمد بن حنبل (6/20) برقم (23997)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح.

33 بغية الطلب في تاريخ حلب (9/4220).

34 صفة الصفوة (4/145) ؛ ذم الهوى (1/47).

35 سير أعلام النبلاء (5/355)؛ وتاريخ الإسلام (8/255).

36 إحياء علوم الدين (4/184،411).

37 سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي (2/349).