مفسدات الصوم
الحمد لله على عظيم مننه، وصلى الله على سيدنا محمد عبده وخاتم أنبيائه ورسله، وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد:
فإن الله تعالى شرع الصيام لتزكية النفوس وتطهيرها من دنس الذنوب، وقربها من علام الغيوب، وحيث أن من المعروف أن لكل حكم أموراً تفسده فكذلك للصوم مفسدات تخرجه عن صورته الشرعية التي أرادها الله -عز وجل-.
وسيكون الكلام في هذا الدرس عن مفسدات الصيام، وقد جاء بعضها في قول الله سبحانه وتعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(187) سورة البقرة. و المفطرات تنقسم إلى نوعين:
1- ما يوجب القضاء فقط:
– الطعام – والشراب وما يلحق بهما.
فالأكل والشرب عمداً من المفطرات، وكذا السعوط -وهو إيصال الماء ونحوه إلى الجوف عن طريق الأنف- لقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (بالغ في الاستنشاق إلا أَن تكون صائماً)1. ومن أكل أو شرب ناسياً أنه صائم فالجمهور على أن صومه صحيح؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من أكل أو شرب وهو ناسٍ فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه)2 فهذا يدل على أن الناسي إذا أكل أو شرب في نهار رمضان أو غيره أن صيامه صحيح، لأن الناسي معذور، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)3.
2- ما يوجب القضاء والكفارة:
– الجماع:
الجماع في نهار رمضان عقوبته مغلظة، ففيه عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً. و الجماع: هو الإيلاج في فرج أصـلي سواء دبراً كان أو قبلاً، امرأة كانت أو رجلاً أو بهيمة، فهذه جريمة كبرى. وعليهما الكفارة على الترتيب لحديث أَبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "بينما نحن جلوس عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت. قال: (ما لك) قال: وقعت على امرأَتي وأَنا صائم، فقال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: (هل تجد رقبة تعتقها) قال: لا. قال: (فهل تستطيع أَن تصوم شهرين متتابعين) قال: لا، فقال: (فهل تجد إطعام ستين مسكيناً)4.
والصحيح أن الكفارة على الرجل والمرأة، لا على الرجل فقط، وقيل: هي على الرجل، لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يأمر المرأة بالكفارة، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. والجواب: أن الأصل أن المرأة مكلفة مثل الرجل، وعليها ما على الرجل إلا ما استثناه الشارع بالنص، كعدم وجوب الجمعة والجماعات، ووجوب الحجاب مثلاً. ولا ينتقل من وقع على أهله إلى الإطعام إلا بفتوى عالم معتبر، ويطعمهم أكلة مشبعة. فإن كان الزوج هو الذي أجبرها وأكرهها على الجماع بالقوة -وهي ممتنعة رافضة- أو هددها بالضرب أو الطلاق فعليه الكفارتين، لكنه لا يصوم عنها بل يعتق أو يطعم.
ومما يجدر الكلام عليه هنا أيضاً:
– إنزال المني بالمباشرة:
كالمفاخذة أو الاستمناء بأي طريقة كانت، وعليه التوبة من معصيته مع القضاء، ولا يحل له الأكل والشرب بقية يومه. أما من فكر فأنزل أو كرر النظر فأنزل فلا شيء عليه؛ لقوله – صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم -: (إِنَّ اللَّه تجاوز عن أمتي ما حدثت به أَنفسها ما لم تعمل أَو تتكلم)5. وسئل شيخ الإسلام – رحمه الله – عما إذا قبل زوجته أَو ضمها فأَمذى. هل يفسد ذلك صومه أَم لا؟ فأَجاب: "يفسد الصوم بذلك عند أَكثر العلماء"6واختار الشيخ أن المذي لا يفطر، وهو الصحيح. وقال ابن حزم أن من أنزل المني عامداً لا يفطر، وهو قول شاذ لا معول عليه، واستدل بأدلة غير واضحة. فالاستمناء مفسد للصوم عند الأئمة الأربعة، والدليل على ذلك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في الحديث القدسي: (يترك طعامه وشاربه وشهوته من أجلي)7. وهذا الذي يقع في هذا لم يدع الشهوة، فإذا أنزل المني فقد حصلت شهوته، وهي شهوة كبرى، وبناءً على ذلك يعتبر غير صائم، لأن الصائم ينبغي أن يدع هذه الشهوة، وعليه فإن الاستمناء يعتبر من موجبات الفطر. أما الاحتلام في النوم فإنه كمن ذرعه القيء.
– الإبر:
الأفضل ترك جميع الإبر خروجاً من الخلاف وإلا فالصحيح أنها لا تفطر.
وفي إبرة المغذي خلاف بين المعاصرين فذهب كثير منهم أنها تفطّر لأنها تغني عن الطعام والشراب، وذهب العلامة العثيمين إلى أنها لا تفطّر لأنها ليست طعاماً ولا بمعني الطعام؛ أما الشيخ السيد سابق فقد قال إنها لا تفطّر؛ لأن الجلد ليس بمدخل للطعام ولا الشراب. قال -رحمه الله- في مباحات الصيام: "الحقنة مطلقاً سواء أكانت للتغذية أم لغيرها وسواء أكانت في العروق أم كانت تحت الجلد فإنها وإن وصلت إلى الجوف فإنها تصل إليه من غير المنفذ المعتاد"8. ويُخرج من كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- أنها لا تفطر، قال شيخ الإسلام -رحمه الله- : "إذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى لا بد أن يبينها الرسول -صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم- بياناً عاماً، ولا بد أن تنقل الأمور ذلك، فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب، فلو كان هذا مما يفطر لبينه النبي – صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم – كما بين الإفطار بغيره فلما لم يبين ذلك علم أنه من جنس الطيب والبخور والدهن، والبخور يتصاعد إلى الأنف ويدخل الدماغ، وينعقد أجساماً، والدهن يشربه البدن ويدخل إلى داخله ويتقوى به الإنسان، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة.... والممنوع منه –أي الغذاء- إنما هو ما يصل إلى المعدة كالغذاء فيستحيل دماً ويتوزع على البدن"9. وقال العلامة محمد الصالح العثيمين: "قال بعض العلماء المعاصرين: إن الحقنة إذا وصلت إلى الأمعاء فإن البدن يمتصها عن طريق الأمعاء الدقيقة كالذي يصل إلى المعدة من حيث التغذي به، وهذا من حيث المعنى قد يكون قوياً، لكن لقائل أن يقول: إن العلة في تفطير الصائم بالأكل والشرب ليست مجرد التغذية، وإنما هي التغذية مع التلذذ بالأكل والشرب فتكون العلة مركبة من جزئين: أحدهما: الأكل والشرب. الثاني: التلذذ بالأكل والشرب لأن التلذذ بالأكل والشرب مما تطلبه النفوس، والدليل على هذا أن المريض إذا غذي بالإبر لمدة يومين أو ثلاثة تجده في أشد ما يكون شوقاً إلى الطعام والشراب مع أنه متغذٍّ، وبناء على هذا فليس ببعيد أن نقول إن الحقنة لا تفطر مطلقاً، ولو كان الجسم يتغذى بها عن طريق الأمعاء الدقيقة. فيكون القول الراجح في هذه المسألة قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مطلقاً، ولا التفات إلى ما قال بعض المعاصرين"10 ومما سبق يظهر أن الإبرة المغذية لا تفطر لأنها ليست بدلاً كاملاً عن الطعام والشراب بفارق التلذذ بالطعام وعدمه في الإبر؛ وكذا إن الطعام دخل من غير المنفذ المعتبر شرعاً وهو الفم والأنف فقط.
– القطرة الطبية:
القطرة إما أن تكون في العين أو الأنف أو الأذن. فأما قطرة الأنف فيفطر بها الصائم لأن الأنف منفذ يصل إلى المعدة لحديث لقيط بن صبرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) وقد سبق. أما قطرة الأذن والعين فلا تفطر على الصحيح من أقوال أهل العلم لأن الأذن والعين ليسا منفذين للجوف.
– القيء:
روى أبو هريرة -رضي الله عنه -أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من استقاء عمداً فليقض، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه)11. وهذا الحديث يبين أن القيء إما أن يتعمده الإنسان فيستقيء -كمن أدخل أصبعه، أو أكل حبة للقيء قبل وقت الصيام ثم قاء في زمن الصيام أو شم رائحة خبيثة، أو حرك بطنه، أو أي فعل فعله بنفسه ليخرج ما في جوفه- فهذا مفطر على رأي جمهور العلماء. وإما أن يكون القيء تلقائياً بحيث يغلب الإنسان فلا يستطيع دفعه، ففي تلك الحالة لا يفطر. وفيه خلاف قوي، وعلة الخلاف هو الحديث فمن صححه قال بنقض صيام من قاء عمداً، ومن ضعفه قال بعدم نقض صيامه. والحديث مقبول يعمل به -فقد أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود- قال الترمذي -رحمه الله- : "والعمل عند أَهل العلم على حديث أَبي هريرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم -أَن الصائم إذا ذرعه القيء فلا قضاء عليه، وإذا استقاء عمداً فليقض، وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأَحمد وإسحق. وهو الأقرب والله أعلم12.
– الحجامة للصائم: الحجامة: وهي إخراج الدم الفاسد من الجسد، فقد جاء في حديث أحمد وأبي داود منها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أفطر الحاجم والمحجوم)13 وهذا الحديث رواه بضعة عشر من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أوصلهم الإمام الحافظ الزيلعي إلى ثمانية عشر من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كلهم روى عنه هذا الحديث إلا أن أكثر هذه الأحاديث ضعيفة، ولا تقوي سنده؛ ولكن هناك أحاديث حكم بتحسينها وجزم بعض العلماء والحفاظ بتصحيحها، فقد صححها الإمام أحمد -رحمة الله عليه- والإمام البخاري حُكي عنه تصحيح حديث الحجامة في الفطر وغيرهما من الأئمة. وعليه فقد ذهب الحنابلة ومن وافقهم إلى أن الحجامة تفطر الصائم. وذهب الشافعية ومن وافقهم إلى أن الحجامة لا تفطر، وقالوا: إن هذا الحديث إن صح فهو منسوخ. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: " أما الحاجم فإنه يجتذب الهواء الذي في القارورة بامتصاصه، والهواء يجتذب ما فيها من الدم فربما صعد مع الهواء شيء من الدم فدخل في حلقه وهو لا يشعر، والحكمة إذا كانت خفيفة أو منتشرة علق الحكم بالمظنة كما أن النائم الذي يخرج منه الريح ولا يدري يؤمر بالوضوء، فكذلك الحاجم يدخل شيء من الدم مع ريقه إلى باطنه وهو لا يدري .... وكذلك لو قُدّر حاجم لا يمتص القارورة، بل يمص غيره أو يأخذ الدم بطريق آخر لم يفطر"14.وعلى هذا ففي هذا الزمان الأصل عدم فطر الحجام لأن أكثرهم لا يمص القارورة، بل يستعمل أدوات خاصة لمص الدم. ويبقى حكم المحجوم أو كل من سحب منه دم كثير كالتبرع، فالأحسن أن يؤخر التبرع أو الحجامة بعد فطره؛ وإن احتجم أو تبرع قبل فطره فضعف صار حكمه حكم المريض، فالأولى له الفطر. بل إن إصراره على الصيام فيه جفاء عن أمر الله، ويصدق عليه قول الشافعي -رحمه الله- فيمن صام وهو مسافر وقد أنهكه السفر- : وإنما معنى قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- : (ليس من البر الصيام في السفر)15 وقوله حين بلغه أَن ناساً صاموا فقال: (أولئك العصاة)16 فوجه هذا إِذا لم يحتمل قلبه قبول رخصة اللَّه. فمن احتجم وأصر على الصيام مع أن الصيام يجهده فقد رفض رخصة الله ولم يقبلها قلبه وكذا من بين له طبيب أن تبرعه بالدم سيمرضه فالأحسن له الفطر. أما من لم تمرضه الحجامة أو ما كان في معناها ذلك فلا حرج عليه في إتمام صيامه؛ فقد أخرج البخاري عن أَنس بن مالكٍ -رضي الله عنه- أنه سئل:"أَكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، إلا من أَجل الضعف" وزاد شبابة حدثنا شعبة على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد احتجم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو صائم فقد أخرج البخاري -رحمه الله- عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما – أَن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم"17.18
هذا ما تيسر جمعه في الكلام على مفسدات الصيام وما يتعلق بها أسأل الله -عز وجل- أن يفقهنا في الدين، ويتولانا ويرحمنا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 – سنن أبي داود – (ج 1 / ص 179 – 123) وسنن الترمذي – (ج 3 / ص 271 – 718) وسنن النسائي – (ج 1 / ص 158 – 86) وسنن ابن ماجه – (ج 1 / ص 494 – 401) ومسند أحمد – (ج 33 / ص 121 – 15785) وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: 927.
2 – صحيح البخاري – (ج 20 / ص 360 – 6176) و صحيح مسلم – (ج 6 / ص 28 – 1952)
3 – سنن ابن ماجه – (ج 6 / ص 217 – 2035) وصححه الألباني في المشكاة ( 6284 ) والروض النضير ( 404 ) والإرواء ( 82 )
4 – صحيح البخاري – (ج 7 / ص 24 – 1800)
5 – صحيح البخاري – (ج 16 / ص 316 – 4864)
6 – مجموع فتاوى ابن تيمية – (ج 6 / ص 91)
7 – صحيح البخاري – (ج 6 / ص 457 – 1761)
8 – فقه السنة – (ج 1 / ص 461)
9 – [حقيقة الصيام – شيخ الإسلام – 52]
10 – الشرح الممتع كتاب الصيام
11 – سنن الترمذي – (ج 3 / ص 162 – 653) وسنن ابن ماجه – (ج 5 / ص 186 – 1666) ومسند أحمد – (ج 21 / ص 102 – 10058) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة ( 1676 )
12 – سنن الترمذي – (ج 3 / ص 162 – 653)
13 – سنن أبي داود – (ج 6 / ص 327 – 2023) وسنن الترمذي – (ج 3 / ص 249 – 705) وسنن ابن ماجه – (ج 5 / ص 191 – 1669) ومسند أحمد – (ج 17 / ص 455 – 8413) وصححه الألباني في صحيح أبي داود – (ج 5 / ص 367)
14 – مجموع فتاوى ابن تيمية – (ج 6 / ص 86)
15 – سنن أبي داود – (ج 6 / ص 374 – 2055)
16 – صحيح مسلم – (ج 5 / ص 436- 1878)
17 – صحيح البخاري – (ج 7 / ص 28 – 1802)