موانع الهداية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن أغلى ما سعى إلى تحصيله الموفقون، وأفضل ما تسابق إليه المتسابقون: سلوك طريق المهتدين بدءاً من الأنبياء والمرسلين، ثم سائر عباد الله الصالحين؛ ذلك أن الهداية ميزة وخصيصة يختص بها الله من شاء من خلقه، ولا يمكن لأي أحد يحصل عليها إلا بتوفيق الله، وبذل هذا الإنسان للأسباب الجالبة لها. فالهداية لا يمكن لأصحاب المليارات أن يحصلوا عليها، ولا يمكن لأصحاب الثروات الطائلة أن يمتلكوها، ولا يمكن لأصحاب الجاه والرياسة والسلطان أن يحصلوها إلا من وفقه الله تبارك وتعالى فعمل الأسباب الجالبة لها.
بل لا يمكن لأحد من البشر أن يهدي أحداً من أقاربه وأحبابه؛ حتى الأنبياء والرسل لا يمكنهم أن يهدوا من شاءوا وأحبوا؛ فهذا نبي الرحمة كان حريصاً على هداية عمه وإسلامه، ولكنه لم يسلم، بل مات على ملة آبائه وأجداده، قال الله تعالى مخاطباً نبيه: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} سورة القصص(56).
فالهداية غالية، لم يوفق لها إلا من كان أهلاً لها، ولذلك فإن الكفار لم يوفقوا للهداية؛ لأنهم لم يسلكوا طريقها، ولم يعملوا الأسباب المحصلة لها، قال الله نافياً عنهم الهداية: {وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}، وقال: {وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وقال: {وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} وغير ذلك من الآيات التي تدل أن الله نفى الهداية عن القوم الكافرين والظالمين والفاسقين. وأما المسلمون فإنهم سلكوا طريق الهداية، وبذلوا الأسباب التي تؤهلهم للحصول عليها، ومن ذلك سؤال الله الهداية في كل ركعة من ركعات صلاتهم، فهم يقولون: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} سورة الفاتحة(6) ذلك أن المسلم لا غنى لها عن هداية الله وتوفيقه، بل هو مفتقر إلى ذلك؛ وهو كذلك بحاجة أن يثبته الله على الهداية، وأن لا يزيغ قلبه؛ يقول ابن كثير-رحمه الله-: “فإن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهداية ورسوخه فيها وتبصره وازدياده منها واستمراره عليها، فإن العبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونة والثبات والتوفيق، فالسعيد من وفقه الله تعالى لسؤاله، فإنه قد تكفل بإجابة الداعي إذا دعاه، ولاسيما المضطر المحتاج المفتقر إليه آناء الليل وأطراف النهار، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ} سورة النساء (136) فقد أمر الذين آمنوا بالإيمان وليس ذلك من باب تحصيل الحاصل؛ لأن المراد الثبات والاستمرار والمداومة على الأعمال المعينة على ذلك، والله أعلم، وقال تعالى آمرا لعباده المؤمنين أن يقولوا: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} سورة آل عمران (8)، وقد كان الصديق -رضي الله عنه- يقرأ بهذه الآية في الركعة الثالثة من صلاة المغرب بعد الفاتحة سراً، فمعنى قوله تعالى: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} استمر بنا عليه ولا تعدل بنا إلى غيره”1.
وقد كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في قنوت الوتر: (اللهم اهدني فيمن هديت..) أي في جملة من هديتم، أو هديته من الأنبياء والأولياء؛ كما قال سيلمان: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} سورة النمل (19)، وعلم نبينا -صلى الله عليه وسلم- هذا الدعاء كذلك أصحابه.. ولكن هناك موانع تمنع الإنسان من أن يسلك طريق الهداية، سواء كانت الهداية من الكفر إلى الإيمان، ومن الشرك إلى التوحيد، أو الهداية من البدعة إلى السنة، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن أخطر هذه الموانع ما يلي: أولاً: ضعف المعرفة، فإن كمال العبد في أمرين: معرفة الحق من الباطل، وإيثار الحق على الباطل، فإن من الناس من يعرف الحق لكن إيثاره على الباطل قد يكون عنده ضعيفا، والجاهل إذا عرف كان قريب الانقياد والاتباع، وبهذا يكون قد قطع نصف الطريق إلى الحق وما بقي عليه إلا قوة العزيمة على الرشد، وقد كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد)2، وهذا السبب هو الذي حال بين كثير من الكفار وبين الإسلام، فإنهم لا يعرفون عنه شيئا، ومع ذلك يكرهونه، وكما قيل: الناس أعداء لما جهلوا.. ومن المؤسف جهل بعض المسلمين بحقيقة هذا الدين، فمنهم من يقول: إذا تبت وأنبت إلى الله وعملت صالحاً ضيق علي رزقي ونكد علي معيشتي، وإذا رجعت إلى المعصية وأعطيت نفسي مرادها جاءني الرزق والعون!! ونحو هذا هو يعبد الله من أجل بطنه وهواه، وإذا حصل مثل هذا فالله يختبر صدق العبد وصبره، فلا إله إلا الله! كم فسد بهذا الاغترار من عابد جاهل، ومتدين لا بصيرة له، ومنتسب إلى العلم لا معرفة له بحقائق الدين، أما قرأت قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} سورة الحج(11)، فسبحان الله! كم صدت هذه الفتنة الكثير عن القيام بحقيقة هذا الدين، والسبب: الجهل بالدين، والجهل بحقيقة النعيم الذي يطلبه ويعمل من أجل أن يصل إليه.. كم نسبة نعيم الدنيا بالنسبة لنعيم الآخرة؟ أما الأوامر والنواهي فهي رحمة وحمية، ونغص الله الدنيا على المؤمنين حتى لا يطمئنوا إليها ويركنوا إليها، وحتى يرغبوا في نعيم الآخرة.. ثانياً: عدم الأهلية، فإنه قد تكون المعرفة تامة لكن يتخلف عنه عدم زكاة المحل وقابليته؛ قال الله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} سورة لأنفال(23) مثل الأرض الصلدة التي يخالطها الماء، فإنه يمتنع النبات فيها لعدم قبولها، فإذا كان القلب قاسياً لم يقبل النصائح، وأبعد القلوب من الله: القلب القاسي، وكذا إذا كان القلب مريضاً، فلا قوة فيه ولا عزيمة، لم يؤثر فيه العلم.
ومن صفات قساة القلوب كما وصفهم الله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} سورة الزمر(45). ثالثاً: الكبر والحسد: وقد فسر النبي -عليه الصلاة والسلام- الكبر بقوله: (الكبر بطر الحق، وغمط الناس)3 فالمتكبر متعصب لقوله وفعله، وذلك هو الذي حمل إبليس على عدم الانقياد للأمر لما أمر بالسجود، وهو داء الأولين والآخرين-إلا من رحم الله-، وبه تخلف اليهود عن الإيمان بالرسول، وقد عرفوه وشاهدوه، وعرفوا صحة نبوته: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} سورة البقرة (146) فذكر سبحانه أنهم يعرفون صفات الرسول كما يعرفون أبناءهم ولكنهم قوم بهت.
وبهذا الداء امتنع عبد الله بن أبي بن سلول عن الإيمان، وبه تخلف الإيمان عن أبي جهل، ولهذا لما سأله رجل عن امتناعه مع أنه يعرف أنه صادق قال: “تسابقنا نحن وبنو هاشم على الشرف حتى إذ ا كنا كفرسي رهان قالوا، منا نبي، فمتى ندركها؟ والله لا نؤمن به!. وكذلك سائر المشركين فإنهم كلهم لم يكونوا يرتابون في صدقه، وأن الحق معه، ولكن حملهم الكبر والحسد على الكفر والعناد. \ رابعاً: مانع الرياسة: ولو لم يكن في صاحبه حسد ولا كبر عن الانقياد للحق لكن لا يمكنه أن يجتمع له الانقياد للحق ملكه ورياسته، فيضن بملكه ورياسته، كحال هرقل وأضرابه، فإنه قال في آخر كلامه مع أبي سفيان: “فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، ولو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه”4 أنه لا يستطيع الوصول إليه لتخوفه على حياته ومملكته من قومه.. وما نجا من هذا الداء -وهو داء أرباب الولاية- إلا من عصم الله كالنجاشي، وغيره. وهذا هو داء فرعون وقومه: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} سورة المؤمنون (47)، وقد قيل: إن فرعون لما أراد متابعة موسى وتصديقه شاور هامان وزيره، فقال له: بينما أنت إله تعبد تصير عبدا تعبد غيرك، فاختار الرياسة على الهداية.
خامساً: ومن موانع الهداية: مانع الشهوة والمال: وهو الذي منع كثيراً من أهل الكتاب من الإيمان خوفاً من بطلان مآكلهم وأموالهم التي تصير إليهم من قومهم، وقد كان كفار قريش يصدون الرجل عن الإيمان بحسب شهوته، فيدخلون عليه منها، فكانوا يقولون لمن يحب الزنا: إنه يحرم الزنا، ويقولون لمن يحب الخمر: إنه يحرم الخمر، وبه صدوا الأعشى الشاعر عن الإسلام، وأخبروه بأنه يحرم الخمر، فرجع وهو في طريقه إلى الرسول، فوقصته ناقته فسقط فمات.
سادساً: مانع محبة الأهل والأقارب والعشيرة: فيرى أنه إذا اتبع الحق وخالفهم أبعدوه وطردوه عنهم، وهذا سبب بقاء خلق كثير من الكفار بين قومهم وأهليهم وعشائرهم، وهذه الحالة تحصل كثيرا بين اليهود والنصارى، وكيف أنهم ينبذون كل من خالف مذهبهم ويعادونه كلهم، مما جعل كثيرا من أبنائهم وممن ينتسب إليهم يتركون الحق بعد معرفته ويعرضون عنه.
ومن يك ذا فم مر مريض ***** يجد مرا به الماء الزلالا
سابعاً: محبة الدار والوطن: وإن لم يكن بها عشيرة ولا أقارب، لكن يرى أن في متابعته للرسول أو أهل الحق الذين اتبعوه فيه خروج عن داره ووطنه إلى دار الغربة، فيضن بوطنه على متابعة الحق أو الدخول في الإسلام بعد تيقنه، ومن قرأ سيرة سلمان وما لاقى من المتاعب في سبيل الوصول إلى الحق علم أي مجاهدة جاهد بها نفسه، وكيف ترك أهله وعشيرته ووطنه وهاجر إلى المدينة، وقد سمي “الباحث عن الحقيقة”، وكذا الأمر في سائر الصحابة الذين تركوا أهلهم وأبناءهم وأموالهم وخرجوا إلى مدينة الرسول يبتغون فضلا من الله ورضوانا، وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون. ثامناً: ومن موانع الهداية: من تخيل أن في الإسلام ومتابعة الرسول إزراء وطعنا منه على آبائه وأجداده، وهذا هو الذي منع أبا طالب وأمثاله عن الإسلام، فرأوا أنهم إذا أسلموا سفهوا أحلام آبائهم وأجدادهم، ولهذا قال أعداء الله لأبي طالب عند الموت: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فكان آخر ما قاله هو على ملة عبد المطلب5 فصدوه عن الحق من هذا الباب، لعلمهم بتعظيمه أباه عبد المطلب. وقد قرر أبو طالب ذلك في شعره فقال: ولقد علمت بأن دين محمد ***** من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة ***** لوجدتني سمحا بذاك مبينا
تاسعاً: متابعة من يعاديه من الناس أو دخوله في الإسلام أو سبقه إليه: وهذا القدر منع كثيرا من اتباع الهدى بعد معرفته، حيث يكون للرجل عدو ويبغض مكانه ولا يحب أرضا يمشي عليها ويقصد مخالفته؛ فيراه قد اتبع الحق فيحمله بغضه له على معاداة الحق وأهله ولو لم يكن بينه وبينهم عداوة، وهذا كما جرى لليهود مع الأنصار فإنهم كانوا أعداءهم وكانوا يتواعدونهم بخروج النبي وأنهم يتبعونه ويقاتلونهم معه، فلما سبقهم الأنصار إليه وأسلموا حملتهم معاداتهم على البقاء على كفرهم ويهوديتهم. عاشرا: مانع الألفة والعادة والمنشأ، وهذا السبب وإن كان أضعف الأسباب معنى فهو أغلبها على الأمم وأرباب المقالات والنحل، وليس من أكثرهم بل جميعهم إلا ما عسى أن يشذ.
ودين العوائد هو الغالب على أكثر الناس، والانتقال عنه كالانتقال من طبيعة إلى طبيعة ثانية، فصلوات الله وسلامه على أنبيائه ورسله خصوصا على خاتمهم وأفضلهم محمد، وكيف غيروا عادات الأمم الباطلة ونقلوهم إلى الإيمان حتى استحدثوا به طبيعة ثانية خرجوا بها عن عاداتهم وطبيعتهم الفاسدة المتمثلة في قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} سورة الزخرف (23)، ولا يعلم مشقة هذا على النفوس إلا من زاول تقل رجل واحد عن دينه ومقالته إلى الحق، فجزى الله المرسلين أفضل ما جزى به أحدا من العالمين6. أخي المسلم: إن مما يجب عيك أن تعلمه أن هذه الموانع ليست موانع شرعية تمنع الإنسان من الهداية، ومن طلبها وسلوك طريقها، وإنما هي موانع استقيناها من خلال نصوص الكتاب والسنة، ومن خلال واقع الناس، وبقدرة الإنسان التخلص من كل تلك الموانع إذا أراد لنفسه النجاة من عذاب الله والفوز برضاه .. وكذلك يجب على المسلم أن يبتعد عن كل مانع يمنعه من سلوك طريق الهداية، وعليه أن يطلب الهداية ويبحث عنها كما يطلب الماء والغذاء والدواء بأن يبذل الأسباب المحصلة لها، والمثبتة عليها.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. سبحانك الله وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.