رمضان شهر الدعاء

رمضان شهر الدعاء

الحمد لله مجيب الدعوات، وكاشف الكربات، والصلاة والسلام على أزكى البريات، أما بعد:

فإن شأنَ الدعاءِ عظيم، ونفْعَهُ عميم، ومكانتَه عاليةٌ في الدين، فما استُجْلِبت النعمُ بمثله، ولا استُدْفِعت النِّقَمُ بمثله، ذلك أنه يتضمن توحيد الله، وإفراده بالعبادة دون من سواه، وهذا رأس الأمر، وأصل الدين، وإن شهرَ رمضانَ لفرصةٌ سانحة، ومناسبة كريمة مباركة يتقرب فيها العبد إلى ربه بسائر القربات، وعلى رأسها الدعاء؛ ذلكم أن مواطن الدعاء، ومظانَّ الإجابة؛ تكثر في هذا الشهر؛ فلا غَرْوَ أن يُكْثِر المسلمون فيه من الدعاء، ولعل هذا هو السر في ختم آيات الصيام بالحثّ على الدعاء حيث يقول ربنا ​​​​​​​ : وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ1.

وإليكم معاشر الصائمين هذه الوقفات اليسيرة مع مفهوم الدعاء وفضله:

أيها الصائمون: الدعاء هو أن يطلبَ الداعي ما ينفعُه، وما يكشف ضُرَّه؛ وحقيقته إظهار الافتقار إلى الله، والتبرؤ من الحول والقوة، وهو سمةُ العبوديةِ، واستشعارُ الذلةِ البشرية، وفيه معنى الثناءِ على الله ​​​​​​​، وإضافةِ الجود والكرم إليه.

أما فضائلُ الدعاءِ، وثمراتُه، وأسرارُه؛ فلا تكاد تحصر؛ لأن الدعاءُ طاعةٌ لله، وامتثال لأمره قال الله ​​​​​​​: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ2. والدعاء عبادة قال النبي الدعاء هو العبادة3.

والدعاء سلامة من الكبر: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ، كما أن الدعاءُ أكرمُ شيءٍ على الله قال النبي  : ليس شيءٌ أكرم على الله ​​​​​​​  من الدعاء4.

والدعاء سبب لدفع غضب الله قال النبي : من لم يسألِ اللهَ يَغْضَبْ عليه5.

والدعاء سبب لانشراح الصدر، وتفريج الهم، وزوال الغم، وتيسير الأمور، ولقد أحسن من قال:

وإني لأدعو اللهَ والأمـرُ ضيّقٌ عليَّ فمــا ينفك أن يتفرّجا
وربَّ فتىً ضاقتْ عليه وجوهُهُ أصاب له في دعوة الله مَخْرَجاً

والدعاء دليل على التوكل على الله، فسرُّ التوكلِ وحقيقتُه: هو اعتمادُ القلبِ على الله، وفعلُ الأسباب المأذون بها، وأعظمُ ما يتجلى هذا المعنى حالَ الدعاء؛ ذلك أن الداعيَ مستعينٌ بالله، مفوضٌ أمرَهُ إليه وحده، كما أنه وسيلة لكِبَرِ النفس، وعلو الهمة؛ لأن الداعيَ يأوي إلى ركن شديدٍ ينزل به حاجاتِه، ويستعين به في كافّة أموره؛ وبهذا يتخلص من أَسْر الخلق ورقِّهم، ويقطعُ الطمعَ عما في أيديهم، وهذا هو عين عِزِّهِ وفلاحِه قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: “وكلّما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته، لقضاء حاجته، ودفع ضرورته؛ قويت عبوديتُه له، وحريته مما سواه؛ فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديتَه له؛ فَيأْسُهُ منه يوجب غنى قلبه”.

والدعاء سلامة من العجز، ودليل على الكَياسة قال النبي : أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام6.

ومن فضائل الدعاء: أن ثمرته مضمونة – بإذن الله – قال النبي : ما من أحد يدعو بدعاء إلا آتاه الله ما سأل، أو كفّ عنه من سوء مثلَه؛ ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم7، وقال : ما من مؤمنٍ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لله يسأله مسألةً إلا أعطاه الله إياها، إما عجّلها له في الدنيا، وإما أخرها له في الآخرة، ما لم يعجل قالوا: يا رسول الله وما عَجَلَتُه؟ قال: يقول: دعوت ودعوت، ولا أراه يُستجاب لي8، ففي هذين الحديثين وما في معناهما؛ دليل على أن دعاء المسلم لا يُهمل، بل يُعطى ما سأله إما مُعجلاً، وإما مُؤجلاً، قال ابن حجر – رحمه الله -: “كلُّ داعٍ يُستجاب له، لكن تتنوع الإجابة؛ فتارةً تقع بعين ما دعا به، وتارةً بعِوَضِه”.

ومن فضائل الدعاء: أنه سبب لدفع البلاء قبل حلوله، ورفعه بعد نزوله قال النبي : لا يغنى حذرٌ من قدرٍ، وإن الدعاءَ ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن الدعاء ليلقى البلاءَ فيعتلجان إلى يوم القيامة9، ومعنى فيعتلجان أي: يتصارعان، ويتدافعان؛ لأنه يفتح للعبد بابَ المناجاةِ ولذائذَها، قال بعضُ العُبَّادِ: “إنه ليكون لي حاجةٌ إلى الله فأسأله إياها، فَيَفْتَحُ عَلَيَّ من مناجاتهِ، ومعرفتهِ، والتذللِ لَهُ، والتملقِ بين يديه؛ ما أحب معه أن يؤخَّر عني قضاؤها، وتدومَ لي تلك الحال”، كما أنه من أعظم أسباب الثبات والنصر على الأعداء قال – تعالى – عن طالوت وجنوده لما برزوا لجالوت وجنوده: وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ10، فماذا كانت النتيجة؟ فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت.

ومن فضائل الدعاء: أنه مَفْزَعُ المظلومين، ومَلْجَأُ المستضعفين؛ فالمظلوم أو المستضعف إذا انقطعت به الأسباب، وأغلقت في وجهه الأبواب، ولم يجد من يرفع عنه مظلمته، ويعينه على دفع ضرورته، ثم رفع يديه إلى السماء، وبث إلى الجبار العظيم شكواه؛ نصره الله، وأعزه، وانتقم له ولو بعد حين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. 


1 سورة البقرة (186).

2 سورة غافر (60).

3 رواه الترمذي برقم (1479) وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني.

4 رواه الترمذي برقم (3370)، وصححه الألباني.

5 أخرجه الترمذيُّ برقم (3373)، وحسنه الألباني.

6 رواه ابن حبان برقم (4498)، وقال الارنأووط صحيح على شرط مسلم.

7 رواه الترمذي برقم (3573)، وحسنه الألباني.

8 أخرجه أحمد برقم (9409)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1632).

9 أخرجه الحاكم في المستدرك برقم (1813)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

10 سورة البقرة (250).