تضحيات يوم أحد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
مع سعة ملك الله، وعظيم خلقه، وفعله في ملكه ما يريد؛ إلا أنه – عز وجل – قد اشترى من المؤمنين نفوسهم لنفاستها لديه “إحساناً منه وفضلاً، ورَقَمَ ذلك العقد الكريم في كتابه الحكيم؛ فهو يُقرَأُ أبداً بألسنتهم ويتلى قال – تعالى -: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}1، فجعل – سبحانه – هاهنا الجنة ثمناً لنفوس المؤمنين وأموالهم، وأتى بالتوكيد لذلك،وأضاف الجليل هذا العقد لنفسه – سبحانه -، وإنه هو الذي اشترى هذا المبيع، ووعد بتسليم هذا الثمن وعداً لا يخلفه ولا يتركه، وجعل محل هذا الوعد أفضل كتبه المنزلة من السماء، ولا أحدٌ أوفي من الله – تعالى -، وأمرهم أن يستبشروا بهذا العقد، ويبشر به بعضهم بعضاً، وأخبرهم إخباراً مؤكداً بأن ذلك البيع الذي بايعوا به هو الفوز العظيم، والبيع هاهنا بمعنى المبيع الذي أخذوه بهذا الثمن وهو الجنة.
والتضحيات التي سنعيشها اليوم ليست من أجل درهم أو دينار؛ وإنما هي من أجل الواحد القهار، وهي من أعظم التجارات قال – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}2، وهي من التضحيات العظيمة التي سجلها التاريخ، وحكاها الزمن، وسطرها الدهر؛ مما كان في غزوة أحد لما التقى حزب الرحمن مع حزب الشيطان، وكان ما كان من البلاء والامتحان للصالحين من أهل الإيمان.
هذه بعض الصور المشرقة التي رسم فيها أصحابها معاني الصدق مع الله – تعالى -,والتضحية في سبيل إعلاء كلمته:
الصورة الأولى: عبدالله بن جحش – رضي الله عنه -:
فهو من السابقين الأولين، والمهاجرين الكرام, أسلم قبل دخول النبي ﷺ دار الأرقم، وهاجر إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، وكان أميراً على سرية أرسلها رسول اللهﷺ إلى (نخلة) (وهي مكان بين مكة والطائف)،وأعطاه النبي ﷺ كتاباً أمره ألا ينظر فيه حتى يبلغ نخلة، فلما نظر في الكتاب قال: سمعاً وطاعةً، ثم مرَّت بهم عيرٌ لقريشٍ فيها عمرو بن الحضرمي، وكانوا في آخر يوم من رجب، فتشاور المسلمون وقالوا: إن نحن قتلناهم هتكنا حرمة الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم، ثم اتفقوا على لقائهم، فقتلوا عمرو بن الحضرمي، وأسروا عثمان بن عبدالله، والحكم بن كيسان، فقال عبد الله بن جحش: اعزلوا مما غنمنا الخمس لرسول الله ﷺ ، ثم نزل القرآن بعد ذلك بمثل اجتهاد عبد الله بن جحش، فنزل قوله – تعالى -: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ…}3، وعُيِّر عبد الله بن جحش لقتاله في الشهر الحرام فأقرَّ الله فعله واجتهاده، ونزل قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ…}4“5.
وليس هذا هو الحدث المطلوب، ولكنها مقدمة عن هذا البطل عبد الله بن جحش – رضي الله عنه وأرضاه -؛ أما موقفه يوم أحد فعظيم لا ينسى، “فعن سعيد بن المسيب أن رجلاً سمع عبد الله بن جحش يقول قبل يوم أحد بيوم: اللهم إنا لاقوا هؤلاء غداً، وإني أقسم عليك لما يقتلوني، ويبقروا بطني، ويجدعوني، فإذا قلت لي: لم فعل بك هكذا؟ فأقول: اللهم فيك، فلما التقوا فعلوا ذلك به، وقال الرجل الذي سمعه: أما هذا فقد استجيب له، وأعطاه الله ما سأل في جسده في الدنيا، وأنا أرجو أن يعطى ما سأل في الآخرة”6.
وعن إسحاق بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أن عبد الله بن جحش قال له يوم أحد: ألا تأتي فندعوا الله، فجلسوا في ناحيةٍ، فدعا سعد وقال: يا رب إذا لقيت العدو غداً فلقني رجلاً شديداً بأسه، شديداً حرده؛ أقاتله فيك ويقاتلني، ثم ارزقني عليه الظفر حتى أقتله، وآخذ سلبه، فأمَّن عبد الله بن جحش، ثم قال: اللهم ارزقني غداً رجلاً شديداً بأسه، شديداً حرده؛ أقاتله فيك ويقاتلني؛ فيقتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك قلت: يا عبد الله فيم جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت، قال سعد: كانت دعوة عبد الله بن جحش خيراً من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار؛ وإن أذنه وأنفه معلقان جميعاً في خيطٍ، قال الواقدي: دفن هو وحمزة في قبر واحد”7.
الصورة الثانية: أنس بن النضر – رضي الله عنه -:
يروي قصته البخاري في صحيحه عن أنس – رضي الله عنه – قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر؛ فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين؛ ليرين الله ما أصنع؟ فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء – يعني أصحابه -، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء – يعني المشركين -، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة وربِّ النضر، إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربةً بالسيف، أو طعنةً برمح، أو رميةً بسهم، ووجدناه قد قُتل، وقد مَثَّل به المشركون، فما عرفه أحدٌ إلا أخته ببنانه، قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه من المؤمنين{رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ..}8“9، هذا هو أنس بن النضر الذي صدق ما عاهد الله عليه وما بدل وما غير، بل بحبه لله – تعالى – صدق معه، وبحب الله – تعالى – له أبرَّ قسمه عليه!
وقد ورد في نهاية هذا الحديث الذي يرويه أنس بن مالك – رضي الله عنه – بيان ذلك،فيقول: إن أخته – وهي تسمى الربيع – كسرت ثنية امرأةٍ؛ فأمر رسول الله ﷺ بالقصاص، فقال أنس: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فرضوا بالأرش، وتركوا القصاص، فقال رسول الله ﷺ : ((إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره))“10.
ولم يكن أنس بن النضر – رضي الله عنه – مجرد مقاتل عادي، بل كان يحمس الصحابة،ويفعِّل المعركة، ويثير المقاتلين كلما شعر ببرود، وهذا ما حصل في أحد، فعندما أشيع بين الصحابة مقتل النبي ﷺ تثاقل البعض، وبدأ اليأس يدب في الأعماق، والهزيمة تنشر خيوطها؛ فإذا بأنس بن النضر – رضي الله عنه – يعالج القضية علاجاً عملياً ليس بالكلام فقط، ويبدى حلاً وهو الاستمرار على القتال، وعدم الاستسلام، بل إن كان النبي ﷺ قد مات فلنمت على ما مات عليه، يقول ابن حبان: “وقد انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله ورجال من المهاجرين والأنصار – رضي الله عنهم أجمعين – قد اسقطوا ما في أيديهم، وألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله ﷺ ، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل، ووجد فيه سبعون ضربةً بالسيف والرمح”11.
الصورة الثالثة: طلحة بن عبيد الله التيمي – رضي الله عنه -:
يشهد النبي ﷺ على تفاني طلحة – رضي الله عنه – وهو في وسط المعركة، والناس بين الدماء والأشلاء، والنبي ﷺ ينادي: أوجب طلحة، فقد ورد في حديث عن الزبير – رضي الله عنه – قال: كان على رسول الله ﷺ يوم أحد درعان، فنهض إلى صخرة فلم يستطع؛ فأقعد تحته طلحة، فصعد النبي ﷺ حتى استوى على الصخرة، فسمعت النبي ﷺ يقول: ((أوجب طلحة))“12أي وجبت الجنة لطلحة، وقال رسول الله ﷺ : ((طلحة ممن قضى نحبه))13، وهذا أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – لا يذكر غزوة أحد إلا ويذكر فضل طلحة فيه،ويسقط دمعات شاهدة على ما يقول، فعن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان أبو بكر – رضي الله عنه – إذا ذكر يوم أحدٍ بكى، ثم قال: ذاك كله لطلحة”14، فيا ترى ما الذي صنع طلحة حتى يذكر بهذا الذكر؟
اسمع ما يقوله جابر بن عبد الله – رضي الله عنه -: “لما كان يوم أحدٍ، وولى الناس؛كان رسول الله ﷺ في ناحيةٍ في اثني عشر رجلاً من الأنصار، وفيهم طلحة بن عبيد الله، فأدركهم المشركون، فالتفت رسول الله ﷺ ، وقال: ((من للقوم؟))، فقال طلحة: أنا، قال رسول الله ﷺ : ((كما أنت))، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فقال: ((أنت))، فقاتل حتى قتل، ثم التفت؛فإذا المشركون فقال: ((من للقوم؟))، فقال طلحة: أنا، قال: ((كما أنت))، فقال رجل من الأنصار: أنا، فقال: ((أنت))، فقاتل حتى قتل، ثم لم يزل يقول ذلك، ويخرج إليهم رجلٌ من الأنصار فيقاتل قتال من قبله حتى يقتل، حتى بقي رسول الله ﷺ وطلحة بن عبيد الله، فقال رسول الله ﷺ : ((من للقوم؟))، فقال طلحة: أنا، فقاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده فقطعت أصابعه، فقال: حس، فقال رسول الله ﷺ : ((لو قلت: بسم الله؛ لرفعتك الملائكة، والناس ينظرون، ثم رد الله المشركين))15.
هذا هو طلحة الذي كان يرتجز أثناء المعركة فيقول:
نحن حمـاة غـالب ومالك | نذب عن رسـولنا المـبارك |
نصرف عنه القوم في المعارك | ضرب صفاح الكوم في المبارك16 |
“وما انصرف النبيﷺ يوم أحدٍ؛ حتى قال لحسان: ((قل في طلحة))، فقال:
وطلحة يوم الشعب آسى محمداً | على سـاعة ضاقت عليه وشقت |
يقيه بكفـيه الرماح وأسلـمت | أشـاجعه تحت السيوف فشلـت |
وكان إمام الناس إلا محمــداً | أقام رحا الإسلام حتى استقلـت17 |
الصورة الرابعة: حنظلة بن أبي عامر الراهب – رضي الله عنه – (غسيل الملائكة):
إنه الرجل الذي ترك محابه من أجل محاب الله – عز وجل -، ويصنع هذا من وجد حلاوة الإيمان ((ثلاثٌ من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما))18، إن حنظلة – رضي الله عنه – كان قد ترك زوجته بعد أول ليلة يلقاها فيها، و”كان حنظلة بن أبي عامر تزوج جميلة بنت عبد الله بن أبي سلول، فأدخلت عليه في الليلة التي في صبحها قتال أحدٍ، وكان قد استأذن رسول الله ﷺ أن يبيت عندها فأذن له؛ فلما صلى الصبح غدا يريد النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولزمته جميلة، فعاد فكان معها، فأجنب منها، ثم أراد الخروج وقد أرسلت قبل ذلك إلى أربعة من قومها؛ فأشهدتهم أنه قد دخل بها، فقيل لها بعد: لم أشهدت عليه؟ قالت: رأيت كأن السماء فرجت فدخل فيها ثم أطبقت، فقلت: هذه الشهادة، فأشهدت عليه أنه قد دخل، وتعلق بعبد الله بن حنظلة”19.
وانطلق حنظلة إلى أرض المعركة وهو جنب؛ لم بغتسل بعد، فدخل في وسط المعمعة، وكاد أن يقتل القائد الأعلى لجيش العدو “أبا سفيان” يقول ابن الأثير – رحمه الله تعالى -: “ولما كان حنظلة يقاتل يوم أحدٍ؛ التقى هو وأبو سفيان بن حرب، فاستعلى عليه حنظلة وكاد يقتله، فأتاه شداد بن الأسود (المعروف بابن شعوب الليثي) فأعانه على حنظلة، فخلص أبا سفيان، وقتل حنظلة”20.
استشهد وهو جنب، فماذا كانت نتيجة هذا العمل العظيم، الذي ضحى بكل شيء من أجل “لا إله إلا الله”، لقد حاز على شرف تغسيل الملائكة له، وقد رأى النبي ﷺ الملائكة وهي تغسله فقال: ((إن صاحبكم تغسله الملائكة، فسألوا صاحبته))، فقالت: إنه خرج لما سمع الهائعة وهو جنب، فقال رسول الله ﷺ : ((لذلك غسلته الملائكة))21،وسمي بسبب هذا بـ”غسيل الملائكة”.
وليست هذه كل الصور التي نقلت إلينا من قبل الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وليس هذه فقط هي السطور التي خطها لنا الصحابة الكرام بدمائهم، ولكن أحببنا أن نعيش مع شيء من ذلك، وإلا فالكثير من الصحابة لم تذكر أسماؤهم، ولم تسجل أعمالهم، لكنها سجلت عند رب العالمين، في سجلات الصادقين.
فاللهم ألحقنا بهم في عليين، واجمعنا بهم في جنات النعيم، واغفر لنا وارحمنا أنك أنت الغفور الرحيم.
1 سورة التوبة (111).
2 سورة الصف (10-11).
3 سورة الأنفال (41).
4 سورة البقرة (217).
5 تفسير ابن كثير بتصرف (1/245-255).
6 الطبقات الكبرى (3/90-91).
7 الاستيعاب (1/265).
8 سورة الأحزاب (23).
9 البخاري (2595)، ومسلم (3523).
10 البخاري (2595)، ومسلم (3523).
11 الثقات لابن حبان (1/227- 228).
12 الترمذي (3671)، وقال الألباني: حسن، انظر مشكاة المصابيح (3/334).
13 الترمذي (3126)، وقال الألباني في صحيح الترمذي: صحيح (3/216).
14 مختصر تاريخ دمشق (1/1550).
15 النسائي (3098)، ويقول عبد الفتاح أبو غدة: قال الشيخ الألباني: حسن من قوله فقطعت أصابعه، وما قبله يحتمل التحسين، وهو على شرط مسلم، انظر سنن النسائي بتحقيق أبو غدة (6/29).
16 تاريخ دمشق (25/105).
17 تاريخ دمشق (25/105-106).
18 البخاري (15)، ومسلم (60).
19 مختصر تاريخ دمشق (1/1665).
20 أسد الغابة (1/290).
21 المستدرك (4917)، وقال الألباني في إرواء الغليل: حسن (3/167).