الاعتكاف في سطح المسجد ورحبته

الاعتكاف في سطح المسجد ورحبته

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ثم أما بعد:

فإن الاعتكاف للعبادة والطاعة أياماً في شهر رمضان من الأعمال المستحبة التي يتفرغ فيها الإنسان للزاد الأخروي.. والاعتكاف سنة فعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- وفعلها الصالحون من بعده، وما زال الناس على ذلك إلى عصرنا هذا، وتتعلق بالاعتكاف أحكام عديدة.. من ذلك المكان الذي يعتكف فيه.. وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قدوتنا في أعمال الدين والشرع الحنيف فإنه -صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف في مسجده, وكذا أزواجه, فأخذ من ذلك اختصاص الاعتكاف بالمساجد, وأنه لا يجوز في مسجد البيت, وفي الصحيح عن نافع: “وَقَدْ أَرَانِي عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَكَانَ الَّذِي كَانَ يَعْتَكِفُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَسْجِدِ”1. وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وداود والجمهور, ولكن هل يصح الاعتكاف في سطح المسجد ورحبته؟

نتأمل إجابة هذا التساؤل من خلال كلام العلماء رحمهم الله تعالى، والذين هم منارات في الأرض يتبصر بأقوالهم أولو الألباب: قال الحافظ العراقي: “قال أصحابنا ويصح أي: الاعتكاف في سطح المسجد ورحبته”2، وقال ابن الصلاح: إن الشارع جعل سطح المسجد بمنزلة قراره في الحكم دون التسمية، ألا ترى أنه لو كان في المسجد بيت كان حكم سطحه حكمه؟3.

قال السرخسي: “وصعود المعتكف على المئذنة لا يفسد اعتكافه، أما إذا كان باب المئذنة في المسجد فهو والصعود على سطح المسجد سواء، وإن كان بابها خارج المسجد فكذلك من أصحابنا من يقول: هذا قولهما, فأما عند أبي حنيفة -رضي الله عنه- فينبني أن يفسد اعتكافه للخروج من المسجد من غير ضرورة”4. والشاهد فيه قوله: “فهو والصعود على سطح المسجد سواء” يريد أنه لا يفسد به الاعتكاف.

وقال العيني: “ومن حلف لا يدخل هذه الدار فوقف على سطحها حنث؛ لأن السطح من الدار؛ ألا ترى أن المعتكف لا يفسد اعتكافه بالخروج إلى سطح المسجد.5

وقال ابن الهمام: “وتكره المجامعة فوق المسجد والبول والتخلي؛ لأن سطح المسجد له حكم المسجد حتى يصح الاقتداء منه بمن تحته، ولا يبطل الاعتكاف بالصعود إليه، ولا يحل للجنب الوقوف عليه6.

وقال الزيلعي: “الواقف على سطح الدار هو داخل الدار حتى لو حلف لا يدخل دار فلان فوقف على السطح يحنث؛ لأن السطح من الدار, ألا ترى أن لسطح المسجد حكم المسجد حتى لا يبطل الاعتكاف بالصعود عليه, ولا يجوز للجنب والحائض الوقوف عليه ولا يجوز التخلي فيه7.

ونقل الكاساني عن ابن رستم عن محمد: ولو حلف لا يدخل هذا المسجد فصعد فوقه حنث؛ لأن سطح المسجد من المسجد؛ ألا ترى لو انتقل المعتكف إليه لا يبطل اعتكافه؟ فإن كان فوق المسجد مسكن لا يحنث؛ لأن ذلك ليس بمسجد ولو انتقل المعتكف إليه بطل اعتكافه8.

وقال النووي: “قال أصحابنا: ويصح الاعتكاف في سطح المسجد ورحبته بلا خلاف؛ لأنهما منه9، وعند الحنابلة يصح الاعتكاف في سطح المسجد”10، وقال ابن قدامة: “ويجوز للمعتكف صعود سطح المسجد; لأنه من جملته, ولهذا يمنع الجنب من اللبث فيه، وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي, ولا نعلم فيه مخالفاً، ويجوز أن يبيت فيه.

وظاهر كلام الخرقي أن رحبة المسجد ليست منه، وليس للمعتكف الخروج إليها، لقوله في الحائض: يضرب لها خباء في الرحبة والحائض ممنوعة من المسجد، وقد روي عن أحمد ما يدل على هذا، وروى عنه المروذي: أن المعتكف يخرج إلى رحبة المسجد، فهي من المسجد.

وقال القاضي: إن كان عليها حائط وباب فهي كالمسجد; لأنها معه وتابعة له، وإن لم تكن محوطة لم يثبت لها حكم المسجد، فكأنه جمع بين الروايتين، وحملهما على اختلاف الحالين”11.

وقال الشيخ محمد الشنقيطي: “إذا كان أي: الصعود إلى سطح المسجد من داخل المسجد أو السلالم المرتبطة بداخل المسجد لم يؤثر، أما إذا كان في صعوده يحتاج أن يخرج من باب المسجد حتى يصعد من باب خاص من المصاعد فهذا يؤثر؛ ولذلك ينبغي أن يفصل في مسألة الصعود بهذا التفصيل؛ لأنه يكون في هذه الحالة قد خرج من المسجد، والأصل في المعتكف أن لا يخرج”12.

ومما سبق من كلام العلماء يتلخص لنا ما يلي:

أولاً: سطح المسجد من المسجد، فيصح الصعود إليه إن كان الوصول إليه لا يحتاج إلى الخروج من المسجد، وأما إن كان لا يمكن أن يتوصل إليه إلا بالخروج فالأحوط عدم الصعود عليه إلا لضرورة.

ثانياً: اشترط البعض في رحبة المسجد التي يصح خروج المعتكف إليها أن يكون لها حائط وباب، ولو ترك الخروج إليها احتياطاً وخروجاً من الخلاف فهو أولى.

هذا ما يمكن الكلام عليه في هذا الموضوع.. والله أعلم.  


1 رواه مسلم (1171).

2 طرح التثريب للحافظ العراقي (ج 5/ ص 168).

3 فتاوى الرملي (4/257).

4 المبسوط للسرخسي (ج 3 / ص 125).

5 العناية شرح الهداية لأبي محمد محمود بن أحمد العيني (ج 7 / ص 1).

6 فتح القدير لالكمال بن الهمام (ج 2 / ص 337).

7 تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق لللإمام عثمان الزيلعي (ج 8 / ص 141).

8 بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني (ج6 / ص 324).

9 المجموع للنووي (ج 6 / ص 480).

10 المجموع (ج 18 / ص 48).

11 المغني لابن قدامة (ج 6 / ص 228)..

12 موقع طريق الإسلام.