عتقاء من النار

عتقاء من النار

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أمَّا بعد:

فقد قال – صلى الله عليه وسلمَّ -: ((إن لله – تعالى – عتقاء في كل يوم وليلة – يعني في رمضان -، وإنَّ لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة))1، وقال – صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ لله – عز وجل – عند كل فطر عتقاء))2 فحري بمن سمع بهذا الحديث أن يبذل قصارى جهده في الإتيان بالأسباب التي بها فكاك رقبته من النَّار، لاسيما في هذا الزمان الشريف حيث رحمة الله السابغة، فيا باغي الخير هلمَّ أقبل فقد صفدت الشياطين، وغلقت النيران، وفتِّحت أبواب الجنة، فيا لعظم رحمة الله!! أي ربٍ كريم مثل ربِّنا، له الحمد والنعمة والثناء الحسن.

كم لله من عتقاء كانوا في رق الذنوب والإسراف فأصبحوا بعد ذل المعصية بعز الطاعة من الملوك والأشراف، وكم له من عتقاء صاروا من ملوك الآخرة بعدما كانوا في قبضة السعير، فيا أرباب الذنوب العظيمة؛ الغنيمة الغنيمة في هذه الأيام الكريمة فما منها عوض و لا تقدَّر بقيمة، فمن يعتق فيها من النار فقد فاز بالجائزة العظيمة.

بشراك بأعظم بشارة كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لأبي بكر – رضي الله عنه -: ((أنت عتيق الله من النار))3، ولا يُلقاها إلا ذو حظ عظيم، فعسى أسير الأوزار يطلق، عسى من استوجب النار يعتق، جعلني اللهُ وإياك منهم.

وقد دلنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على أعمال إذا قمنا بها كانت سبباً لعتق رقابنا من النَّار، وقد جمعنا لك منها عشرة أسباب لتعمد إليها، وتحاول القيام بها جميعاً، ضعها نصب عينيك، وحاول أنْ تجعل منها برنامجاً يومياً، ومشروعاً إيمانياً، حيث دراسة جدواها تقول: إنَّ أرباحها لا نظير لها، ولا مثيل لضخامتها، إنَّه "العتق من النار" قال – تعالى -: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}4 وإليك بعض أسباب العتق، وقد بقي منك العمل، فلا تفتر فإنَّها أعظم جائزة، وأفضل غنيمة، ومن هذه الأسباب:

1- الإخلاص:

قال – صلى الله عليه وسلم -: ((لن يوافي عبد يوم القيامة يقول: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله إلا حرَّم الله عليه النار))5، ومن أظهر علاماته: النشاط في طاعة الله، وأنْ يحب أن لا يطلع على عمله إلا الله.

قيل لذي النون: متى يعلم العبد أنَّه من المخلصين؟ قال: "إذا بذل المجهود في الطاعة، وأحب سقوط المنزلة عند النَّاس"، فإذا أردت الفوز بهذه المنزلة العظيمة فجدَّ واجتهد، وشد المئزر، وأرِ الله من نفسك شيئاً يبلغك رضاه، وبقدر ما تتعنى تنال ما تتمنى، وعلى قدر جدِّك يكون جدُّك، قال الصديق أبو بكر – رضي الله عنه -: "والله ما نمت فحلمت، ولا توهمت فسهوت، وإنِّي لعلى السبيل ما زغت"، وقيل للربيع بن خثيم: لو أرحت نفسك؟ قال: راحتها أريد.

فجُد بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايتك، وتحقيق بغيتك؛ فالمكارم منوطة بالمكاره، والمصالح والخيرات لا تُنال إلا بحظ من المشقة، ولا يُعبر إليها إلا على جسر من التعب، فإن كل شيء نفيس يطول طريقه، و يكثر التعب في تحصيله؛ يقول ابن الجوزي في "صيد الخاطر": "فلله أقوام ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعها، فهم يبالغون في كل علم، ويجتهدون في كل عمل، ويثابرون على كل فضيلة، فإذا ضعفت أبدانهم عن بعض ذلك قامت النيات نائبة، وهم لها سابقون"، ويقول: "ولقد تأملت نيل الدر من البحر فرأيته بعد معاناة الشدائد، ومن تفكر فيما ذكرته مثلاً بانت له أمثال، فالموفق من تلمح قصر الموسم المعمول فيه، وامتداد زمان الجزاء الذي لا آخر له، فانتهب حتى اللحظة، وزاحم كل فضيلة، فإنها إذا فاتت فلا وجه لاستدراكها".

نعم إذا كنت مخلصاً صادقاً فسيكون رد فعلك واضحاً قوياً، فإذا قرأت تلك الأسباب للعتق من النّاًر مثلاً؛ شمَّرت عن ساعد الجد للإتيان بها جميعاً، وسوف تتأمل عظم النار، وشدة ما فيها من عذاب، وتشفق على نفسك أن يكون هذا مصيرها، فستسعى إن كنت تريد الله واليوم الآخر، وستكد وستجتهد، وتتحمل المشاق من أجل أن تفوز بهذا الفضل الذي لا يضاهى ولا يماثل.

2- إصلاح الصلاة بإدراك تكبيرة الإحرام:

قال – صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق))6، وهذا مشروع إيماني ينبغي أن تفرغ له نفسك، إنها مائتا صلاة، فاعتبرها مائتي خطوة إلى الجنة، فهل لا تستحق سلعة الله الغالية أنْ تتفرغ لها؟ وطريقك إلى ذلك أن تتخفف من أعباء الدنيا طوال هذه المدة، وعليك بالدعاء مع كل صلاة أن يرزقك الله الصلاة التالية لتدرك تكبيرة الإحرام فيها.

واعلم أنَّ إصلاح النَّهار سبيل إلى إصلاح الليل، والعكس صحيح، وهذا يكون باجتناب الذنوب، والحرص على الطاعات ووظائف الوقت من أذكار ونحوها، فقط اجعل الأمر منك على بال، واجتهد في تحقيقه، واستعن بالله ولا تعجز، فإن تعثرت في يوم فاستأنف ولا تمل، فإنَّها الجنة، إنَّه العتق من النار، والسلامة من الدرك الأسفل فيها.

3- المحافظة على صلاتي الفجر والعصر:

قال – صلى الله عليه وسلم -: ((لن يلج النار أحد صلَّى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها – يعني الفجر والعصر))7، وهذا بأن تصليهما في أول الوقت، وتحافظ على أداء السنة قبلهما قال – صلى الله عليه وسلم -: ((ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها))8، وقال – صلى الله عليه وسلم -: ((رحم الله امرءاً صلَّى قبل العصر أربعاً))9، وعليك أن تكثر من الدعاء والاستغفار بين الأذان والإقامة لتتهيأ للصلاة فترزق فيها الخشوع والخضوع، فمداومتك على هذا سبب عظيم لاستقامة الحال مع الله، فعظِّم شأن هاتين الصلاتين، واستعن على أداء الفجر بالنوم مبكراً، والنوم على طهارة، والأخذ بأذكار قبل النوم، والدعاء بأن يهبك الله هذا الرزق العظيم، واستعن على أداء العصر بأن لا ترتبط بأعمال ترهقك أو تشغل خاطرك، ولكن حاول دائماً على قدر المستطاع أن تستجم إيمانياً في تلك الساعة من النهار.

4- المحافظة على أربع ركعات قبل الظهر وبعده:

قال – صلى الله عليه وسلم -: ((من يحافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرَّمه الله على النار))10، وهذا الفضل لا يحصل إلا لمن حافظ على هذه الركعات، وبعض العلماء يرى أنَّها سنة مؤكدة لما لها من جزاء عظيم، فإذا وجدت نفسك تستصعب هذا فذكرها بـ"حرَّمه الله على النار"، وألح عليها تعتاده، وإنه ليسير على من وفقه الله – تعالى -.

5- البكاء من خشية الله – تعالى -:

قال – صلى الله عليه وسلم -: ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري مسلم أبداً))11، فهنيئاً لك إذا صحت لك دمعة واحدة من خشية الله، فإنَّ القلوب تغسل من الذنوب بماء العيون، والبكاء قد يكون كثيراً لاسيما في رمضان، ومع سماع القرآن في صلاة التراويح والتهجد، ولكن كما قال سفيان الثوري: "إذا أتى الذي لله مرة واحدة في العام فذلك كثير"، ويكفي أنَّ من رزق تلك الدمعة قد اختصه الله بفضل لا يبارى فيه فهو في ظل عرش الرحمن يوم الحشر، فإنَّ من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظلَّ إلا ظله ((ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه))12"

والله يحب صنيعه هذا، وقد يكون هذا سبباً في أن يحبه الله – تعالى -، وساعتها لا تسأل عن نعيمه وفضله قال – صلى الله عليه وسلم -: ((ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين، قطرة من دموع في خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله، وأما الأثران فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله))13.

قال خالد بن معدان: "إنَّ الدمعة لتطفئ البحور من النيران، فإنْ سالت على خد باكيها لم ير ذلك الوجه النَّار، وما بكى عبد من خشية الله إلا خشعت لذلك جوارحه، وكان مكتوباً في الملأ الأعلى باسمه واسم أبيه، منوراً قلبه بذكر الله"14 فنعوذ بالله من عين لا تدمع من خشيته، ونسأله عيناً بالعبرات مدرارة، وقلباً خاشعاً مخبتاً.

6- مشي الخطوات في سبيل الله:

عن يزيد بن أبي مريم – رضي الله عنه – قال: لحقني عباية بن رفاعة بن رافع – رضي الله عنه – وأنا أمشي إلى الجمعة فقال: أبشر فإن خطاك هذه في سبيل الله، سمعت أبا عبس يقول: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((من اغبرت قدماه في سبيل الله فهما حرام على النار))15، فاحتسب كل خطوة تخطوها في سبيل الله، ممشاك إلى المسجد، وأعظمها تلك الخطوات إلى ميادين الجهاد، ومحاربة أهل الفساد، والبغي والعناد، والخطوات إلى صلاة الجمعة قال – صلى الله عليه وسلم -: ((من غسَّل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع وأنصت، ولم يلغ؛ كان له بكل خطوة يخطوها من بيته إلى المسجد عمل سنة أجر صيامها وقيامها))16، وقد قيل: إنَّ هذا أعظم حديث في فضائل الأعمال، فهنيئاً لك تلك الخطوات إن كانت في سبيل الله، فاحتسب خطاك في الدعوة إلى الله، وإغاثة الملهوف، وقضاء حاجة أخيك المسلم، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، ونحوها مما تقتضي منك العرق والجهد، فلعلك بها تُعتق من النار.

7- ارم بسهم في سبيل الله:

قال – صلى الله عليه وسلم -: (( أيما مسلم رمى بسهم في سبيل الله فبلغ مخطئاً أو مصيباً فله من الأجر كرقبة))17 هذا لمن كتب عليهم الجهاد، وقد استدل به العلماء على فضل الرماية وتعلمه18، أمَّا إذا لم تكن منهم فقد قال – تعالى -: {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً}19 أي بالقرآن، وهذا جهاد العلم والدعوة، فارم بسهمك في الدعوة إلى سبيل الله، فلئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من كل خيرات الدنيا، والدال على الخير كفاعله.

وارم بسهمك في الذود عن كتاب الله بالمساعدة في إنشاء دور تحفيظ القرآن بطبع ونشر المصاحف.

وارم بسهمك في الذب عن سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – برعاية طلبة العلم، والنفقة عليهم ليقوموا بهذا العبء الثقيل، وانشر كتب السنة، وتفقّه حتى لا يكون لأحدٍ سبيل إلى السنة المطهرة وفيك عين تطرف.

8- سماحة الأخلاق:

قال – صلى الله عليه وسلم -: ((من كان هينا ليناً قريباً حرمه الله على النار))20، قال المناوي: ومن ثم كان المصطفى – صلى الله عليه وسلم – في غاية اللين، فكان إذا ذكر أصحابه الدنيا ذكرها معهم، وإذا ذكروا الآخرة ذكرها معهم، وإذا ذكروا الطعام ذكره معهم21، وكان كما قال الله – تعالى -: {بِالْمُؤْمِنِينَ رؤوف رَّحِيمٌ}22، فكن سمحاً في سائر معاملاتك مع النَّاس، باشاً في وجوههم، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، حليماً غير غضوب، لين الجانب، قليل النفور، طيب الكلم، رقيق الفؤاد، فإذا اشتد أخوك فعامله بالرفق لا الخشونة، ولا تنسَ "إنَّه العتق من النار".

9- إحسان تربية البنات أو الأخوات:

قال – صلى الله عليه وسلم -: ((ليس أحد من أمتي يعول ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فيحسن إليهن إلا كنَّ له ستراً من النار))23، وقال – صلى الله عليه وسلم -: ((من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جدّته؛ كنَّ له حجاباً من النار يوم القيامة))24.

فاحتسب سعيك في طلب الرزق لتنفق على أولادك أو أخواتك، واحتسب كل وقت تبذله في تربيتهم، ولكن احذر من عدم الإخلاص؛ فأنت تربيهم لله ليكونوا عباداً لله لا ليكونوا ذخراً لك، أو حتى تتباهى بهم أمام النَّاس، وسيظهر ذلك في اهتمامك بتعليمهم أمور دينهم، بتحفيظهم القرآن، باهتمامك بحجاب الفتيات، وتعويدهن خصال الخير والبر، ولو أحسنت النية فستوفق إن شاء الله.

10- اعتق .. تُعتق:

فقد مضت الحكمة الإلهية والسنة الربانية بأنَّ الجزاءَ من جنس العَمل، فمن أراد أنْ يُعتق غداً من النَّار فليقدم قرابينه فيسعى في عتق الأنفسِ قال – صلى الله عليه وسلم -: ((أيما امرئ مسلم أعتق امرءاً مسلماً فهو فكاكه من النار، يجزي بكل عظم منه عظماً منه، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة فهي فكاكُها من النار، يجزي بكل عظم منها عظماً منها، وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين فهما فكاكه من النار، يجزي بكل عظمين منهما عظماً منه))25

وإذا كان هذا متعذراً في زماننا فإنَّ فضل الله لا ينقطع، فثمَّ أعمال صالحة إذا قام بها العبد كانت كعتق الرقاب، فهذه قرابينك يا منْ تريد عتقاً، عسى أنْ تقبل فأبشر حينها بكل خير.

اللهم اجعلنا من عتقائك من النار إنك عزيز غفار، والحمد لله رب العالمين.


 


1 رواه الإمام أحمد وصححه الألباني برقم (2169) في صحيح الجامع.

2 رواه الإمام أحمد وحسنه الألباني برقم (2170) في صحيح الجامع.

3 رواه الترمذي والحاكم وصححه الألباني (1482) في صحيح الجامع.

4 آل عمران (185).

5 رواه البخاري برقم (5943).

6 رواه الترمذي، وحسنه الألباني برقم (6365) في صحيح الجامع.

7 رواه مسلم برقم (1003).

8 رواه مسلم برقم (1913).

9 رواه أبو داود والترمذي، وحسنه الألباني برقم (3493) في صحيح الجامع.

10 رواه أبو داود والنسائي والترمذي، وصححه الألباني (584) في صحيح الترغيب.

11 رواه الترمذي والنسائي، وصححه الألباني (7778) في صحيح الجامع.

12 رواه مسلم برقم (1712).

13 أخرجه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1363).

14 الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا ص(48).

15 رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وصححه الألباني (687) في صحيح الترغيب.

16 أخرجه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم، وصححه الألباني (6405) في صحيح الجامع.

17 رواه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني (2739) في صحيح الجامع.

18 الفروسية لابن القيم ص138.

19 الفرقان (52).

20 رواه الحاكم، وصححه الألباني (1745) في صحيح الترغيب.

21 فيض القدير (6/207).

22 التوبة (12).

23 رواه البيهقي، وصححه الألباني (5372) في صحيح الجامع.

24 رواه الإمام أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني (6488) في صحيح الجامع.

25 رواه الطبراني وأبو داود وابن ماجه والترمذي، وصححه الألباني (2700).