الأدب وأثره في الدعوة

 

 

الأدب وأثره في الدعوة

الحمد لله واهب الإحسان، المتفضل على الإنس والجان، خلق الإنسان فعلمه البيان، ووهبه لساناً يفصح به عن مكنون الجَنان، ويُبِين به أحسن بيان وأوضح تبيان، والصلاة والسلام على النبي العدنان، أفصح الإنس والجان، وعلى آله وصحبه ما تعاقب الجديدان، وتناوب فينا القمران، أما بعد:

أحبتنا الكرام: هذه رسالة طيبة، وتنبيه مهم، وتوجيه هادف؛ إلى إخواننا الدعاة إلى الله – تعالى -، ممن فرغوا أنفسهم لتبليغ شرع ربهم، ونشر دينهم، والذب والمنافحة عن عقيدتهم ومقدساتهم، فأصبحوا روح الأمة الحي، وقلبها النابض، ونجوم الأرض الهادية، فهم من يسوقون سفينة الأمة إلى برّ النجاة، نهدي هذه الكلمات، ونرفع هذه الإشارات:

فخذها مشعشعةً درة    تفيض على الليل ثوبَ النهارِ

أيها الداعية المسلم الكريم: يقول الحق سبحانه حاكياً دعاء موسى – عليه السلام -: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي}1، وقال أبو وائل: “خطبنا عمار فأوجز وأبلغ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت فلو كنتَ تنفست، فقال: إني سمعت رسول الله   يقول: ((إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته؛ مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحراً))”2

 

قال أبو عمر بن عبد البر: “وقد ذهب هذا القول منه   مثلاً سائراً في الناس؛ إذا سمعوا كلاماً يعجبهم قالوا: إن من البيان لسحراً، ويقولون في مثل هذا أيضاً: هذا السحر الحلال، ونحو ذلك، قد صار هذا مثلاً أيضاً، وروي أن سائلاً سأل عمر بن عبد العزيز حاجة بكلام أعجبه فقال عمر: هذا والله السحر الحلال…، وفي هذا الحديث ما يدل على أن التعجب من الإحسان والبيان موجود في طباع ذوي العقول والبلاغة، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسانة ما لم يخرج إلى حد الإسهاب والإطناب والتفيهق، فقد روي في الثرثارين المتفيهقين أنهم أبغض الناس إلى الله ورسوله”3، “وقيل لعبد الملك بن مروان: عجَّل عليك الشيب يا أمير المؤمنين، قال: شيبني ارتقاء المنابر، وتوقُّع اللحن”4.

ولما “وَفَدَ وَفْدُ بني تميم نادوا رسول الله  من وراء الحجرات: أن اخرج إلينا يا محمد!!، فآذى ذلك من صياحهم رسول الله  ، فخرج إليهم، فقالوا: يا محمد جئناك لنفاخرك، فأذنْ لشاعرنا وخطيبنا، قال: نعم أذنت لخطيبكم فليقل، فقام إليه عطارد بن حاجب فقال: الحمد لله الذي له علينا الفضل وهو أهله، الذي جعلنا ملوكاً، ووهب لنا أموالاً عظاماً نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعزَّ أهل المشرق وأكثره عدداً، وأيسره عدة، فمن مثلنا في الناس؟! ألسنا برؤوس الناس وأولي فضلهم؟! فمن يفاخرنا فليعدد مثل ما عددنا، وإنا لو نشاء لأكثرنا الكلام، ولكنا نحيا من الإكثار فيما أعطانا، وإنا نعرف، أقول هذا الآن لتأتونا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا، ثم جلس، فقال رسول الله   لثابت بن قيس بن شماس أخي بلحارث بن الخزرج: ((قم فأجب الرجل في خطبته))، فقام ثابت فقال: “الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ولم يك شيء قط إلا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكاً، واصطفى من خير خلقه رسولاً، أكرمهم نسباً؛ وأصدقهم حديثاً؛ وأفضلهم حسباً، فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه؛ فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان فآمن برسول الله المهاجرون من قومه، وذوي رحمه، أكرم الناس أنساباً، وأحسن الناس وجوهاً، وخير الناس فعالاً، ثم كان أول الخلق إجابة، واستجاب لله حين دعا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نحن، فنحن أنصار الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبداً، وكان قتله علينا يسيراً، أقول قولي هذا، وأستغفر الله للمؤمنين وللمؤمنات، والسلام عليكم”5

إذا قـال لم يترك مقـــالاً لقائل  بمنتظمــات لا ترى بينها فصلاً
يقول مقالاً لا يقولـــون مثـله     كنحت الصفا لم يُبق في غاية فضلاً
كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع         لذي إربة في القول جداً ولا هزلاً

ثم لما “خلا الوفد بعضهم إلى بعض قال قائل: تعلمن والله أن هذا الرجل مؤيَّد مصنوع له، والله لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعرهم أشعر من شاعرنا، ولهم أحلم منا”6.

فانظر أيها الداعية الموفق كيف غزا هذا الخطيب قلوب هؤلاء المدعوين، واستولى على إعجابهم بأسلوبه الأدبي الرصين، وبلاغته وفصاحته، بل وبسحره البياني الرائع البديع، فكم لتلك الكلمات وتلك الخطبة من أثر في قلوب أولئك المدعوين، ولقد مات ذلك الخطيب منذ مئات السنين – رضي الله عنه -؛ ومازالت خطبته غرة في جبين الأدب؛ يهتدي بها أناس لا يحصَون إلى قيام الساعة.

كيف نحقق الأدب الدعوي؟

“يرى الدكتور عبد الرحمن العشماوي (الأستاذ سابقاً بكلية اللغة العربية في المملكة العربية السعودية) أنه لكي يسهم الأدب في الدعوة إلى الله، ويكون له الأثر الفعال؛ لا بد أن يدرك الأدباء أن للأدب في الإسلام غايات تختلف عن غايات الأدب في غيره، ومن خلال تفهّم تلك الغايات، والسعي لتحقيقيها؛ يتحول الأدب إلى وسيلة من وسائل الدعوة الإسلامية، فغايات الأدب في الإسلام تسمو بالإنسان، وترقى به في مدارج الفضيلة، وتنقي ضميره من شوائب الرذيلة، وتسهم إسهاماً فعالاً في إقامة المجتمع الإسلامي على أسس ثابتة من الحق والخير بما يفتحه أمامه من أفاق ثقافية واسعة تعمل على إيجاد الحوافز البناءة فيه معنوية كانت أم مادية؛ وهي تملأ النفوس بالأمل، وتبعد عنه شبح اليأس والقنوط، كما أنه يمكن من خلالها غرس الولاء الصادق للإسلام شرعة وتاريخاً، وتأكيد العبودية لله – عز وجل -، وهو مع ذلك كله لا يغفل الجانب الروحي الوجداني، ولا الجانب الإمتاعي الترفيهي الذي تتطلع إليه النفس بطبيعتها البشرية، بل كل ذلك أمر مطلوب، وبالتالي فإن الأدب يحقق للدعوة الإسلامية خدمات لا تستطيع تحقيقها الوسائل المادية الأخرى”7.

وأخيراً: إليك أيها الأخ الداعية هذه التجربة العملية لتكون – بإذن الله – لمن حاول أن يطبقها مَنفذاً قريباً إلى واحة الأدب، وأدب الكلمة: “يحكى عن خالد بن عبد الله القسري أنّه قال: قد حفظني أبي ألف خطبةٍ، ثم قال لي: تناسها، فتناسيتها، فلم أُرِد بعد ذلك شيئاً من الكلام إّلا سَهُل عليّ؛ فكان حفظه لتلك الخطب رياضةً لفهمه، وتهذيباً لطبعه، وتلقيحاً لذهنه، ومادة لفصاحته، وسبباً لبلاغته، ولسنه، ولخطابته”8.

والحمد لله رب العالمين.


1 سورة طه (27).

2 رواه مسلم برقم (2046).

3 التمهيد (5/174-175).

4 نهاية الأرب في فنون الأدب (2/30).

5 تاريخ الأمم والرسل والملوك للطبري (2/188-189).

6 مغازي الواقدي (1/980).

7 من مقال بعنوان: “الأدب هل يعود وسيلة دعوية ناجحة؟ الرياض . وائل الظواهري. وهو على الرابط التالي: http://www.bab.com/articles/full_article.cfm?id=8172

8 البصائر والذخائر لأبي حيان علي بن محمد بن العباس التوحيدي (7/97).