الصدقة المردودة

الصدقة المردودة

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد حث الله -تبارك وتعالى- عباده على إتمام العمل الصالح وإتقانه، وحذرهم من إبطاله وإفساده؛ بأي مفسد من المفسدات؛ كالمن والأذى في الصدقة، ومراءاة الناس بالعمل والإعجاب به؛ يقول رب العزة والجلال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} سورة البقرة(264).

شرح الآية:

في هذه الآية الكريمة يوجه الله تبارك وتعالى الخطاب إلى عباده المؤمنين؛ فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وتصدير الخطاب بالنداء يدل على الاهتمام به؛ لأن النداء يحصل به تنبيه المخاطب؛ فيدل على العناية بموضوع الخطاب؛ ولهذا قال ابن مسعود: "إذا سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا} فأرعها سمعك: فإنه خير تؤمر به؛ أو شر تنهى عنه"1، وصدق -رضي الله عنه-.

كما أن في توجيه النداء للمؤمنين بوصف الإيمان فوائد عدة: الفائدة الأولى: الحث على قبول ما يلقى إليهم، وامتثاله؛ وجه ذلك: أنه إذا علق الحكم بوصف كان ذلك الوصف علة للتأثر به؛ كأنه يقول: يا أيها الذين آمنوا لإيمانكم افعلوا كذا، وكذا؛ أو لا تفعلوا كذا. الفائدة الثانية: أن ما ذكر يكون من مكملات الإيمان ومقتضياته. الفائدة الثالثة: أن مخالفة ما ذكر نقص في الإيمان.

فقد نهى الله عباده في هذه الآية عن إبطال صدقاتهم وإفسادها بالمنّ والأذى، فقال تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ} أي أجور صدقاتكم {بِالْمَنِّ} على السائل، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- بالمن على الله تعالى {وَالْأَذَى} لصاحبها.. والإبطال للشيء يكون بعد وجوده؛ فالبطلان لا يكون غالباً إلا فيما تم؛ و "الصدقات" جمع صدقة؛ وهي ما يبذله الإنسان تقرباً إلى الله.

ثم ضرب الله لذلك مثلا فقال: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ} أي كإبطال الذي ينفق ماله: {رِئَاءَ النَّاسِ} أي مراءاة وسمعة ليروا نفقته ويقولوا إنه كريم سخي {وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أي أنتم وإن قصدتم بذلك وجه الله في ابتداء الأمر، فإن المنة والأذى مبطلان لأعمالكم، فتصير أعمالكم بمنزلة الذي يعمل لمراءاة الناس ولا يريد به الله والدار الآخرة، فهذا لا شك أن عمله من أصله مردود، لأن شرط العمل أن يكون لله وحده وهذا في الحقيقة عمل للناس لا لله، فأعماله باطلة وسعيه غير مشكور، فمثله المطابق لحاله {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} وهو الحجر الأملس الشديد {عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} أي مطر غزير {فَتَرَكَهُ صَلْداً} أي ليس عليه شيء من التراب، فكذلك حال هذا المرائي، قلبه غليظ قاس بمنزلة الصفوان، وصدقته ونحوها من أعماله بمنزلة التراب الذي على الصفوان، إذا رآه الجاهل بحاله ظن أنه أرض زكية قابلة للنبات، فإذا انكشفت حقيقة حاله زال ذلك التراب وتبين أن عمله بمنزلة السراب، وأن قلبه غير صالح لنبات الزرع وزكائه عليه، بل الرياء الذي فيه والإرادات الخبيثة تمنع من انتفاعه بشيء من عمله، فلهذا {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} من أعمالهم التي اكتسبوها، لأنهم وضعوها في غير موضعها وجعلوها لمخلوق مثلهم، لا يملك لهم ضرا ولا نفعا وانصرفوا عن عبادة من تنفعهم عبادته، فصرف الله قلوبهم عن الهداية، فلهذا قال: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} أي لا يهدي سبحانه الكافرين هداية توفيق؛ أما هداية الدلالة فإنه سبحانه لم يَدَع أمة إلا بعث فيها نبياً؛ لكن الكافر لا يوفقه الله لقبول الحق؛ و{الْكَافِرِينَ} أي الذين حقت عليهم كلمة الله؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} سورة يونس(96)(97).

اعتراضات وجوابها:

قد يقال: إنّ المن والأذى المقارن للصدقة هو الذي يبطلها دون ما يلحقها بعدها إلا أنه ليس في اللفظ ما يدل على هذا التقييد، والسياق يدل على إبطالها به مطلقا، وقد يقال تمثيله بالمرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر يدل على أن المن والأذى المبطل هو المقارن كالرياء وعدم الإيمان، فإن الرياء لو تأخر عن العمل لم يبطله. ويجاب عن هذا بجوابين: أحدهما: أن التشبيه وقع في الحال التي يحبط بها العمل، وهي حال المرائي والمان المؤذي في أن كل واحد منهما يحبط العمل. الثاني: أن الرياء لا يكون إلا مقارنا للعمل لأنه فعال من الرؤية التي صاحبها يعمل ليرى الناس عمله، فلا يكون متراخياً، وهذا بخلاف المن والأذى فإنه يكون مقارنا ومتراخيا وتراخيه أكثر من مقارنته. وقوله (كالذي ينفق) إما أن يكون المعنى كإبطال الذي ينفق فيكون شبه الإبطال بالإبطال أو المعنى لا تكونوا كالذي ينفق ماله رئاء الناس، فيكون تشبيها للمنفق بالمنفق2.

فائــدة:

إن الأعمال الصالحة إذا شابتها بعض المفسدات فإنها تفسدها وتبطلها، ومن مفسدات الأعمال الصالحة: المنّ والأذى والرياء، فالرياء يمنع انعقادها سببا للثواب، والمن والأذى يبطل الثواب الذي كان سببا له، فمثل صاحبها وبطلان عمله كمثل صفوان وهو الحجر الأملس عليه تراب فأصابه وابل وهو المطر الشديد فتركه صلدا لا شيء عليه، وتأمل جزاء هذا المثل البليغ وانطباقها على أجزاء الممثل به تعرف عظمة القرآن وجلالته فإن الحجر في مقابلة قلب هذا المرائي والمان والمؤذي فقلبه في مثل ما ينفقون كمثل ريح قسوته عن الإيمان والإخلاص والإحسان بمنزلة الحجر والعمل الذي لغير الله، بمنزلة التراب الذي على ذلك الحجر، فقوة ما تحته وصلابته تمنعه من الثبات والنبات عند نزول الوابل فليس له مادة متصلة بالذي يقبل الماء وينبت الكلأ، وكذلك قلب المرائي ليس له ثبات عند وابل الأمر والنهي والقضاء والقدر، فإذا نزل عليه وابل الوحي انكشف عنه ذلك التراب اليسير الذي كان عليه فبرز ما تحته حجرا صلدا لا نبات فيه وهذا مثل ضربه الله سبحانه لعمل المرائي ونفقته لا يقدر يوم القيامة على ثواب شيء منه أحوج ما كان إليه، وبالله التوفيق3..

 

بعض الفوائد من الآية:

1.    تحريم المن والأذى في الصدقة، وأن ذلك يبطل ثوابها؛ لقوله تعالى: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى}.

2.  في هذه الآية دليل على أن الحسنة قد تحبط بالسيئة مع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} سورة الحجرات(2).

3.  بلاغة القرآن، حيث جاء النهي عن المنّ، والأذى بالصدقة بهذه الصيغة التي توجب النفور؛ وهي: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} فإنها أشد وقعاً من "لا تَمُنّوا، ولا تؤذوا بالصدقة".

4.  أن المنّ والأذى بالصدقة مناف لكمال الإيمان؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} كأنه يقول: "إن مقتضى إيمانكم ألا تفعلوا ذلك؛ وإذا فعلتموه صار منافياً لهذا الوصف، ومنافياً لكماله".

5.    تشبيه المعقول بالمحسوس ليقربه إلى الذهن؛ لقوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ…} إلخ.

6.  تحريم مراءاة الناس بالعمل الصالح؛ لقوله تعالى: {كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ} والتسميع كالمراءاة؛ والفرق بينهما أن المراءاة فيما يُرى -كالأفعال- والتسميع بما يقال.

7.  أن من راءى الناس بإنفاقه ففي إيمانه بالله وباليوم الآخر نقص؛ لقوله تعالى: {وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ لأن الذي يرائي لو كان مؤمناً بالله حق الإيمان لجعل عمله لله خالصاً لله؛ ولو كان يؤمن باليوم الآخر حق الإيمان لم يجعل عمل الآخرة للدنيا؛ لأن مراءاة الناس قد يكسب بها الإنسان جاهاً في الدنيا فقط؛ مع أنه لا بد أن يتبين أمره؛ وإذا تبين أنه مراءٍ نزلت قيمته في أعين الناس..

8.  أن الرياء مبطل للعمل؛ وهو نوع من الشرك؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)4؛ فإن قصد بعمله إذا رآه الناس أن يتأسوا به، ويسارعوا فيه فهي نية حسنة لا تنافي الإخلاص؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى على المنبر، وقال: (إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلَّموا صلاتي)5؛ وفي الحج كان صلى الله عليه وسلم يقول: (لتأخذوا مناسككم)6؛ وهو داخل في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)7.

9.  الإشارة إلى تحسر هؤلاء عند احتياجهم إلى العمل، وعجزهم عنه؛ لقوله تعالى: {لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وعجز الإنسان عن الشيء بعد محاولة القدرة عليه أشد حسرة من عدمه بالكلية..

10.  أن من قضى الله عليه بالكفر لا تمكن هدايته؛ لقوله تعالى: {وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ فإن قلت: كيف تجمع بين هذا وبين الواقع من أن الله -سبحانه وتعالى- هدى قوماً كافرين كثيرين؟ فالجواب أن من هدى الله لم تكن حقت عليهم كلمة الله؛ فأما من حقت عليه كلمة الله فلن يُهْدى؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ}8 سورة يونس(96)(97).

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


 


1 تفسير ابن كثير(1/91).

2 طريق الهجرتين وباب السعادتين(1/544- 545). لابن القيم.

3 إعلام الموقعين عن رب العالمين(1/185 – 186).

4 رواه مسلم من حديث أبي هريرة.

5 رواه البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد.

6 رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله.

7 رواه مسلم.

8 يراجع: تفسير القرآن العظيم(1/425) والجامع لأحكام القرآن(3/295). ومعالم التنزيل(326). وتفسير ابن عثيمين، المجلد الثالث.