صوم الجوارح

صوم الجوارح

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:

الصيام عند المسلمين معروف على أنه ترك المفطرات من أكل وشرب وجماع وغير ذلك من وقت طلوع الفجر الصادق إلى وقت مغيب الشمس، فيتحرز الصائم أن يصيب شيئاً من ذلك؛ محافظة على صيامه ألا يُجرَح.

لكن هناك سؤال يطرح: هل الصوم يكون عن المفطرات الحسية فقط أم أنه أكثر من ذلك؟

إن الصوم معنى عظيم من معاني العبودية لله رب العالمين، الذي يكون فيه التسليم الكامل لله – عز وجل -، وهو امتثال أمره في ذلك، وقد أمرنا بالصيام فقال – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}1.

وصومنا هو كأي فريضة افترضها الله – تعالى – علينا؛ ولننظر فيه إلى قول الله – تعالى – وقول رسولنا – صلى الله عليه وسلم -؛ فهما المبينان للشريعة، وكما أن الله – عز وجل – أمر بالصلاة بقوله: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ}2، وكان الأمر إجمالي، ثم جاء الخطاب من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليبين لنا كيفية الصلاة، فإن الصيام أيضاً قد جاء الأمر به من الله – تعالى – أولاً، ثم جاء البيان من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في كيفية الصيام تالياً، فما هي الصفة الصحيحة لذلك؟

من ذلك ما جاء عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))3، ومن هذا الحديث يتبين أن الصوم لابد أن يحصل فيه تزكية النفس وصلاحها؛ وإلا فلا طائل من ترك الطعام والشراب، وقد جاء في الفتح: "وقال البيضاوي: ليس المقصود من شرعية الصوم نفس الجوع والعطش؛ بل ما يتبعه من كسر الشهوات، وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة؛ فإذا لم يحصل ذلك؛ لا ينظر الله إليه نظر القبول، فقوله (ليس لله حاجة) مجاز عن عدم القبول؛ فنفى السبب، وأراد المسبب، والله أعلم"4.

فالصوم فعل خير وبر، وقد يفعله كل أحد، بينما ترك النواهي لا يفعله إلا من وفقه الله – تعالى – يقول صاحب عمدة القاري: "ويكون معناه: أن من لم يدع قول الزور والعمل به؛ الذي هو من أكبر الكبائر، وهو متلبس به، فماذا يصنع بصومه؟ وذلك كما يقال: أفعال البر يفعلها البر والفاجر، ولا يجتنب النواهي إلاَّ صدِّيق، ويحتمل أن يكون المراد: من لم يدع ذلك في حال تلبسه بالصوم"5.

وجاء في حديث آخر بيان أن الصوم ليس صوم البطن والفرج فقط؛ بل صوم الجوارح أيضاً؛ فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أصبح أحدكم يوماً صائماً؛ فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم))6 قال ابن حجر – رحمه الله تعالى -: "فلا يرفث..الخ: ويرفث بالضم والكسر، ويجوز في ماضيه التثليث، والمراد بالرفث هنا – وهو بفتح الراء والفاء ثم المثلثة -: الكلام الفاحش، وهو يطلق على هذا، وعلى الجماع، وعلى مقدماته، وعلى ذكره مع النساء أو مطلقاً، ويحتمل أن يكون لما هو أعم منها، قوله: ولا يجهل: أي لا يفعل شيئاً من أفعال أهل الجهل كالصياح والسفه، ونحو ذلك"7.

وليس ترك هذه المحرمات في رمضان فقط؛ لكنه يكون آكد في هذا الشهر الكريم قال ابن حجر – رحمه الله تعالى -: "قال القرطبي: لا يفهم من هذا أن غير الصوم يباح فيه ما ذكر؛ وإنما المراد: أن المنع من ذلك يتأكد بالصوم"8، فلا يعني ذلك أن الذي يرفث أو يفسق يفطر إن كان صائماً، لا ولكن يسقط أجر صومه، قال الأوزاعي: "يفطر السب والغيبة؛ فقيل: معناه أنه يصير في حكم المفطر في سقوط الأجر؛ لا أنه يفطر حقيقة انتهى كلامه"9، وقال ابن حجر – رحمه الله تعالى -: "واستدل به على أن هذه الأفعال تنقص الصوم، وتعقب بأنها صغائر تكفر باجتناب الكبائر، وأجاب السبكي الكبير: بأن في حديث الباب والذي مضى في أول الصوم دلالة قوية للأول؛ لأن الرفث والصخب وقول الزور والعمل به؛ مما علم النهى عنه مطلقاً؛ والصوم مأمور به مطلقاً، فلو كانت هذه الأمور إذا حصلت فيه لم يتاثر بها؛ لم يكن لذكرها فيه مشروطة فيه معنى يفهمه، فلما ذكرت في هذين الحديثين نبهتنا على أمرين:

أحدهما: زيادة قبحها في الصوم على غيرها.

والثاني: البحث على سلامة الصوم عنها، وأن سلامته منها صفة كمال فيه، وقوة الكلام تقتضي أن يقبح ذلك لأجل الصوم؛ فمقتضى ذلك أن الصوم يكمل بالسلامة عنها، قال: فإذا لم يسلم عنها نقص، ثم قال: ولا شك أن التكاليف قد ترد بأشياء، وينبه بها على أخرى بطريق الإشارة، وليس المقصود من الصوم العدم المحض كما في المنهيات؛ لأنه يشترط له النية بالإجماع، ولعل القصد به في الأصل الإمساك عن جميع المخالفات؛ لكن لما كان ذلك يشق؛ خفف الله، وأمر بالإمساك عن المفطرات، ونبه الغافل بذلك على الإمساك عن المخالفات، وأرشد إلى ذلك ما تضمنته أحاديث المبين عن الله مراده؛ فيكون اجتناب المفطرات واجباً، واجتناب ما عداها من المخالفات من المكملات، والله أعلم"10.

وجعل بعضهم الصوم على أنوع: صوم العموم، صوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص؛ فقد جاء المستطرف: "قيل الصوم عموم وخصوص، وخصوص الخصوص؛ فصوم العموم: هو كف البطن والفرج، وسائر الجوارح عن قصد الشهوة، وصوم الخصوص: هو كف السمع والبصر، واللسان واليد، والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، وصوم خصوص الخصوص: هو صوم القلب عن الهمم الدنية، وكفه عما سوى الله بالكلية"11.

فمن كل ما سبق علمنا أن الصوم ليس مقصوراً على ترك الطعام والشراب فقط؛ بل لا بد من ترك سائر المحرمات، سواء ما كان منها متعلق باللسان، أو بالبصر، أو بالسمع، أو باليد، أو بالرجل، فنترك كل ما يخدش صومنا، وذلك لا يكون إلا بصوم الجوارح.

اللهم تقبل صيامنا وقيامنا، اللهم اجعلنا من أهل ليلة القدر، وادخلنا بواسع رحمتك، اللهم تب علينا إنك أنت التواب الحليم، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، والحمد لله رب العالمين.


 


1 سورة البقرة (183).

2 سورة البقرة (43).

3 البخاري (1903).

4 فتح الباري (4/117).

5 عمدة القاري (10/276).

6مسلم (1941).

7 فتح الباري (4/104).

8 نفس المصدر.

9 نقله صاحب عمدة القاري (10/258).

10 الفتح (4/117- 118).

11 المستطرف (1/28).