القرآن بين المسلمين

القرآن بين المسلمين

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

نزل القرآن الكريم على الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – في زمن شاع فيه الكفر والجهل، وساد فيه الظلم بشتى صوره وأنواعه، فلما جاء الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – بالدين الإسلامي، وبالقرآن الكريم؛ استنارت العقول المظلمة، واهتدت به النفوس الضالة، وتفتحت به القلوب المغلقة، فضبط السلوك، وهذب الأخلاق، وأزال الشرك المنتشر في أوساط المجتمع آنذاك.

وحين انتشرت الدعوة، واستجاب لهذا الدين فئام من الناس اختارهم الله – عز وجل – واصطفاهم لأن يكونوا هم حملة هذا الكتاب الكريم، والمبلغين لهذا المنهج الرباني، والمزيلين للشرك والوثنية المنتشرة بالحجة الواضحة، و{بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}1، فلما كانوا هم من اختارهم الله لحمل هذا الكتاب، والدعوة إليه؛ فقد أخذوا هذا الكتاب بقوة، وتحملوه بحقه، حتى صاروا بعد أن كانوا طغاة متجبرين، يخافهم كل من يراهم، وبمجرد أن أسلموا وامنوا بالله – عز وجل – صار على وجوههم خطين أسودين من كثرة البكاء من خشية الله – عز وجل -، بل بلغ بهم الحال كما ذكر أبو عبد الرحمن السلمي – رحمه الله – في قوله: "إنا أخذنا القرآن عن قوم (وهم الصحابة)، فأخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الأخر حتى يعملوا ما فيهن من العلم، قال: فتعلمنا العلم والعمل جميعاً"2، فكان نتيجة أخذهم الكتاب بحقه أن سادوا الأمم، وفتحوا الأمصار، ونشروا الدعوة في أرجاء الأرض حتى وصل الدين إلى كل بقعة، وساد الإسلام في كل المعمورة، فلم يتخبط الناس في الضلالات والبدع والأهواء؛ لأن القرآن الكريم كان دستورهم، ومنهاج حياتهم كما حكى الله – عز وجل – بقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً}3، وبهذه الآية "يمدح – تعالى – كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله محمد – صلى الله عليه وسلم – وهو القرآن بأنه يهدي لأقوم الطرق، وأوضح السبل، {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ} به، {الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} على مقتضاه، {أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً } أي: يوم القيامة"4.

وهدايته لأقوم الطرق كانت لأنه كتاب رباني، منزل من الله – تبارك وتعالى – فهو كما قال الله – تعالى -: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}5، وهذا مما اختص الله – عز وجل – به هذه الأمة المباركة، حيث أنزل عليها أفضل كتبه المتعبد بتلاوته, ورتب – سبحانه – على مجرد قراءته أجوراً عظيمة فضلاً عن تدبره والعمل به, فهو حبل الله الموصل إلى رضوانه وجنته – تبارك وتعالى-، وقد تكفل – سبحانه – بحفظه وصيانته من الضياع والاندثار، والتحريف والتبديل؛ إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وتحدى الله – عز وجل – الأمة انسها وجنها على أن يأتوا بمثله أو أن يأتوا بآية واحدة في مثل فصاحة القرآن وبلاغته، وشموله لكل مناحي الحياة {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}6؛ فإن هذا القرآن نزل على محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – من عند الله العزيز الحكيم العالم بما يصلح العباد والبلاد على مختلف الأماكن والأزمنة: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}7، هذا هو حال أسلافنا الأوائل مع القرآن الكريم، فما حالنا اليوم مع هذا الكتاب العزيز؟.

إن حال الأمة جمعاء – إلا من رحم الله – قد سطره أبو عبد الرحمن السلمي – رحمه الله تعالى – في كلمات تصف الحال الذي وقع فيه كثير من أبناء المسلمين اليوم حيث قال: "وإنه سيرث هذا القرآن قوم بعدنا يشربونه كشربهم الماء، لا يجاوز تراقيهم، قال: بل لا يجاوز ههنا ووضع يده تحت حنكه"8.

إن الأمة اليوم لا تعاني من قلة المقارئ، ولا قلة التالين للقرآن الكريم، بل على العكس، فنحن نعيش اليوم واقعاً مليئاً بالقراء والحفظة، والتالين للقرآن الكريم؛ إلا أن هذه التلاوة، وهؤلاء الحفظة لكتاب الله – عز وجل – يعانون من قضية مهمة هم غافلون عنها أو متغافلون ألا وهي قضية الارتباط بالقرآن، وجعله منهجاً، وسلوكاً في الحياة، وهذه القضية لها أثرها الكبير على حياة الفرد، ومن ثم على حياة الأمة.

فالأمة اليوم تعيش وهناً وضعفاً لم تمر بمثله في تاريخها، وكل المهتمين بواقع الأمة يبحثون عن العلاج، والحل لهذه القضية، والعلاج يكمن في القرآن؛ لأن الله – عز وجل – يقرر في كتابه الكريم أنه الهادي: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}9، والكل منا يرجو السلامة والنجاة من المضلات والفتن التي تتابع على الأمة فتزل فيها الأقدام، ويؤكد النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – هذه الحقيقة بقوله: ((وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بينا: كتاب الله، وسنة نبيه))10، فهو المخرج إذن من الفتن، والواقي من الضلالة، ولو تمسكت الأمة بكتاب الله – عز وجل – لما وقعت فيما وقعت فيه اليوم من الذل والهوان.

ولقد علم الصحابة – رضي الله عنهم – هذا الأمر حق علمه، حتى سطره عمر بن الخطاب – رضوان الله عليه – بكلمات تكتب بماء الذهب حين قال: "إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فلن نبتغي العز بغيره"11، وبهذا امتن الله – عز وجل – على المسلمين بقوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ} "قال قتادة بن دِعَامة السَّدوسي – رحمه الله -: كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذُلاً، وأشقاه عَيْشاً، وأجوعه بطوناً، وأعراه جلوداً، وأبينه ضلالاً، مكعومين على رأس حجر، بين الأسدين فارس والروم، ولا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيّاً، ومن مات منهم رُدِّيَ في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قَبِيلاً من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلاً منهم، حتى جاء الله بالإسلام، فمكَّن به في البلاد، ووسَّع به في الرزق، وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم مُنْعِم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله – تعالى -"12.

فمتى تمسكنا بديننا، وكتاب ربنا – عز وجل -؛ أعزنا الله، والعكس بالعكس، فعلى العبد أن يسعى لتحقيق القرآن واقعاً ملموساً في النفس، والبيت، والمجتمع، وليتأس بالنبي – صلى الله عليه وآله وسلم – وصحابته الكرام – رضي الله عنهم -.

وفي الأخير فإن المسؤولية الكبيرة تقع على كواهل أهل العلم، ومن أقدرهم الله على صنع القرار، أو المشاركة فيه، أو التأثير عليه؛ بأنْ يُولوا هذا المشروع وهو تحقيق كتاب الله واقعاً ملموساً في المجتمع، والعناية التامة حتى يرى النور, وتنعم الأمة بضبط كتاب ربها تلاوة وتجويداً وسلوكاً، ونسأل الله – عز وجل – بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى؛ أن يرد المسلمين إلى دينهم وكتاب ربهم رداً جميلاً, وأن ينفعنا ويرفعنا بالقرآن الكريم, وأن يهدينا لما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأن يرزقنا العمل به وفهمه، وألا يجعل حظنا فيه إقامة حروفه فقط.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.


 


1 سورة النحل (125).

2 فضائل القرآن للفريابي (1/165).

3 سورة الإسراء (9).

4 تفسير ابن كثير (5/48).

5 سورة النحل (89).

6 سورة الإسراء (88).

7 سورة النمل (6).

8 فضائل القرآن للفريابي (1/165).

9 سورة الإسراء (9).

10 سيرة ابن هشام (2/603).

11 المستدرك (1/130)، وهو في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/8).

12 تفسير ابن كثير (4/40).