عاشوا لأمتهم

عاشوا لأمتهم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

ماذا عساه أن يقول المسلم، أو يستهل حديثه وعباراته؛ وهذا الواقع يبعث على الأسى والكمد، ويدعو إلى العويل والسهد، ليس من حال المسلمين، وما حل بهم من أشكال الخراب والدمار، والقتل العمد والشنار، والمجازر والمذابح البشعة، فهذا قدر الله فيهم، وحكم الله بهم، ومع هذا فلو عصفت بهم المحن، وصفعوا بشرور الفتن؛ فهم ينتظرون من الله وعده، وهذا الابتلاء واقع بأهل الإيمان – لا محالة – شاؤوا أم أبوا لحكمة أخبر الله عنها في كتابه بقوله: {لِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء}1، وثانية: {لِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}2، والابتلاءات والشدائد على أهل الإيمان هي ضريبة جنة الخلد كما قال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ}3؛ لكن المؤسف حقاً ما تراه من تلك المواقف المخزية، والنبرات المزرية؛ لشرذمة من بني قومي حيال قضايا أمتهم، وما يجرى من أحداث تخص بلدان المسلمين؛ يشعر المسلم جرآها كم بينهم وبين قضايا الإسلام المصيرية من جفوة، ويدرك الغيور على أمته جيداً مدى اتساع الخرق على الراقع، وعظيم الفجوة، مما يجعله يجر الذاكرة إلى الوراء حيث عصر العزة والنخوة، عصر الخلفاء الذين عاشوا لأمتهم، واتقوا الله في رعيتهم، وكان ديدنهم وغاية شغلهم؛ أن يقوموا بواجبهم تجاه من ولاهم الله شأنهم، فحملوا على كواهلهم همَّ الأمة، فعاشوا يورقهم ويقض مضاجعهم، ويوغر صدورهم أي خطب أو ملمة تدوي في ممالكهم، مستشعرين عظم المسؤولية التي أولاهم الله إياها.

ومما يدفعنا لطرق الحديث عنهم أمرين:

أولها: ما قاله الطغرائي:

أعلل النفس بالآمال أرقبـها                 ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

ثانيها: ما قاله الآخر:

عساها أن تحرك في ضمير القوم               نخوة غائر وتجلي كرب عامر

كان من أولئكم الخلفاء الراشدين – رضوان الله عليهم – الخليفة الراشد أبي حفص الفاروق عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، الفاروق الذي ما مسلم على وجه الأرض إلا ويسمع به، فدعونا نخترق حقب الزمن، ونرفع حجب التاريخ، لنفضي إلى الساح الشريف، والرحاب المنيف؛ لنعيش مع الرجل الملهم الذي ملأ الأرض عدلاً وقسطاً، شهد له به أمة الكفر قبل غيرهم "لما جيء بالهرمزان ملك خوزستان أسيراً إلى عمر – رضي الله عنه – وافق ذلك غيبته عن منزله، فما زال الموكل بالهرمزان يقتفى أثر عمر حتى عثر عليه في بعض المساجد نائماً متوسداً درته، فلما رآه الهرمزان قال: هذا والله الملك الهنيء، عدلت، فأمنت، فنمت، والله إني قد خدمت أربعة من ملوك الأكاسرة أصحاب التيجان فما هبت أحداً منهم هيبتي لصاحب هذه الدرة.4

الله أكبر

يا من يرى عمراً تكسوه بردته                والقوت أدماً له والكوخ مأواه

يهتز كسرى على كرسيه فرقاً                من هوله وملوك الروم تخشاه

عاش لأمته::

يذكر الأوزاعي أن عمر خرج في سواد الليل، فرآه طلحة فتبعه، فذهب عمر حتى دخل بيتاً، ثم خرج منه وطلحة يراقبه، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل الذي يأتيك؟ قالت: إنه يتعهدني منذ كذا وكذا يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني الأذى، فجزاه الله عني خيراً، فيقول طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أعثرات عمر تتتبع؟5

يا لله! هل يفعل الواحد منا مع أهله ما يفعله عمر مع رعيته؟ لا، إنه الإيمان الذي وقر في القلب، وصدقه العمل، فلا والله لا ينساه الأيامى والثكالى واليتامى ما دام في الأرض أيْمٌ أو ثكلى أو يتيم، ولا والله ما تنساه البطون الجائعة، والأكباد الظامئة؛ ما دام في الأرض بطن جائع، أو كبد ظمأى.

وموقف آخر رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – إلى حرة واقم، حتى إذا كنا بمرتفع إذ بنار بعيدة، فقال عمر: يا أسلم إني لأرى هناك ركْباً حبسهم الليل والبرد فانطلق بنا، قال: فخرجنا نُهَرْوِلُ حتى دنونا منهم، فإذا هي امرأة معها صبية صغار، وإذا بِقِدْر منصوبة على النار، وصبيانها يتضاغون، فقال: السلام عليكم يا أهل الضوء – وقد كره أن يقول: يا أهل النار -.

قالت: وعليكم السلام.

قال عمر: أأدنو؟

قالت: ادْنُ بخير أو دع. فدنا، فقال: ما بكم.

قالت: قصر بنا الليل والبرد.

قال: فمالِ هؤلاء الصبية يتضاغون؟

قالت: الجوع..

قال: فأي شيء في هذه القدر؟.

قالت: ماء أُسْكِتَهُم به حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر (كلمات يهتز لها قلب وجنان كل مؤمن، فما بالك بعمر؟).

يقول: أي رحمك الله وما يدري عمر بكم؟

قالت: يتولى أمرنا ثم يغفل عنا، الله بيننا وبينه.

قال أسلم: فأقبل عليَّ عمر به ما به، يقول: انطلق، فأتينا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عدلاً من دقيق، وكبَّة من شحم، ثم حملها عمر على ظهره فقلت: أحملها عنك يا أمير المؤمنين، قال: لا أمَّ لك، أتحمل عني وزري يوم القيامة؟! قال: فانطلقنا حتى أتيناها، فألقى العدل عندها، وأخرج من الدقيق شيئاً، وجعل يقول: دُرِّي عليّ، وأنا أُحرِك، وجعل ينفخ تحت القدر، والدخان يتخلل لحيته، فلو رأيته لرأيت عجباً، ثم أنزل القدر فأتته بصحفة فأفرغ فيها الطعام، ثم جعل يقول لها: أطعميهم وأنا أسطح لهم، فلم يزل كذلك حتى شبعوا، ثم ترك عندها فضل ذلك الطعام، ثم قام وهي تقول: جزاك الله خيراً، كنت أولى بهذا الأمر من عمر.

قال: قولي خيراً، قولي خيراً، ثم تنحى عنهم ناحية واستقبلهم، وقد رَبَضَ مَرْبَضاً يراقبهم.

يقول أسلم: فقلت إن له لشأناً – وهو لا يكلمني حتى رأى الصبية يصطرعون ويضحكون -، ثم ناموا، فقال يا أسلم: ما أسهرهم إلا الجوع، فأحببت ألا أنصرف حتى أرى ما رأيت.6

يا لها من كلمة تكشف عن رهافة الحس، ونقاء الضمير، وحسن رعايتهم لمن ولاءهم الله أمرهم.

وموقف آخر لعمر مع رعيته، ففي عام الرَّمادة (وهو عام شديد القحط والجدب)، ما قُدِمَت له لقمة طيبة فأكلها بل كان يؤثر بها الفقراء والمساكين، يوم زار الشام جِيء له بطعامٍ طيب، فنظر إليه، وقال: يا لله! كل هذا لنا، وقد مات إخواننا لم يشبعوا من خبز الشعير؟! والله لا أطعمه.

إن جاع في شدةٍ قومٌ شركتهم                في الجوع أو تنجلي عنهم غواشيها

جوع الخليفة والدنيا بقبضتـه                في الزهد منــزلة سبحان مُوليها

حتى تغير لونه في عام الرمادة من أبيض حتى أصبح مسودّاً من شدة الهمِّ بأمر المسلمين، يأكل الخبز بالزيت، ويمسح بطنه، ويقول: والله لتمرننَّ أيها البطن على الخبز والزيت ما دام السمن يباع بالأواقي، والله، لا تشبع حتى يحيا الناس"7 أي والله عقمت نساء الأرض أن يُنْجِبْن مثلك يا عمر، يقول أسلم: فلو لم يرفع الله المحل عام الرمادة؛ لظننا أن عمر يموت هماً بأمر المسلمين.8

رحم الله عمر، ورضي عن ذلك النموذج، قد عرف مسئوليته تجاه رعيته، وراقب الله فيمن تحت ولايته، فأحبهم وأحبوه، ورضي عنهم ورضوا عنه، عفَّ فعفوا، وصدق فصدقوا، ولو غش لغشوا.

قف أيها التاريخ سجل صفحـةً             غــراء تنطق بالخلود الكاملِ

حَرِّك بسيرته القلوب وقد قست              وغدت بقسوتها كصُمِّ جنادلِ

يقول أسلم – كما في تاريخ عمر لابن الجوزي -: "كان يقوم يصلي من الليل، فيذكر ما حلَّ بالمسلمين فلا يدري ماذا يصلي، يقول: إني لأفتتح السورة فما أدري أنا في أولها أم في آخرها، لما أعلم مما يلاقي المسلمون من الشدة"9.

فواسفاه، ويا حر قلباه على زمانك يا عمر، فلقد ولي أمر الأمة بعدك أناس لا يهمهم من أمر الأمة شيء إلا شيء يخدم مصالحهم، ويدعم بقاء كراسيهم.

تناديهم ضمائر الكون، وتناشدهم أكباد القوم؛ لعلهم أن يجيبوا صرخات المضطهدين والمشردين، والمعدمين من إخوانهم في شتى البقاع والبطاح، لكن

لقد أسمعت من ناديت حيـاً                 ولكن لا حياة لمن تنادي

أما والله يا عمر لقد تاقت الأمة لرجل مثلك يهتم بأمر المسلمين، ويحيا قضيتهم، يهمه ما أهمهم، ويفرحه ما يفرحهم، رجل يسري في عروقه خوف الله في الرعية، ويجري في دمائه عظم المسؤولية، يخشى أن يسأل عن حيوان فكيف ببني آدم، كيف بالملايين منهم يقول كما نقل صاحب المنتظم: "لو مات جمل ضائع على شط الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه"10، فماذا نقول اليوم لأناس سلَّموا رقاب إخوانهم في الدين والعقيدة جهاراً نهاراً لأعدائهم؛ ليصنعوا بهم ما يحلوا لهم، دونما أدنى وازع يردعهم، أو شعور يؤنبهم ويمنعهم، لأجل أغراض بغيضة باعوا الأرض، وسلموا العرض. آه والله لقد اشتاقت الأمة لمثلك يا عمر كيما تحطم أغلالها، وتفك سوارها، وتهدي إلى سبيل ربها، بإذن ربها

أيا عمر الفاروق هل لك عـودة             فإن جيوش الكفر تنهى وتأمـــر

رفاقك في الأغوار شدو سروجهم            وجيشك في البلقان هبوا وكبــروا

تعال إلينا فالمروءات أطــرقت             وموطن آبائي زجــاج مكســر

يحاصرنا كالموت مليون كــافر            ففي الشرق هولاكو وفي الغرب قيصر

تناديك في شوق مآذن مكــة              وتبكيك بدر يـا حبيــب وخيـبر

نساء فلسطين تكحـلن بالأسى              وفي ظل بيت قاصــرات وقُــصَّر

وليمون يافا يابس في عـروقـه             وهل شجـــر في قبضة الظلم يثمر

أيـا فارساً أشكو إليه مـواجعي            ومثلي له عــذر ومثلك يعــذر

أيا عمر الفاروق هل لك عـودة             فإن جيوش الكفر تنهى وتأمـــر

نسأل الله أن يخلف على الأمة خليفة كعمر، وأن يقرَّ أعيننا بنصر للإسلام قادم، وأن يشفى غيظ صدورنا من القوم الكافرين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


 


1 سورة آل عمران (140).

2 سورة آل عمران (141).

3 سورة البقرة (214).

4 ثمار القلوب في المضاف والمنسوب (1/86).

5 حلية الأولياء (1/ 48).

6 تاريخ الطبري (2/568).

7 الطبقات الكبرى (3/313).

8 الطبقات الكبرى (3/315).

9 مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي (73).

10 المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (4/141).