الطموح عند الشباب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
يفكر الشباب اليوم في أمور يريدون السعي لتحقيقها، ويطمحون لأن يكونوا ويكونوا…إلخ، لذلك فالحديث عندهم حديث عن المستقبل والتحديات المقبلة، حيث تواجههم الصعوبات الجمة، والمعوقات الكبيرة التي تعترض سبيلهم، وتساهم في إعاقتهم، والوقوف دون أن يصلوا إلى أي نتيجة تذكر، وهكذا تكثر الأحاديث حول طموح وهموم الشباب في ظل المتغيرات الاجتماعية في العصر الحديث.
وبعد أن غزت الثقافات الوافدة من خارج الإسلام أبناءَ الإسلام؛ أدت إلى بعض التصدعات داخل الأسرة، الأمر الذي غيَّر من شكل العلاقات الأسرية والاجتماعية، فاهتزت بعض القيم والمبادئ لدى الشباب، وظهرت هموم ومشكلات لم تكن من قبل، وسببت تغيير الاتجاه السليم عند الشباب تحت مسمى طموح الشباب للمستقبل، وصار الهمُّ لديهم في هذا هو همٌّ مادي، وطموح متدني، ما أدى إلى إيجاد مشاكل لدى الشباب نتيجة للإحباط النفسي لديه، حتى بلغ به الحال إلى أن وصل بعضهم إلى الاتكالية، وقبول الثقافة الدخيلة على المجتمع المسلم، والعيش في عالم الخيال، وقلَّة أو ندرة الشباب والنوعية المشرقة للمجتمع المسلم من الذين تستفيد الأمة منهم في عدة مجالات، وكان ذلك كذلك لأن من كان همه مادياً فلن ينظر إلا في مصلحة نفسه، ومن ثم فإنه لا ينتفع منه الآخرون، ومن كان طموحه متدنياً فلن يفكر كيف ينفع أمته ودينه، ومن ثم سيقف على قارعة الطريق يشرب من سيل الحضارة الوافدة لا يفرق بين الماء والزبد، وأيضاً فإن من يحمل الهمَّ المادي يكون أصلاً قد اكتسب بذلك طموحاً متدنياً؛ فهو نتيجة حتمية عنه، ولن يسعى مثل هذا في أمر يجلب له منافع معنوية؛ حيث لا يعتبرها مكاسب.
وأما بالنسبة لعامة الشباب فإنه مصاب بالإحباط واليأس، حتى أصبح شعاره هو المثل الشهير:
ما كل ما يتمناه المرء يدركه تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن
وهذا هو الواقع الذي نعيشه وتعيشه فئة كبيرة من الناس – وبخاصة الشباب -.
ولو قمنا بالمقارنة بين شبابنا وشباب الرعيل الأول لوجدنا الفوارق الكثيرة، والتباين الواضح، ولوجدنا أن الطموح الذي سطره وتمثله أصحاب النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – هو الطموح الحقيقي، وفيما يلي نستعرض هذا في أكثر من حادثة وقعت في أوساط الصحابة، وعبر أكثر من مجال، ومن تلك الصور:
أولاً: طموح إلى الربانية:
فقد كان الشباب يتطلع الواحد منهم إلى أن يكون العالم الرباني؛ وهذا كثير في حياة الصحابة، ولعل خير مثال من الصحابة هو الصحابي الجليل أبو هريرة – رضي الله عنه -، فقد مكث عند النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – ليتعلم ويطلب الحديث من النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – حتى أصبح من الصحابة المكثرين، وحتى قال عن نفسه: "كان أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – يلهيهم الصفق في الأسواق، وكنت أصحب النبي – صلى الله عليه وسلم – على شبع بطني"1.
وكذلك كان أبو موسى الأشعري – رضي الله عنه – حتى قال عمر – رضي الله عنه -: "أَخَفِيَ هَذَا عَلَيَّ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ (يَعْنِي الْخُرُوجَ إِلَى تِجَارَةٍ)"2.
ثانياً: طموح إلى الجنة:
ومن الطموحات لهؤلاء النفر أيضاً دخول الجنة، ويبرز ذلك جلياً في قصة عكاشة بن محصن – رضي الله عنه – فعن أَبي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: ((يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ هُمْ سَبْعُونَ أَلْفاً تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الْأَسَدِيُّ يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ))3.
ثالثاً: الطموح إلى المنازل العالية:
فعن ربيعة بن كعب – رضي الله عنه – قال: ((كنت أخدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع حتى يصلي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – العشاء الآخرة، فأجلس ببابه إذا دخل بيته أقول: لعلها أن تحدث لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – حاجة، فما أزال أسمعه يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله وبحمده حتى أملُّ، فأرجع أو تغلبني عيني فأرقد، قال: فقال لي يوماً لما يرى من خفتي له، وخدمتي إياه: سلني يا ربيعة أعطك؟ قال: فقلت أنظر في أمري يا رسول الله، ثم أعلمك ذلك!! قال: ففكرت في نفسي فعرفت أن الدنيا منقطعة زائلة، وأن لي فيها رزقاً سيكفيني ويأتيني، قال: فقلت أسأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لآخرتي، فإنه من الله – عز وجل – بالمنزل الذي هو به، قال: فجئت فقال: ما فعلت يا ربيعة؟ قال: فقلت نعم يا رسول الله، أسألك أن تشفع لي إلى ربك فيعتقني من النار، قال: فقال من أمرك بهذا يا ربيعة؟ قال: فقلت لا والله الذي بعثك بالحق ما أمرني به أحد، ولكنك لما قلت سلني أعطك، وكنت من الله بالمنزل الذي أنت به؛ نظرت في أمري، وعرفت أن الدنيا منقطعة وزائلة، وأن لي فيها رزقاً سيأتيني، فقلت: أسأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لآخرتي، قال: فصمت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – طويلاً ثم قال لي: إني فاعل فأعني على نفسك بكثرة السجود))4.
هذا هو الطموح الحقيقي، وهذه هي الهمم العالية التي تعرف ما يصلح حالها، ولا نعني بهذا الكلام أن يترك الشباب الجد والمثابرة، والسعي وراء الأهداف التي ينشدونها، ثم ينقطعوا للعبادة في المساجد أو الخلوات، لا، لكن الذي نعنيه بهذا الكلام أن يجعل الشباب طموحهم الدنيوي في إرضاء الله – عز وجل -، وألا يغفلوا عن الواجب الذي أوكل إليهم، فهم ذخر هذه الأمة وشريانها، وما أجمل أن نجد التاجر الملتزم بدينه، والطبيب المتدين، والمهندس الملتزم كما وجد من الصحابة القائد، والتاجر، وغيره.
نسأل الله – عز وجل – أن يهدينا سواء السبيل، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.