فإني قريب

 

 

فإني قريب

الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم, إله الأولين والآخرين, وجامع الناس ليوم الدين, عز فارتفع، وعلا فامتنع، وذلَّ كل شيء لعظمته وخضع, وسع سمعه الأصوات, يعلم ما كان وما يكون وما كان لو كان كيف يكون، لا تخفى عليه خافية, القائل في كتابه الكريم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}1, والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

فمن المعلوم أن الله – تبارك وتعالى – متصف بصفات متعددة تليق بعظمته وجلاله قال الله – تبارك وتعالى -: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}2, فهو لا تخفى عليه خافية، حي قيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم, يعلم خائنة الأعين, ويعلم ما في الصدور، قال عن نفسه سبحانه: {أَوَلاَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}3, وقال: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}4,

مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه, سميع بصير بكل ما يدور ويجري, وسع سمعه الأصوات، لا تشتبه عليه اللغات فهو سبحانه قريب من عباده, وقربه – سبحانه – لا ينفي علوه على عباده، واستوائه على عرشه فعن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – قال: كنا مع النبي  فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا ارتفعت أصواتنا, فقال النبي  : ((يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، إنه معكم، إنه سميع قريب، تبارك اسمه، وتعالى جده))5, وعن أبي موسى – رضي الله عنه – قال: كنا مع النبي   في سفر فكنا إذا علونا كبرنا فقال النبي  : ((أيها الناس أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، ولكن تدعون سميعاً بصيراً))، ثم أتى علي وأنا أقول في نفسي لا حول ولا قوة إلا بالله فقال: ((يا عبد الله بن قيس قل: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها كنز من كنوز الجنة))، أو قال: ((ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله))6، وقال العلامة حافظ بن أحمد الحكمي – رحمه الله – في سلم الأصول:

كذا له العلو والفوقية   على عباده بلا كيفيـة
ومع ذا مطلع إليـهم   بعلمه مهيمن عليهـم
وذكره للقرب والمعية    لم ينف للعلو والفوقية
فـإنه العلي في دنوه   وهو القريب جل في علوه
حي وقيـوم فلا ينام      وجلَّ أن يشبـهه الأنام7

فهو معهم بعلمه وإحاطته بهم قال الله – تبارك وتعالى -: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} قال الإمام السدي – رحمه الله – في تفسير هذه الآية: “ليس من عبد مؤمن يدعو الله إلا استجاب له، فإن كان الذي يدعو به هو له رزق في الدنيا أعطاه الله، وإن لم يكن له رزقاً في الدنيا ذخره له إلى يوم القيامة، ودفع عنه به مكروهاً”8, وفي هذه الآية دعوة منه – تبارك وتعالى – لعباده إلى الدعاء، ولفت لأنظارهم بأنه -جل وعلا – قريب منهم، يسمع دعائهم فيجيبهم قال الإمام ابن القيم – رحمه الله -:

وهو القريب وقربه المختص بالـد   اعــي وعابده على الإيمان
وهو المجيب يقول من يدعو أجب ـه أنا المجيب لكل من ناداني
وهو المجيب لدعوة المضــطر إذ    يدعــوه في سر وفي إعلان9

وقال الله – سبحانه -: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}10, وسماه – سبحانه – عبادة فقال – جل جلاله -: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}11, وعن النعمان بن بشير – رضي الله عنه -: عن النبي   قال: ((الدعاء هو العبادة قال ربكم: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}))12, فإذا كان الدعاء هو العبادة كما جاء في الحديث فإن غالب العبادة أيضاً هي الدعاء، إذ لا تخلو عبادة من الدعاء، ولكن ما نريد إدارة الحديث حوله هنا هو أهمية الدعاء بمعناه الأصلي واللغوي، ونقصد بذلك توجه العباد إلى الله – تبارك وتعالى – طلباً لقضاء الحاجات، وكشف الكربات، وهو أمر يكاد يغفل عنه كثير من المسلمين، مع ندب الشرع إليه، وشدة احتياجهم إليه.

فإن من فضل الله – تبارك وتعالى – وكرمه أن ندب عباده إلى دعائه، وتكفل لهم بالإجابة ففي الحديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال النبي  : ((يقول الله – تعالى -: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة))13, وفي حديث آخر عن سلمان – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله : ((إن ربكم – تبارك وتعالى – حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً))14.

ويلاحظ أن طلب الدعاء في الخطاب القرآني جاء مقروناً ومرتباً عليه الإجابة؛ فالعلاقة بينهما علاقة السبب بالمسبَّب، والشرط بالمشروط، والعلَّة بالمعلول، فليس على العبد إلا الالتجاء إلى الله – بعد الأخذ بالأسباب -، وطلب العون منه في كل عسر ويسر، وفي كل منشط ومكره، ووقت الفرج ووقت الكرب؛ فقد ثبت في حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه – أن النبي   قال: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها أثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث:أما أن تعجَّل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها قالوا: إذا نكثر!! قال: الله أكثر))15, وعن أبى هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله   قال: ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي))16.

قد يقول قائل: فما لنا ندعو فلا يُستجاب لنا؟

وفي الجواب على هذا القول نجيب بما أجاب به الإمام القرطبي – رحمه الله – عن هذا الإشكال، حيث قال – رحمه الله -: “الجواب أن يُعْلَم أن قوله الحق في الآيتين {أُجِيبُ} و{أَسْتَجِبْ} لا يقتضي الاستجابة مطلقاً لكل داع على التفصيل، ولا بكل مطلوب على التفصيل،فقد قال ربنا – تبارك وتعالى – في آية أخرى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}17, وكل مصرٍّ على كبيرة عالماً بها، أو جاهلاً؛ فهو معتد، وقد أخبر أنه لا يحب المعتدين، فكيف يُستجاب له؛ وأنواع الاعتداء كثيرة”18.

ويمكن أن يقال أيضاً: إن إجابته – سبحانه – متعلقة بإرادته، فيجيب لمن يشاء من عباده، ويُعْرِض عمن يشاء لحكمة يريدها الله، يؤيد هذا قوله – تعالى -: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}19,والقرآن الكريم يفسر بعضه بعضاً.

والذي نخلص به من هذا المقال أن أمر الدعاء في حياة المسلم لا ينبغي أن يُقَلِّل من شأنه، ولا أن يحرم المسلم نفسه من هذا الخير العظيم الذي أكرمه الله – تبارك وتعالى – به، والمسلم حريص على الخير فقد جاء في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله  : ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير؛ احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان))20.

أخي الحبيب: تأمل في قوله  : ((احرص)) ليتبين لك قيمة هذا الهدي النبوي الشريف, ولا شك فإن النفع كل النفع في الدعاء، وخاصة إذا استوفى أسبابه؛ ولعل فيما خُتمت فيه هذه الآية: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُو}21, فالله – تبارك وتعالى – يحب لنا الخير, ويدعونا ويدلنا على الخير العظيم، وليس على المسلمين سوى أن يرجعوا إلى ربهم – تبارك وتعالى – في كل نائبة.

أخي الكريم: إذا أصبت بمصيبة فتذكر أن الله – تبارك وتعالى – قادر على كل شيء, وارفع أكف الضراعة إليه، وانطرح بين يديه، وناده: يا رب يا رب, فما أعظمها من كلمة!!

أظهر فقرك إليه فهو الغني وأنت الفقير، واستمع إلى قوله – تبارك وتعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}22, و{هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}23.

فيا أصحاب الحاجات أين أنتم من الشكوى إلى الله – تبارك وتعالى -، أين أنتم من الإلحاح والتضرع إلى الله؟ سبحان الله ألستم بحاجة إلى ربنا؟ أتعتمدون على قوتكم وحولكم، وأنتم لا حول لكم ولا قوة إلا بالله.

ألا تعلمون أنه لا شفاء إلا بيد الله – تبارك وتعالى -، ولا كاشف للبلوى إلا الله -جل جلاله -، ولا توفيق ولا فلاح ولا سعادة ولا نجاح إلا من الله – تبارك وتعالى -, وإن من العجب أن كل مسلم يعلم ذلك، ويعترف بهذا بل ويقسم على هذا، لكن مع هذا تتعلق القلوب بالضعفاء العاجزين؟ ونشكو الله – تبارك وتعالى – إلى الناس؟

إذا نزلت بك نازلة، أو حلَّت بك كارثة, أو بليت بمصيبة وبلاء؛ فارفع يديك إلى السماء، وأكثر الدمع والبكاء، وألحَّ على الله – جلَّ وعلا – بالدعاء، وقل: يا الله، يا من تسمع كلامي، يا مطلعاً على حالي، يا سامعاً لكل شكوى، واذرف الدمع مع دعائك لرب العالمين، وليكن لسان حالك كما قال القائل:

أنت الملاذ إذا ما أزمة شملت وأنت ملجأ من ضاقت به الحيل
أنت المنادى به في كل حادثة   أنت الإله وأنت الذخر والأمـل
أنت الرجاء لمن سدت مذاهبه    أنت الـدليل لمن ضلت به السبل
إنا قصدناك والآمال واقعــة   عليك والكـل ملهوف ومبتهل

هذه دعوة إلى الرجوع إلى رب الأرض والسماء, فهو سبحانه قريب منا، يغفر الذنب, ويذهب الكرب والحزن، سبحانه – جل جلاله -، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.


 


1 سورة البقرة (186).

2 سورة الشورى (11).

3 سورة البقرة (77).

4 سورة غافر (19).

5 رواه البخاري برقم (2830).

6 رواه البخاري برقم (6021).

7 معارج القبول (1/29).

8 تفسير الطبري (3/ 482).

9 شرح القصيدة النونية (2/229).

10 سورة الأعراف (55).

11 سورة غافر (60).

12 رواه أبو داود برقم (1479)؛ والترمذي برقم (2969)، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح؛ وأحمد في المسند برقم (18378)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح؛ وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته برقم (5719) وفي صحيح الجامع (3407).

13 رواه البخاري برقم (6970)؛ ومسلم برقم (2675).

14 رواه أبو داود برقم (1488)؛ والترمذي برقم (3556)؛ وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2819).

15 رواه أحمد في المسند برقم (11149)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده جيد؛ والحاكم في المستدرك برقم (1816) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد إلا أن الشيخين لم يخرجاه؛ وقال الألباني: حسن صحيح في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1633).

16 رواه البخاري برقم (5981)؛ ومسلم (2735).

17 سورة الأعراف (55).

18 تفسير القرطبي (2/309).

19 سورة الأنعام (41).

20 رواه مسلم برقم (2664).

21 سورة البقرة (186).

22 سورة فاطر (15).

23 سورة محمد (38).