الاجتهاد في العشر الأخيرة من رمضان

الاجتهاد في العشر الأخيرة من رمضان

الحمد لله عالم السر والجهر، وقاصم الجبابرة بالعز والقهر، مُحْصي قطرات الماء وهو يجري في النهر، وباعث ظلام الليل ينسخه نور الفجر، موفِّر الثواب للعابدين ومكمِّل الأجر، العالم بخائنة الأعين وخافية الصدر، شمل برزقه جميع خلقه فلم يترك النمل في الرمل ولا الفرخ في الوكر، أغنى وأفقر وبحكمته وقوع الغنى والفقر، وفضَّل بعض المخلوقات على بعض حتى أوقات الدهر، ليلة القدر خير من ألف شهر، والصلاة والسلام على النبي المصطفى وآله وصحبه النجوم الزهر …أما بعد:

فإن عشر رمضان الأخيرة فيها الخيرات والأجور الكثيرة، فيها الفضائل المشهورة والخصائص العظيمة, فمن خصائصها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها، فعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ"1.

وعنها –رضي الله عنها- قالت: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ"2.

ففي هذه الأحاديث دليل على فضيلة هذه العشر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجتهد فيه أكثر مما يجتهد في غيره، وهذا شامل للاجتهاد في جميع أنواع العبادة من صلاة وقرآن وذكر وصدقة وغيرها، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحيي ليله بالقيام والقراءة والذكر بقلبه ولسانه وجوارحه؛ لشرف هذه الليالي وطلباً لليلة القدر التي من قامها إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وظاهر هذا الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- يحيي الليل كله في عبادة ربه من الذكر والقراءة والصلاة والاستعداد لذلك والسحور وغيرها، وبهذا يحصل الجمع بينه وبين ما في صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ"3 ؛ لأن إحياء الليل الثابت في العشر يكون بالقيام وغيره من أنواع العبادة، والذي نفته إحياء الليل بالقيام فقط، والله أعلم.

ومما يدل على فضيلة العشر من هذه الأحاديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله فيه للصلاة والذكر حرصاً على اغتنام هذه الليالي المباركة بما هي جديرة به من العبادة، فإنها فرصة العمر وغنيمة لمن وفقه الله -عز وجل- فلا ينبغي للمؤمن العاقل أن يفوت هذه الفرصة الثمينة على نفسه وأهله، فما هي إلا ليال معدودة ربما يدرك الإنسان فيها نفحة من نفحات المولى فتكون سعادة له في الدنيا والآخرة.

وإنه لمن الحرمان العظيم والخسارة الفادحة أن ترى كثيراً من المسلمين يُمْضُون هذه الأوقات الثمينة فيما لا ينفعهم، يسهرون معظم الليل في اللهو الباطل, فإذا جاء وقت القيام ناموا عنه وفوَّتوا على أنفسهم خيراً كثيراً لعلهم لا يدركونه بعد عامهم هذا أبداً، وهذا من تلاعب الشيطان بهم ومكره بهم وصده إياهم عن سبيل الله وإغوائه لهم، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (42) سورة الحجر.

والعاقل لا يتخذ الشيطان ولياً من دون الله مع علمه بعداوته له؛ فإن ذلك مناف للعقل والإيمان, قال الله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} (50) سورة الكهف. وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (6) سورة فاطر.

ومن خصائص هذه العشر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف فيها، والاعتكاف هو لزوم المسجد للتفرغ لطاعة الله -عز وجل- وهو من السنن الثابتة بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- قال الله -عز وجل-: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (187) سورة البقرة. واعتكف النبي -صلى الله عليه وسلم- واعتكف أصحابه معه وبعده، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم قال: (إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ, ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِي إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ) فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ»4.

وعن عائشة -رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ, ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ»5.

وعنها –أيضاً- قالت: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانٍ عَشْرَةَ أَيَّامٍ, فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا»6.

وعن أنس -رضي الله عنه- قال: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ, فَلَمْ يَعْتَكِفْ عَامًا فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ»7.

والمقصود بالاعتكاف: انقطاع الإنسان عن الناس ليتفرغ لطاعة الله في مسجد من مساجده طلباً لفضله وثوابه وإدراك ليلة القدر، ولذلك ينبغي للمعتكف أن يشتغل بالذكر والقراءة والصلاة والعبادة، وأن يتجنب ما لا يَعنيه من حديث الدنيا، ولا بأس أن يتحدث قليلا بحديث مباح مع أهله أو غيرهم لمصلحة،لحديث صفية أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ فَانْقَلَبْتُ فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي …الحديث»8.

*ومن خصائص هذه العشر المباركة أن فيها ليلة القدر التي شرَّفها الله على غيرها ومَنَّ على هذه الأمة بجزيل فضلها وخيرها، أشاد الله بفضلها في كتابه المبين فقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ* لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ   {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} (3-8) سورة الدخان.

وصفها الله سبحانه بأنها مباركة لكثرة خيرها وبركتها وفضلها، ومن بركتها أن هذا القرآن المبارك أُنْزِل فيها، ووصفها سبحانه بأنه يفرق فيها كل أمر حكيم، يعني يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكَتَبَة ما هو كائن من أمر الله سبحانه في تلك السنة من الأرزاق والآجال والخير والشر وغير ذلك من كل أمر حكيم من أوامر الله المحكمة المتقنة، التي ليس فيها خلل ولا نقص ولا سفه ولا باطل ذلك تقدير العزيز العليم. وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (1-5) سورة القدر.

القدر بمعنى الشرف والتعظيم، أو بمعنى التقدير والقضاء؛ لأن ليلة القدر شريفة عظيمة يقدِّر الله فيها ما يكون في السنة ويقضيه من أموره الحكيمة.

{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} يعني في الفضل والشرف وكثرة الثواب والأجر، ولذلك كان مَنْ قامها إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدم من ذنبه.

{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} الملائكة عباد من عباد الله قائمون بعبادته ليلاً ونهاراً {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ* يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} (19-20) سورة الأنبياء. يتنزلون في ليلة القدر إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة، (والروح) هو جبريل -عليه السلام- خصه بالذكر لشرفه وفضله.

{سَلَامٌ هِيَ} يعني أن ليلة القدر ليلة سلام للمؤمنين من كل مخوف لكثرة من يُعتق فيها من النار، ويسلم من عذابها.

{حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} يعني أن ليلة القدر تنتهي بطلوع الفجر لانتهاء عمل الليل به.

وفي هذه السورة الكريمة بيان لفضائل متعددة لليلة القدر:

* الفضيلة الأولى: أن الله أنزل فيها القرآن الذي به هداية البشر وسعادتهم في الدنيا والآخرة.

* الفضيلة الثانية: ما يدل عليه الاستفهام من التفخيم والتعظيم في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} .

* الفضيلة الثالثة: أنها خير من ألف شهر.

* الفضيلة الرابعة: أن الملائكة تتنزل فيها وهم لا ينزلون إلا بالخير والبركة والرحمة.

* الفضيلة الخامسة: أنها سلام لكثرة السلامة فيها من العقاب والعذاب بما يقوم به العبد من طاعة الله -عز وجل-.

* الفضيلة السادسة: أن الله أنزل في فضلها سورة كاملة تُتْلَى إلى يوم القيامة.

* ومن فضائل ليلة القدر ما ثبت عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)9.

فقوله: (إيماناً واحتساباً) يعني إيماناً بالله وبما أعد الله من الثواب للقائمين فيها، واحتساباً للأجر وطلب الثواب، وهذا حاصل لمن علم بها ومن لم يعلم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يشترط العلم بها في حصول هذا الأجر.

وقد أخفى سبحانه علمها على العباد رحمة بهم؛ ليكثر عملهم في طلبها في تلك الليالي الفاضلة بالصلاة والذكر والدعاء فيزدادوا قربة من الله وثواباً، وأخفاها اختباراً لهم أيضا ليتبين بذلك من كان جاداً في طلبها حريصاً عليها ممن كان كسلان متهاوناً، فإن من حرص على شيء جد في طلبه وهان عليه التعب في سبيل الوصول إليه والظفر به.

وربما يُظْهِر الله علمها لبعض العباد بأمارات وعلامات يراها كما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- علامتها أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين، فنزل المطر في تلك الليلة فسجد في صلاة الصبح في ماء وطين10.

وفق الله الجميع إلى مرضاته, وأعاننا جميعاً على قيام هذه الليالي إيماناً واحتساباً, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين11.


1 رواه مسلم -2009- (6/96).

2 رواه البخاري -1884- (7/153) ومسلم -2008- (6/95).

3 صحيح مسلم -1235- (4/106).

4 رواه مسلم -1994- (6/77).

5 رواه البخاري –1886-(7/157) ومسلم -2006- (6/91).

6 رواه البخاري -1903- (7/190).

7 رواه الترمذي -732- (3/295) وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم(803).

8 رواه البخاري -3039- (11/59) ومسلم -4041- (11/151).

9 رواه البخاري -1768-(6/468) ومسلم -1268- (4/146).

10 رواه البخاري -1877- (7/143).

11استفيد الموضوع من كتاب: (مجالس شهر رمضان لفضيلة الشيخ(محمد بن صالح العثيمين) بتصرف.