سترة المصلي

 

 

 

 

ستـرة المصــلي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ:

فإنَّ السترة مشروعةٌ للمُصلِّي1، فينبغي للمسلم أن يصل إليها، ويدن منها، ولا يدع أحداً يمر بين يديه، وقد كان   يقف قريباً من السترة، فكان بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع2 و وبين موضع سجوده والجدار ممر شاة3.

وكان   يقول: “لا تصل إلا إلى سترة، ولا تدع أحداً يمر بين يديك، فإن أبى فلتقاتله؛ فإن معه القرين”4، وقال: ” إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته”5. وكان -أحياناً- يتحرى الصلاة عند الاسطوانة التي في مسجده6.

وفي صحيح مسلم،قال رسول الله  : “إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مُؤْخِرة الرَّحْل7؛ فليصل، ولا يبال من مر وراء ذلك“.

فليس على المصلي وزر إذا كان قد احتاط، فاتخذ سترة أمامه، ويحق له عند ذلك أن يدفع المار بين يديه، ففي “الصحيحين” أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: “إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفع في نحره،وليدرأ ما استطاع، فإن أبى، فليقاتله، فإنما هو شيطان“.

وقد حذَّر الرسول من المرور بين يدي المصلي، فقال رسول الله  : “لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه؛ لكان يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه”8.

وعن ابن عباس قال: أقبلت راكباً على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله   يصلي بالناس بمنى فمررت بين يدي الصف فنزلت، فأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك عليَّ أحد9.

ومن هذه الأحاديث نستخلص:

1- أن على الداخل إلى المسجد إذا أراد الصلاة منفرداً كان أو إماماً أن يبادر إلى جدار أو عمود من أعمدة المسجد، أو يضع شيئاً فيصلي إليه، وقد رأى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- رجلاً يصلي بين أسطوانتين، فأدناه إلى سارية، فقال: صلِّ إليه10، وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- يبتدرون السواري11، أي يصلون خلفها؛ ليجعلوها سترة لهم12.

2- السترة تكون في المسجد، وفي الفضاء للإمام والمنفرد، وأن سترة الإمام سترة لمن خلفه، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: هبطنا مع رسول الله   من ثنية أذاخر فحضرت الصلاة فصلى إلى جدار فاتخذه قبلة ونحن خلفه، فجاءت بهمة تمر بين يديه فما زال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدار ومرت من ورائه13.

3- لا تختص السترة بغير المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، بل تشملهما كذلك، قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- في “حجة النبي”ص 23: وأحاديث السترة لا تختص بسجد دون مسجد، ولا بمكان دون مكان، فهي تشمل المسجد الحرام،والمسجد النبوي من باب أولى، لأن هذه الأحاديث؛ إنما قالها رسول الله   في مسجده، فهو المراد بها أصالة، والمساجد الأخرى تبعاً، والأثران المذكوران -أي عن أنس، وعن ابن عمر- نصان صريحان على أن المسجد الحرام داخل في تلك الأحاديث.

وعليه فلا يتساهل البعض في أمر السترة في هذين المسجدين، إن أمكنه أن يصلي إليها، وكذلك لا يتساهل المار بين يدي المصلي فيهما وهو يجد مندوحة عن المرور بين يديه…

4- إن أراد أحد المرور بين يدي المصلـي فله منعه في قول أكثر أهل العلم منهم ابن مسعود وابن عمر وسالم، وهو قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي قال في المغني: “ولا أعلم فيه خلافاً”14

ثم هل المنع و” الْمُقَاتَلَةُ لِخَلَلٍ يَقَعُ فِي صَلاةِ الْمُصَلِّي مِنْ الْمُرُورِ، أَوْ لِدَفْعِ الإِثْم عَنْ الْمَارِّ ؟ الظَّاهِرُ الثَّانِي. وقيل: بَلْ الأَوَّل أَظْهَرُ، لأَنَّ إِقْبَالَ الْمُصَلِّي عَلَى صَلاتِهِ أَوْلَى لَهُ مِنْ اِشْتِغَالِهِ بِدَفْع الإِثْم عَنْ غَيْرِهِ”.15

وهل يستحب دفع المار بين يدي المصلي أم يجب؟ قيل يستحب وقيل يجب: قَالَ النَّوَوِيّ : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ قَالَ بِوُجُوبِ هَذَا الدَّفْعِ، بَلْ صَرَّحَ أَصْحَابنَا بِأَنَّهُ مَنْدُوب. اِنْتَهَى. وَقَدْ صَرَّحَ بِوُجُوبِهِ أَهَّلُ الظَّاهِرِ، فَكَأَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يُرَاجِعْ كَلامَهُمْ فِيهِ أَوْ لَمْ يَعْتَدَّ بِخِلافِهِمْ16. وهو مروي كذلك عن الإمام أحمد رحمه الله.

5- يشرع دفع المار ولو لم يكن هناك مسلك غَيْرُ الذي يريد المرور منه. يؤيد ذلك ما رواه البخاري من حديث أبي صالح السمان قال: رأيت أبا سعيد الخدري في يوم جمعة يصلي إلى شيء يستره من الناس فأراد شاب من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه فدفع أبو سعيد في صدره فنظر الشاب فلم يجد مساغاً إلا بين يديه فعاد ليجتاز فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى فنال من أبي سعيد ثم دخل على مروان فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد ودخل أبو سعيد خلفه على مروان فقال: ما لك ولابن أخيك يا أبا سعيد قال: سمعت النبي   يقول: إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان

6- حكم المار بين يدي المصلي كحكم العدو الصائل يدفع بما يرده، فقَوْله : فَلْيُقَاتِلْهُ ” أَيْ يَزِيدُ فِي دَفْعِهِ الثَّانِي أَشَدّ مِنْ الْأَوَّلِ”…. “وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِالسِّلَاحِ، لِمُخَالَفَةِ ذَلِكَ لِقَاعِدَةِ الْإِقْبَال عَلَى الصَّلَاةِ وَالِاشْتِغَالِ بِهَا وَالْخُشُوعِ فِيهَا ا.ه. وَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ حَقِيقَة وَاسْتَبْعَدَ اِبْن الْعَرَبِيِّ ذَلِكَ فِي ” الْقَبَسِ ”

وَقَالَ : الْمُرَادُ بِالْمُقَاتَلَةِ الْمُدَافَعَةِ. وَأَغْرَبَ الْبَاجِيُّ فَقَالَ : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَاد بِالْمُقَاتَلَةِ اللَّعْن أَوْ التَّعْنِيف. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّكَلُّمَ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ مُبْطِل، بِخِلَافِ الْفِعْلِ الْيَسِيرِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّهُ يَلْعَنُهُ دَاعِيًا لَا مُخَاطِبًا، لَكِنَّ فِعْلَ الصَّحَابِيِّ يُخَالِفُهُ، وَهُوَ أَدْرَى بِالْمُرَادِ…”17

قال في الفتح: وصَرَّحَ أَصْحَابُنَا فَقَالُوا : يَرُدُّهُ بِأَسْهَلِ الْوُجُوه ُ فَإِنْ أَبَى فَبِأَشَدَّ، وَلَوْ أَدَّى إِلَى قَتْلِهِ. فَلَوْ قَتَلَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الشَّارِعَ أَبَاحَ لَهُ مُقَاتَلَتَهُ، وَالْمُقَاتَلَةَ الْمُبَاحَةَ لَا ضَمَانَ فِيهَا. وَنَقَلَ عِيَاض وَغَيْره أَنَّ عِنْدَهُمْ خِلَافًا فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.

7- لا يجوز للمصلي المشي من مكانه ليدفعه، ونقل في ذلك الاتفاق، قال في الفتح: ” وَنَقَلَ اِبْن بَطَّال وَغَيْره الِاتِّفَاق عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لَهُ الْمَشْيُ مِنْ مَكَانه لِيَدْفَعَهُ، وَلا الْعَمَل الْكَثِير فِي مُدَافَعَتِهِ، لأَنَّ ذَلِكَ أَشَدّ فِي الصَّلاةِ مِنْ الْمُرُورِ”18.

8- وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَرَّ وَلَمْ يَدْفَعْهُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ، لِأَنَّ فِيهِ إِعَادَةً لِلْمُرُورِ، وَرَوَى اِبْن أَبِي شَيْبَة عَنْ اِبْن مَسْعُود وَغَيْره أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إِذَا رَدَّهُ فَامْتَنَعَ وَتَمَادَى، لَا حَيْثُ يُقَصِّرُ الْمُصَلِّي فِي الرَّدِّ.19

9- المرور بين يدي المصلي ينقص أجر الصلاة ولا يبطلها: “وَقَدْ رَوَى اِبْن أَبِي شَيْبَة عَنْ اِبْن مَسْعُود ” أَنَّ الْمُرُورَ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي يَقْطَعُ نِصْفَ صَلَاتِهِ ” وَرَوَى أَبُو نُعَيْم عَنْ عُمَرَ ” لَوْ يَعْلَمُ الْمُصَلِّي مَا يَنْقُصُ مِنْ صَلَاتِهِ بِالْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ مَا صَلَّى إِلَّا إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ”. فَهَذَانِ الْأَثَرَانِ مُقْتَضَاهُمَا أَنَّ الدَّفْعَ لِخَلَلٍ يَتَعَلَّقُ بِصَلَاةِ الْمُصَلِّي، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْمَارِّ، وَهُمَا وَإِنْ كَانَا مَوْقُوفَيْنِ لَفْظًا فَحُكْمُهُمَا حُكْم الرَّفْعِ، لِأَنَّ مِثْلَهُمَا لَا يُقَالُ بِالرَّأْي.

هذا والله نسأل أن يوفقنا للخير، وأن يجنبنا الضير، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.



1 – قال ابن رشد في كتابه بداية “المجتهد ونهاية المقتصد”(1/82): (واتفق العلماء بأجمعهم على استحباب السترة بين المصلي والقبلة إذا صلى منفرداً كان أو إماماً؛ وذلك لقوله -عليه الصلاة والسلام-: (إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل)، واختلفوا في الخط إذا لم يجد سترة,فقال الجمهور: ليس عليه أن يخط، وقال أحمد بن حنبل: يخط خطاً بين يديه)، وقال بوجوبها وأحمد في إحدى الروايتين عنه والبخاري، ومن المعاصرين العلامة الألباني، رحمة الله عليهم، انظر صفة صلاة النبي (صـ 82).

2 – البخاري، وأحمد.

3 – متفق عليه.

4 – صحيح ابن خزيمة، وقال الألباني: سنده جيد، انظر: صفة صلاة النبي (صـ 82).

5 – رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (643).

6 – صفة صلاة النبي للألباني (صـ 82).

7 – بضم الميم وكسر الخاء وهمزة ساكنة، وفيها لغات أخرى: وهي العود الذي في آخر الرحل.

8 – رواه الجماعة.

9 – رواه الجماعة.

10 – صحيح البخاري.

11 – صحيح البخاري.

12 – راجع: المسجد في الإسلام لخير الدين وانلي (صـ77-81).

13 – رواه أبو داود، وأحمد، وصححه الألباني في صفة صلاة النبي (صـ83).

14 – المغني لابن قدامة: 2/41

15 -( فتح الباري كتاب: الصلاة، باب: يرد المصلي من يمر بين يديه) مع تصرف في السياق.

16 – الفتح الموطن السابق.

17 – الفتح الموطن السابق، بتصرف.

18 – الفتح الموطن السابق.

19 – الفتح الموطن السابق.