بيع المياه

بيـع المـياه

 

الحمد لله رب العالمين، الذي خلق الإنسان من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وجعل له السمع والبصر، واللسان والشفتين، وصلى الله على نبينا محمد الصادق الأمين خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

مما زخرت به كتب الفقه، وذكره العلماء الفقهاء في فقه البيع أنه يشترط في المعقود عليه كونه مالاً محرزاً أي مملوكاً لواحد من الناس، فلا ينعقد بيع شيء غير محرز كالماء، والهواء، والتراب، فما المقصود بالماء، وما مذاهب العلماء في تملكه وبيعه؟

قال الحنفية: المياه أربعة أنواع:

الأول: ماء البحار: وهو مشاع لجميع الناس، ولكل إنسان حق الانتفاع به على أي وجه شاء كالانتفاع بالشمس والقمر والهواء، فله أن ينتفع به لحوائجه الخاصة، ولسقاية أراضيه، أي أن له ما يسمى بحق الشَفة، وحق الشِّرب، أو سقي الأراضي الزراعية، والأشجار.

الثاني ماء الأودية العظام: مثل أنهار دجلة والفرات، والنيل وبردى، والعاصي وسيحون، وجيحون ونحوها من الأنهار العامة، وللناس فيها حق الشفة مطلقاً، وحق سقي الأراضي إن لم يضر السقي بمصلحة الجماعة، فإن أضر بهم فلا يجوز السقي؛ لأن دفع الضرر العام واجب، ويجوز أيضاً تركيب المطاحن المائية على هذه الأنهار إن لم يكن هناك ضرر عام.

الثالث الماء المملوك لجماعة مخصوصة، كأهل قرية تختص بنهر صغير أو عين ماء أو بئر، ومنه الماء المأخوذ من الأنهار العامة الذي يجري في المقاسم أي المجاري المملوكة بشق الجداول ونحوها، ويثبت فيه لكل إنسان حق الشفة فقط؛ للضرورة المقتضية إباحته لاحتياج الناس إليه، ولعدم إمكان استصحاب الماء إلى كل مكان.

الرابع الماء المحرز في الأواني: وهو مملوك لمن أحرزه، ولا حق فيه لأحد غير صاحبه، ولا يجوز الانتفاع به إلا بإذن مالكه.

يظهر من هذا أن الماء بالنسبة للتملك والبيع إما مباح، أو غير مباح، والمباح حق للجميع لقوله – صلّى الله عليه وسلم -: (المسلمون شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار)1، والمقصود بالمباح: ما يشمل النوعين الأولين، وهو ما لا يختص به أحد من الناس. وغير المباح أو المملوك: هو ما يدخل تحت الملكية سواء أكانت لفرد أم لجماعة، ويشمل النوعين الآخرين.

وهذا هو المعنى المقصود أيضاً عند المالكية والشافعية والحنابلة، وقد يسمى هذان النوعان: الماء الخاص، والماء العام، فالأول: هو الماء المتملك في الأرض المملوكة كالبئر والعين، والثاني: هو غير المتملك في أرض غير مملوكة كالأنهار والعيون.

حكم بيع الماء: اتفق العلماء على أنه يستحب بذل الماء بغير ثمن حتى ولو كان مملوكاً، ولا يجبر المالك على بذل الماء إلا في حال الضرورة بأن يكون قوم اشتد بهم العطش فخافوا الموت، فيجب عليه سقيهم، فإن منعهم فلهم أن يقاتلوه عليه.

ولكن الحنفية فصلوا فيما يباح به القتال، فقالوا: يجوز للمضطر أن يقاتل بالسلاح مالك الماء في الحوض أو البئر أو النهر الذي في ملكه؛ لأنه قصد إتلافه بمنع حقه وهو الشفة، والماء في البئر مباح غير مملوك، أما إن كان الماء محرزاً في الأواني فيقاتل المضطر بغير السلاح، ويضمن له ما أخذ كما في حال أخذ الطعام عند المخمصة، لأن حل الأخذ للاضطرار لا ينافي الضمان، هذا إذا كان الماء فاضلاً عن حاجة مالكه بأن كان يكفي لدفع الرمق لكل منهما، وإلا وجب تركه لمالكه2.

أما بيع الماء فللعلماء فيه رأيان مشهوران: رأي الجمهور، ورأي الظاهرية.

أولاً قال جمهور العلماء3: يجوز بيع غير المباح للناس جميعاً كماء البئر والعين، والمحرز في الأواني ونحوها، ولصاحبه أن ينتفع به لنفسه، ويمنع غيره من الانتفاع، فله أن يمنع صاحب الحق في الشفة من الدخول في ملكه إذا كان يجد ماء بقربه، فإن لم يجد يقال لصاحب البئر ونحوه: إما أن تخرج الماء إليه، أو تتركه ليأخذ الماء.

واستدلوا على الجواز بدليلين:

1- ثبت في الحديث الصحيح أن عثمان بن عفان – رضي الله عنه – اشترى بئر رُومة من اليهودي في المدينة، وسبّلها أو حبسها على المسلمين وذلك بعد أن سمع النبي – صلّى الله عليه وسلم – يقول: (من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه من دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟)4، وكان اليهودي يبيع ماءها للناس، فهذا الحديث كما يدل على جواز بيع البئر نفسها، وكذلك العين بالقياس عليها يدل على جواز بيع الماء لتقريره – صلّى الله عليه وسلم – اليهودي على البيع، ونوقش هذا بأنه كان في صدر الإسلام، وكانت شوكة اليهود في ذلك الوقت قوية، والنبي – صلّى الله عليه وسلم – صالحهم في مبدأ الأمر على ما كانوا عليه، ثم استقرت أحكام الشريعة التي شرع فيها للأمة تحريم بيع الماء، ثم إن الماء هنا داخل في البيع تبعاً لبيع البئر وهذا لا خلاف فيه.5

2- يقاس بيع الماء المباح على بيع الحطب بعد إحرازه، فإن النبي – صلّى الله عليه وسلم – أقر بيعه بقوله: (لأن يأخذ أحدكم حبله، ثم يغدو إلى الجبل، فيحتطب، فيبيع، فيأكل ويتصدق؛ خير له من أن يسأل الناس)6، ونوقش ذلك بأن تخصيص النص بالقياس مختلف فيه بين علماء الأصول، وبأن هذا القياس يقتضي جواز بيع الماء المحرز فقط دون ماء البئر ونحوه.

ثانياً: قال الظاهرية7: لا يحل بيع الماء مطلقاً لا في ساقية ولا في نهر، ولا في عين، ولا في بئر، ولا في صهريج، ولا مجموعاً في قربة ولا في إناء، إلا أن تباع البئر كلها، أو جزء مسمى منها، فيجوز البيع حينئذ، ويدخل الماء تبعاً للمبيع الأصلي.

وقال أحمد في رواية عنه: لا يعجبني بيع الماء البتة.

واحتج هؤلاء على المنع بما يأتي:

1- ثبت أن النبي – صلّى الله عليه وسلم – قال: (لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ)8 فهذا النفي يدل على النهي عن بيع الماء الزائد عن الحاجة، ونوقش ذلك بأن النهي قد ورد على حالة خاصة: وهي أن يقصد ببيع الماء حماية الكلأ الذي حوله، ويحتاج إليه الرعاء لرعي مواشيهم له.

2- صح أن النبي – صلّى الله عليه وسلم – "نهى عن بيع فضل الماء"9 هذا الحديث صريح بتحريم بيع فضل الماء وهو الفاضل عن كفاية صاحبه، سواء أكان في أرض مباحة، أم في أرض مملوكة، وسواء أكان للشرب أم لغيره، ونوقش ذلك بأنه معارض بحديث بئر رومة السابق ذكره، أو بأنه محمول على حالة خاصة كما ذكر.

يقول د. وهبة الزحيلي: "وإني أرى أن النهي عن بيع فضل الماء يقصد به الماء الكثير كماء الآبار والعيون والأمطار التي تجتمع في أرض مملوكة، ويكون منعها عبثاً لا معنى له".10

يقول النووي في شرح حديث النهي عن بيع فضل الماء:

"أما النهي عن بيع فضل الماء ليمنع بها الكلأ فمعناه أن تكون لإنسان بئر مملوكة له بالفلاة، وفيها ماء فاضل عن حاجته، ويكون هناك كلأ ليس عنده ماء إلا هذه، فلا يمكن أصحاب المواشي رعيه إلا إذا حصل لهم السقي من هذه البئر، فيحرم عليه منع فضل هذا الماء للماشية، ويجب بذله لها بلا عوض، لأنه إذا منع بذله امتنع الناس من رعي ذلك الكلأ خوفاً على مواشيهم من العطش، ويكون بمنعه الماء مانعاً من رعي الكلأ.. قال أصحابنا: يجب بذل فضل الماء بالفلاة كما ذكرناه بشروط:

أحدها: أن لا يكون ماء آخر يستغنى به.

والثاني: أن يكون البذل لحاجة الماشية لا لسقي الزرع.

والثالث: أن لا يكون مالكه محتاجاً إليه.

واعلم أن المذهب الصحيح أن من نبع في ملكه ماء صار مملوكاً له، وقال بعض أصحابنا: لا يملكه، أما إذا أخذ الماء في إناء من الماء المباح فإنه يملكه هذا هو الصواب، وقد نقل بعضهم الإجماع عليه، وقال بعض أصحابنا: لا يملكه بل يكون أخص به، وهذا غلط ظاهر".11

هذا ما أمكن الكلام عليه فيما يتعلق بحكم بيع الماء، والله تعالى أعلم.


 


1 رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وهو حديث صحيح. صححه الألباني في مواضع عدة، وغيره.

2 رد المحتار والدر المختار: 5 ص 313، تكملة فتح القدير: 8 ص 145 .

3  البدائع: 5 ص 146، رد المحتار: 5ص311-312، 4ص6، القوانين الفقهية: ص339، المهذب، المكان السابق، المجموع: 9ص278، المغني: 4ص79، غاية المنتهى: 2ص9، 277.

4 رواه الترمذي والنسائي والدارقطني والبيهقي، وصححه الألباني في صحيح النسائي.

5 نيل الأوطار: 5 ص 146.

6 رواه البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجه والنسائي عن أبي هريرة.

7 المحلى: 9 ص 8 .

8 رواه البخاري ومسلم واللفظ له.

9 رواه مسلم.

10 كل ما سبق نقلاً عن الفقه الإسلامي وأدلته (5/ 121-125).

11 شرح النووي على مسلم (10/ 229).