اللعـن
الحمد لله رب العالمين، عم بنعمته الخلائق كلها، على مدار الأعوام والسنين، وأكمل دين الإسلام ورضيه ديناً لعباده المؤمنين..
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الصادق الأمين، وعلى آله الطيبين وصحابته الأكرمين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، أما بعد:
فلما كان معنى اللعن هو الطرد من رحمة الله تعالى والبعد عنه، ولما كان لعن المسلم كقتله كما في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- ولعنه أي الدعاء عليه بالطرد من رحمة الله، أحببنا أن يكون الكلام هنا عن اللعن لعظيم ما يترتب عليه من عواقب في الدنيا والآخرة.
تعريفه:
اللعن لغةً: أصل اللعن في اللغة: الطرد والإبعاد على سبيل السخط، أو الطرد، والإبعاد من الخير، وكلاهما بمعنى واحد، لكن قد يختلف المعنى بحسب قائل اللعن:
ـ فإذا كانت اللعنة من الله تعالى في الآخرة؛ فهي العقوبة والعذاب والطرد من رحمته.
ـ وإذا كانت منه سبحانه في الدنيا؛ فهي انقطاعٌ من قبول رحمته وتوفيقه.
ـ وإذا كانت من الإنسان؛ فهي بمعنى الدعاء على غيره.
ـ وقد تكون من الإنسان بمعنى السب لغيره.1
والذي يتعلَّق بدرسنا بشكل خاص هو لعن الإنسان للإنسان؛ إما بمعنى الدعاء عليه بالطرد والإبعاد من رحمة الله على المعنى الأقوى، أو بمجرَّد السبّ على ما ذكره ابن منظور بصيغة التضعيف.
تعريف اللعن اصطلاحاً:
جاء في "المفهم" للقرطبي: قال: "وهو في الشرع البعد عن رحمة الله تعالى وثوابه إلى ناره وعقابه".2
وقد عرَّفه ابن عابدين نقلاً عن القُهُستان3 بقوله: "وشرعاً في حق الكفار: الإبعاد عن رحمة الله، وفي حقّ المؤمنين: الإسقاط عن درجة الأبرار".4
الترهيب من اللعن وحكمه:
جاءت النصوص الشرعية تبين حرمة لعن المسلم، وتجعل لعنه كقتله؛ بل تعدى الأمر إلى حرمة لعن الأشياء والحيوانات؛ لأن ذلك ليس من خلق المسلم.
عن ثابت بن الضحاك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لعن المؤمن كقتله).5
وعن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا ينبغي لصِدِّيق أن يكون لعاناً).6
وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة).7
وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أيضاً قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يمينا وشمالا فإذا لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لعن فإن كان كذلك أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها).8
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء)9.
وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: بينما جاريةٌ على ناقةٍ عليها بعض متاع القوم إذ بَصُرَت بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وتضايق بهم الجبل، فقالت: حَلْ حَلْ اللهمَّ العنها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تصاحبنا ناقةٌ عليها لعنة).10
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رجلاً نازعته الريح رداءه على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلعنها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تلعنها فإنها مأمورة وإنه من لعن شيئاً ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه).11
ويؤخذ من هذه الأحاديث الأحكام التالية:
أ- أن كثرة اللعن ليست من صفات المؤمنين الصادقين.
ب- أنه لا يجوز لعن الدواب.
ج- أنه لا يجوز لعن الريح وغيرها من مُسخَّرات الله في هذا الكون.
د- أنَّ اللعنَ أمرٌ خطيرٌ، فإذا لعن الإنسان أي شيء كان، ولم يكن هذا الشيء مستحقاً للعنة، رجعت اللعنة عليه، فينبغي أن يُحتاط له أشد الاحتياط.12
لعن غير المعين:
جاءت النصوص الكثيرة في القرآن والسنة بجواز لعن الفاسق غير المعين بالشخص ممن اتصف بأوصاف مذمومة شرعاً كالكفر والظلم والكذب وغيرها من المحرّمات الثابتة الحرمة، وهذه بعض النصوص في ذلك:
1 ـ قوله تعالى: {فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} (89) سورة البقرة.
2 ـ قوله تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (18) سورة هود.
3 ـ قوله تعالى: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (61) سورة آل عمران.
وغيرها عشرات الآيات في القرآن الكريم بهذا الخصوص، أما من السنَّة؛ فقد جاءت أيضاً أحاديث كثيرة تبيّن جواز لعن من اتّصف بشيء من صفات الفسق لا لعين الشخص وذاته، بل لعن من كانت تلك صفته، ومنها:
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لعن الله الواصِلةَ، والمُسْتَوْصِلة، والوَاشِمَةَ، والمُستوشمةَ).13
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لعن السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده).14
3- وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- من مَثَّل بالحيوان).15
4- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- المتشبّهين من الرجال بالنساء، والمتشبّهات من النساء بالرجال).16
5- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لعن الله آكل الربا وموكله، وشاهديه، وكاتبه، هم فيه سواء).17
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى مُحْدِثاً، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غيَّر منار الأرض).18
وغيرهما من جملة كثيرة من الأحاديث التي ورد فيها لعن مقترفي الآثام العظيمة بعموم الوصف لا بخصوص الشخص، وقد زادت هذه الأوصاف على الثمانين.19
ويؤخذ من هذه النصوص الأحكام التالية:
أ- أفادت الآيات جواز لعن غير المعيَّن بالشخص، وإنما من عين بالوصف سواء كان من الكفار أم من غيرهم.
ب- في الأحاديث جواز لعن العصاة من المسلمين لا على التعيين.
ولتفصيل هذا الإجمال نترك المجال للإمام الغزالي حيث أجاد في الحكم وأفاد:
يقول الغزالي -رحمه الله-: "والصفات المقتضية للعن ثلاثة: الكفر والبدعة والفسق، واللعن في كل واحدة ثلاث مراتب:
الأولى: اللعن بالوصف الأعم؛ كقولك: لعنة الله على الكافرين والمبتدعين والفسقة.
الثانية: اللعن بأوصاف أخصّ منه؛ كقولك: لعنة الله على اليهود والنصارى والمجوس، وعلى القدرية والخوارج والروافض، أو على الزناة والظلمة وأكَلَة الربا، وكل ذلك جائز.
الثالثة: اللعن للشخص المعين، وهذا فيه نظر".20
ج- ما تقدَّم من جواز لعن العصاة غير المعينين لم يختلف فيه العلماء، وقد نقل الهيثمي الإجماع عليه حيث قال: "أما لعن غير المعين بالشخص، وإنّما عُيِّن بالوصف بنحو لعن الله الكاذبَ فجائزٌ إجماعاً".21
وقد قال ابن العربي المالكي في نقله الإجماع: "وأما لعن العاصي مطلقاً فيجوز إجماعاً".22
لعن المعين:
وأما عن لعن المعين فقد قال الشيخ تقي الدين: ولعن تارك الصلاة على وجه العموم جائز، وأما لعن المعين فالأولى تركه؛ لأنه يمكن أن يتوب.
وقال في موضع آخر: قيل: لأحمد ابن حنبل أيؤخذ الحديث عن يزيد فقال: لا ولا كرامة أو ليس هو فعل بأهل المدينة ما فعل؟ وقيل له: إن أقواماً يقولون: إنا نحب يزيد، فقال: وهل يحب يزيد من يؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقيل له: أو لا تلعنه؟ فقال: متى رأيت أباك يلعن أحدا.23
وقال: "واللعنة تجوز مطلقاً لمن لعنه الله ورسوله، وأما لعنة المعين فإن علم أنه مات كافراً جازت لعنته.
وأما الفاسق المعين فلا تنبغي لعنته لنهي النبي أن يلعن عبد الله بن حمار الذي كان يشرب الخمر؛ مع أنه قد لعن شارب الخمر عموماً مع أن في لعنة المعين إذا كان فاسقا أو داعيا إلى بدعة نزاع".24
ومن خلال ما تقدَّم يمكن استخلاص النتائج التالية:
1 – أن كثرة اللعن ليست من صفات الأبرار، سواء كان اللعن متّجهاً لإنسانٍ يستحقّه أو لا يستحقّه أو لدابّة أو جماد أو غير ذلك.
2 – أن لعن المسلم الذي لم يأتِ كبائر الإثم ولم يجاهر بالمعاصي حرام بإجماع العلماء.
3 – أن لعن الفسّاق وأصحاب المعاصي على وجه العموم جائز بإجماع العلماء أيضاً.
4 – جواز لعن الفاسق المجاهر بكبائر الذنوب الظاهر فساده وإفساده مع كراهية ذلك.
5 – أن الدعاء بالهداية للفاسق أولى من لعنه.25
فهذه بعض الأحكام والمسائل المتعلقة باللعن، ينبغي على المسلم معرفتها للعمل بها؛ لأن اللعن في زماننا يوجه لكل أحد والله المستعان، فمن أراد الله والدار الآخرة فليكن العلم إلى عقله سبيلاً، والشرع المطهر إلى قلبه دليلاً.
وإلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،
1 معجم مقاييس اللغة لابن فارس: (5/252-253)؛ لسان العرب لابن منظور: (13/387)؛ مفردات ألفاظ القرآن للأصبهاني، ص: (741)؛ المصباح المنير للفيومي، ص: (212)، كلهم مادة لعن.
2 المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم للقرطبي أبي العباس: (6/579).
3 القُهُستاني (ت95هـ): محمد القُهُستاني، شمس الدين، فقيه حنفي، كان مفتياً ببخارى، له كتب منها: (جامع الرموز) ط. الأعلام للزركلي: (7/11)
4 حاشية ابن عابدين: (3/416).
5 رواه البخاري برقم (5754) ومسلم (110).
6 رواه مسلم برقم: (2597).
7 رواه مسلم برقم (2598).
8 رواه أبو داود برقم (4905) وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، حديث رقم: (1672).
9 رواه الترمذي برقم: (1977) وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: (5381).
10 رواه مسلم برقم (2596).
11 رواه أبو داود، وصححه الألباني.
12 من بحث بعنوان "حكم لعن المسلم الفاسق" لأبي عبد الله الساحلي ص: (2).
13 رواه البخاري برقم (5589) ومسلم: (2124).
14 رواه البخاري برقم (6401).
15 رواه البخاري برقم (5196).
16 رواه البخاري برقم (5546).
17 رواه البخاري برقم (5617) وروايات في ذلك كثيرة، ومسلم برقم: (1597).
18 رواه مسلم برقم: (1978) وغيره.
19 فيض القدير للمناوي: (5/267-276)؛ الزواجر لابن حجر الهيتمي: (2/61).
20 إحياء علوم الدين للغزالي: (3/123).
21 حكم لعن المسلم الفاسق: ص: (5-6).
22 فتح القدير للشوكاني: (1/250).
23 الآداب الشرعية لابن مفلح (1/336).
24 مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: (6/511).
25 أحكام لعن الفاسق المعين: ص:(25)